1- توطئة: -هذا الاشتغال هو تركيبة بنائية وتمركز إبداعي سردي، أثثته الدراسة بغاية بلورة تجربة نقدية في منتوج القاص إسماعيل البويحياوي.. وقد اتخذت القصة القصيرة جدا، نموذجا إبداعيا ل«تجربة/مشروع» متكامل.. فالإبداع الأدبي، ك«ماهية» ذاتية وعرفانية، يجب أن يصعد إلى مستوى تجسيد «رؤية»، تطمح لأن ترفع منتوجها إلى الانصهار في سيرورة «التاريخ الأدبي» العام.. وإذا لم يكن كذلك فهو مجرد أعمال تبقى مندثرة لا صدى لها. 2- التجربة الإبداعية: -إنها هنا منظومة متكاملة، تناسجت فيها عناصرها الإبداعية ككل.. وهي حالة مفارقة بين مفهومي كل من «التجربة» و«التجريب».. هكذا نجد تركيبة بأربعة عناوين كبرى لقصص توزعت بشكل مترابط ومتنامي، في تمفصلات متجانسة..وهي: «أشرب وميض الحبر»، (ب59 نصا، طبعت سنة 2008)- «الطوفان»، (ب 40 نصا، سنة 2009)- «قطف الأحلام»، (ب50 نصا، سنة 2010)- ثم «ندف الروح»، (ب 55 نصا، سنة 2011).. ويلاحظ أن التكثيف في الطباعة والنشر، لهذه المجموعات، زمني بالدرجة الأولى بمعنى «حوليات». أي أن مسار العمل الإبداعي فيها متلاحق/متقارب، مما يدل على نشأة تكوينية تطورية، وأن «التجربة» كمشروع هي وحدة متراصة، يمكن الاصطلاح عليها ب«سيرة ذات قص». 3- المنهجية: -ارتأى البحث هنا، إلى جانب تتبع النهج البنائي ككل، توظيف مدرستين تستدعي الواحدة منهما قراءة تفكيكية للمكون السردي، يتبعها تحليل ممحص، فتأويل لكل ظروف وعوامل الإنجاز الإبداعي، كما هو في المدرسة الهرمنيوطيقية مع هانز غادامير*1، وفق ما يسميه ب«الدائرة التأويلية».. ثم قراءة سيميائية بأدواتها، الدال والمدلول والميتانص وعتباته، مع رولان بارث وجيرار جنيت وغيرهما*2.. غير أن هذا المنهاج، بشقيه البنائي والتوظيفي، قد تم تبنيه، لاستجابته لهذه الدراسة المنقبة في سيرورة المنجز،وقد أملته خاصة رؤية مستنبطة، دعمتها محصلة «نص» عام تتفاعل مكوناته، في علاقة بين ظاهره وباطنه، لغة وسردا وحكيا وذاتا، أي بين «الاحتوائية» و«التجوهر»، بمعنى حمولة نص وكمون خطاب .. فإلى أي حد سيتبلور هذا المشروع، في اتجاه التمركز الرؤيوي؟ 4- دائرة الكتابة ومحيطها: -القادم المفترض إذن،هو إطار يمثل،في هذه التجربة/المشروع، روافد احتوائية لجوهر الأضمومة القطبية «قطف الأحلام»، من خلال المجموعات التالية: 1-4) «أشرب وميض الحبر»: -إنها مدخل لرؤية اعتمدها المؤلف في السياق الترتيبي، حيث تجلي عن انطلاقة لسيرة كتابة إبداعية، مركزة على القص المحض بحمولته اللغوية، للتشبع بالارتواء من معين الومض الحبري.. ولقد استهل المبدع هنا، هذه المجموعة لديه، بتقديمه لمواصفات القصة المشروع، والمراد بناؤها إحقاقا لتجربته الإبداعية، فأجمل ذلك فيما يلي، بعد سؤال محاوره، على ص.5: (ماذا تريد من قصتك أيها القاص المغربي؟).. فأجاب، والجواب هنا، سيوجز: [أريدها نصا قصصيا شعريا قصيرة جدا جدا، مشعة بمعان ودلالات ومقاصد كبيرة جدا جدا. الأقل المكثف الذي يقول الكثير الشاسع، عن سبق اشتغال وترصد، مطاولة لوهج الحدث وبلاغة الكلمة والصورة ووميض الحقيقة]. وها هو السارد يدعو نفسه إلى اختياره المحتم .إذ يقول، على ص.64 في نص «طلاق»: [بمجرد ما لامس المخدة وجد نفسه برأسين.رأس معتكفة في غياهب النوم، ورأس تداعب قصة قصيرة جدا.. لعن الظلام وراقص نور القلم حتى استقامت قصيصته.. قبلته نسائم يوم جديد، لكن الهامة النائمة ترفض الالتحام بالهامة الكاتبة.. طلق الغافية وعاش حياته برأس قصة قصيرة جد]. 2-4) «الطوفان»: -إنه عنوان طافح، يوحي بتضخيم الإبداع واكتظاظه.. غير أن الظاهر هو قليل حبر يتحول إلى وميض ساطع، يغرق العين القارئة في مجال فيض ضوئي شاسع، فيغمر الصفحة بسواد حبري وبياض ورقي*3، بدءا من العنوان إلى أسفل النص لتحقيق «القص» المرغوب تخييلا وتكثيفا وحلما..إن هذه المجموعة، وبحكم موقعها في المنتوج الكتابي، هي الجسر الواصل بين السابق واللاحق.. إنها مرحلة أعادت النظر في سابقتها، نحو تطوير أسلوب كتابي وبري جنس قصصي، حيث قلبت قواعد اللعب، دون تجاوز اللغة القوية منذ بدء القص، من سرد اللغة إلى لغة السرد، على أساس قاعدة «النفري» البلاغية*4: «كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤيا».. هكذا يتأثث النص القصصي بصورة تقنية، بإيماءة من فقرة «إهداء»، على ص.5، كنص «سردي»، متصدر لكل محتوى المجموعة، ووفق ما هو معتاد من طرف كل مؤلف يقبل على طبع مؤلفه، ليبشر بنموذج القص القادم، كشعار معلن، على صفحات الجوار، فيقول بصيغة «التقديس»: [وأنا، على صهوة عقرب ساعتي الأسرع، أطوف كعبتك يا سؤالي]. وهكذا تم الانتقال من استكمال اللغة الوارفة، إلى استكمال السرد بإيجاز موسع. 3-4) «ندف الروح»: -هذه المجموعة استقت من سابقتيها، سيولات وميض الحبر وطوفان التخييل، واستحلبت منهما منظومتها الأسلوبية، لغة وسردا وتجنيسا،بتقنية الروي، كاشفة عن ذاكرة الكاتب الحكائية وحركية المؤلف الإنتاجية، ليتحول الكل إلى مسرود إبداعي، له وقعه في هذه التجربة/المشروع… لقد أمنها الكاتب أسراره ليحيي سيرته الذاتية، كنص نوعي متجذر في متن الكتابة،يوثق لما قبل القص.. فليس لنصوصها سارد غير ذاكرة «سميعين»، الطفل الذي هو في واقع المبدع إسماعيل البويحياوي قد تجوهر، عبر حكاياه، ومبكرا قبل صباه، مع سارده «الجنيني»، الذي ينبعث من ثنايا الذات، مع مراحل سنوات التكوين الحياتي. وكان من المحتمل لهذا الفضاء الحكائي، أن يعلن عن نفسه قبلا..إذ هو حاضر في ترصيص العملية الإبداعية لهذه التجربة/المشروع، تطعيما وترسيخا ب/ل «ذاكرة» حلم سيتبلور في نصوص «قطف الأحلام».. مما يدل على حضور قاص تنشأ منذ هذه الجنينية على ذائقته.. فقد كانت مكتسباته إلهاما أنطولوجيا، اختمرت لديه…يقول الكاتب في بيان حقيقة على هامش نص «سقوط»، ص.19: (أعتبر مرحلتي الجنينية جزءا من سيرتي الذاتية)..ثم يزيد معلقا على صورة الغلاف بالدفة الثانية للمجموعة: (هذه النافذة متحف لكثير من ندف روحي..هنا صرخة ولادتي، هنا حبوي، طفولتي، ختاني، عائلتي.هنا ندف حياة،هنا عناقيد موت). والمثال دون حصر، من نص «حريق»، ص.16.. يقول النص: [رباط دوار الكرعة 1965.. كنت في حجرها. رفعت بصري.. عيناها فارغتان من أمي التي في.. ألسنة لهب وشياطين ورعب تتراقص في مقلتيها..أبي عملاق يقتحم سحائب الدخان.. يضع رزما قربنا.. أشباح رجال ونساء وأطفال وصراخ طافحة في جنح خوفي. يلمني أبي بين جناحيه. يمسح عيني .تغيظ الشياطين.. تبتسم براكتنا، وأعثر على شون أمي.*5].. هكذا كان الطفل يتفاعل مع هواجسه والسارد مع حلمه،وذاك ما تشهد به أجواء كل النص.وقد جاء في خلاصة بالدفة الأخيرة، تقديم للناقد نجيب العوفي، كما يلي: (-إنها سيرة ذاتية «مشذرة» أو بالأحرى «مقطرة» في قصص قصيرة جدا،هي قطرات زلالية عذاب، يرشفها القارئ بمتعة حكائية كبيرة.. و«ندف الروح»، ليست رجع صدى لسيرة الذات فحسب، في تفاصيلها ومفرداتها الحميمية الصغرى، بل هي أيضا وتبعا، رجع صدى لمرحلة تاريخية برمتها،في تفاعلاتها وعلاماتها الكبرى، لكن بأسلوب «الجليد العائم» الذي يضمر أكثر مما يظهر.)*6… +الشطر الثاني: مشروع خطاب 1-مدخل رابط: – توصلت الدراسة، خلال اطلاعها الرؤيوي العام، إلى أن «ندف الروح» تتواجد في «قطف الأحلام» بروح الذاكرة وتيمة الحلم،حيث راكمتا اكتمالهما عبر ما سبق وأعدتا حصيلتيهما لما هو لاحق.. من هنا سنتأمل إشارات النص الأخير في مجموعة «ندف الروح»، بعنوان «البعث»، على ص67، إذ يقول: [سيخبركم سارد السراد أن رواة سيرتي/سيرتكم الشعبية. سيحكون يومها بأياديهم. سيكسرون أغلالا، ويحطمون بلدانا.سيقيدون حكاما، ويبيدون حضارات. لحظتها ستقطر منكم رغباتكم وأحلامكم وتبعثون ليوم ما بعد الحكاية].. فإلى أي حد، سيحقق الخطاب المرتقب رهاناته؟ 2- الإطار العام: 1-2) فعل النص: -لقد صار مؤكدا أن مجموعة «قطف الأحلام» هي قطب متجوهر في محيطها الثلاثي.. فبعد المراحل التي اجتازها النص العام، ضمن التجربة/المشروع، مع الأضمومات الثلاثة سابقا، اكتملت لديها ضمنيا حركية تداولية، بين لغة نصصت نفسها، وسرد احتوائي، وذات أنواتية، وحلم متجوهر.. فكل نص مقطوف هنا، إلا ويحكي لقارئه حلمه، فينتصب الخطاب بزخم من الإلهامات الحالمة… مما يجعل «النص ينفلت من كل تأويل نهائي»*7. 2-2) فعل الخطاب: – إن الخطاب كمفهوم، هو متعدد.. والدراسة هنا تقترح أشهر المفاهيم التي تسعف رؤيتها: أ) فالخطاب لدى ميشيل فوكو، بالمفهوم الفلسفي، عبارة عن «سلطة»، قد تكون سياسية أو اجتماعية أو فكرية أو غير ذلك*8.. وبهذا فهو يفرض نفسه على النص. ب) أما عند اللساني «فان ديك» (Van Dijck)، فالنص وحدة مجردة،لا تتجسد إلا من خلال الخطاب، كفاعلية تواصلية.*9..فالنص يصير هو الحامل للخطاب، أو دالا عليه. ج) وعلى مستوى «لغة السرد»، يرى سعيد يقطين أن العلاقة متطابقة بين النص والخطاب، انطلاقا من الرأي الذي يرى أنهما، أي الخطاب والنص، وجهان لعملة واحدة،تسمى النص كما تسمى الخطاب..وليس الخطاب إذن عند يقطين سوى الطريقة التي تقدم بها المادة الحكائية، في الرواية مثلا*10..وبهذا فالخطاب يتحدد بنوعية القراءة. -الدراسة ستقتفي هنا أثر بناء مضامين خطابية، تفرض سلطاتها تارة، وتداولياتها تارة أخرى، مع/وفي النص، حيث تجمعت الذوات الكلية، منذ نشأة القص «البويحياوي»، وسارده وأناواته… ولذلك فهي تتحرك لاستشفاف المنظور الكلي.. من هنا فالخطاب هو ما يمثل بشكل طموح «الرهان»، في نظر هذه الدراسة التي تعمل على توليد رؤى نوعية، موحدة لأكبر قدر من النصوص المتكتلة.. إذ تشغل دينامية المعنى، توظيفا للأنشطة المحتملة في مشروع خطابي واعد.. فمن هذا المنطلق النقدي، يصير الخطاب قابلا لأن يفسر ويؤول بتوسع في غمار «الحلم».. وقد قام الكاتب/المبدع ضمنيا بتنوير هذا الإنجاز وإثرائه، عبر تلميح مساعد يعتد شكلا، ب«اللاشعور» الفرويدي في التحليل لتجوهره، وب«منهج» ابن سيرين في التفسير لاحتوائيته.. فالحلم هنا هو حكي يتضمن معنى، إما دلاليا أو تأويليا. وهكذا تقر الدراسة بأن للنص حمولة احتوائية على مستوى صورته، وما ينوع من منظوره الخطابي هو التجوهر وفق كل رؤيا ذاتية… فما يدل على ذلك ويؤكده،ما جاء في نص «شكوى»على ص.46، فيقول: [تلك الحلمة المتبرجة في نومي/تلك الحلمة الكاشفة عن ساقيها، /رأت كابوسا/ابن سيرين يفرك أعضاءه التأويلية، /وفرويد يمسد قضيب اللاوعي /………/تلك الحلمة، /تلك الحلمة تطفئ رغبتها في/وتلوذ بالشخير] 3- تفكيك الخطاب إلى مستوياته: -إن الخطاب الكلي بتخايطه، في نسيج مجموعة «قطف الأحلام»، يحتم على الدراسة تدليل تركيبة هذه المجموعة، وفرز نصوصها إلى مستويات، تراكم سيرة خطاب، عبر تكتلات متمفصلة، رصصت أحلامها، كل في متن خاص.. وسيكون هناك نص على رأس كل كتلة، يوحد الجوار، وينشط الحلم، ويفتح آفاقه، لربط كتله بخطاب منمذج لديها، كالتالي: *المستوى الأول: النضال المستميث، إبداعا ومقاومة -(بوح – جريمة – إدراك – احتراق – حلم – الحال).. كتلة نصوص تتصدر سردية «قطف الأحلام»، بحضور أهم عناصر النص المتخايطة فيه، وهي (الأنا – الحلم – القص)، ضمن حركة نضالية لحلم مستميث، يناصر الضوء ويقاوم ظلام.. ويتقدم نص «بوح»، على ص.13، بغاية لتأطير نصوص جواره، فيحكي: [ومن عجيب ما يقع لي أنني أحلمني كلمة «أنا» صغيرة أنتفخ وأنتفخ وأتوالد وأتشتت حتى نبتت بين حروفي ملايير السنين الضوئية.. يرفعني الألف إلى سدرة الضوء أشع بين النجوم كما الملائكة.. تغمسني النون في جذر الظلام أسري في الغياهب كما الشياطين..]. المستوى الثاني: ثورة عصيان، لإيقاظ الوعي الحلمي – «الشخدة»، وتعني الرقص الجنوني… فهو نص ثائر ومتمرد، يحكي عصيانه على ص.19 كما يلي: [في أتون الظلام تلاطمت كوابيسي..كنت متضخم الطاعة..كما القدر الزعاف.. يسددني سيدي على المختلفين جوعا سلبا غصبا قتلا تكفيرا بلا نظير..ومن ولائي الأعمى لذا الظلام أدركتني حلاوة العصيان.. تحررت.. لا لا قلت..فتآمروا فكشكشت أشتف على سوط سيدي.أحلق في سرب التنوير نغرس الرياحين في كراسي الموت].. هكذا سيتحول عصيان ثلاثي النص، (الأنا-الحلم-القص)، إلى قوة يقظة ضد كوابيس، لا تتوانى عن إجهاض أحلام نصوص هذا المستوى، وهي: (الشخدة- عطش- فصاحة). *المستوى الثالث: ثورة تواقة إلى دفن «الماضي» بجوره – أما نصوص الكتلة التالية: (أضغاث-أركيولوجيا رؤيا- الوطن- الفيلم.)، فقد تبنت تكملة الدور النضالي لما سبق، بثورة محرضة، لتجاوز كوابيس عاشتها العهود الفارطة من استبداد ماضوي مذل لا زال قائما.. فلنصغي إلى نص «أضغاث»، ص.22، حيث يقول: [وأذلك الحاكم الظالم والجوع العارم، فتوضأت، وصليت، وأقمت الليل. وعند بؤبؤ الفجر تجلى لك اليقين من منامات السلف الصالح. إثرها تهللت أساريرك وأنت تهوي من رحم رؤاك تمضغ/أ ل ف س ؤ ا ل…].. وهكذا تم تفكيك رواسب الطغيان، بدءا من أركيولوجيا أضغاث إلى انفراج رؤيا، حسمت في هزم جد القبيلة، وأعلت الوطن… *المستوى الرابع: زحف على طغاة «اللاحلم» -هنا يبرز أيضا ثلاثي الذات الساردة: (الأنا-الحلم-القص)، لتطيح بهامات تعاكس قيم الأحلام عبر ترميز سوريالي،في نصوص هذه الكتلة: (لغز-الوردة الساردة-بيعة الأحلام-انتصاب الحلم).. ويتقدم على ص.26، نص «لغز» قائلا: [خيرا وسلاما يا قارئي./رأت قصيصتي حشد فراشات. أو كأنها رأت عصافير برأس إنسان.. أو ربما خيولا طائرة./رأتها غاضبة تحلق. غاضبة تهجم على نقطة سوداء في مركز دائرة تمتد من فرات إلى أم الربيع. غاضبة تصارع الحراس. تشهر حلمها الدفين في العنان. تدنو من كرسي ضخم/وتشدخ/رأسه/]. هي الذات الحالمة إذن، تزحف نحو طغاتها غاضبة، على امتداد جغرافية العرب… *المستوى الخامس: التحريض على كوابيس، تعيق «رؤى» الحلم. – [ألهبته حمى أحلام اليقظة في جوف ذلك الليل. فزع إلى مسجد الحي الفارغ.. قرفص في أعلى الصومعة ينظر إلى نفسه ضبابيا تائها في الأسفل.. /أنا هناك!/أنا هنا!/أ/ن/أ !/././ل س س س ت أ/ن/ا/ ا/./.].. إنه التلاشي في انحداره نحو المجهول.. فهذا النص الأسبق، «حمى اليقظة»، ص.30، يتحدث راغبا في الكشف عن حيرته… ففي هذه الكتلة بنصوصها (حمى اليقظة-كتاب الأحلام- توازن- رؤيا)، يبدو النص أعلاه تائها عن ذاته، لفقدانه بوصلة أحلامه، باحثا عن تأويل له، بين رؤيا دموية وطغيان كابوسي… ففي سقيا الجوار تحريض واستنكار، للحد من شدة حمى يقظة/تائهة، ومن امتداد كوابيس زائغة،وتوازنات زائفة. -أما فيما يتلو المستويات السابقة والتي اعتمدت النضال باستماثة، لمقاومة الكوابيس وطغيان اللاحلم، يتبين فيما بعد أن للنصوص القادمة نهجا مغايرا، ضمن المستويين السادس والسابع على التوالي، بدءا من نص «الدودة» ص. 34، إلى نص «كابوس»، ص.40 ..إنها (سبع نصوص) تركز، في انعطاف نوعي، على مشروع أجناسي ملح، مراهنة على ثلاثي التدوين (الكاتب والقلم والقص)، ذاتا وإبداعا وسردا، لاصطفاء أنقى الأحلام… وهكذا سيتمكن النص، من صهر عناصره في بوتقة الإبداع الحالم،لإبراز الدور الذي تلعبه ظاهرة «القصة القصيرة جدا»، إيقاظا للحلم لديه… – واستمرارا لنهج التغيير، فإن المستوى الثامن، يفصح عن «إيروتيكية» عشق، من خلال كتلة النصوص التالية: (تجوهر-حب-ندف الحلم-عانة أحلام-شكوى-حلم القمر)..إنها إيروتيكية غواية حالمة، بحس إنساني وصفاء وجداني، في ذوات (الأنا والأب والذاكرة).. وهذا ما سينتقل إليه المستوى التاسع أيضا، بنكهة «ندف الروح»، بحثا عن قيم حلم في إنسية السارد وإبداع الحكي، بين تأطير النص وانفراج الرؤيا، بدءا من ص.48 إلى ص.52.. فلنسل خيط شعاع التصور الذي تبناه هنا نص «هيه» من منسوج الذاكرة على ص.48، قائلا: [عزارى الدوار خبط خبط، لاعبين هيه.ووسط لعيالات لالة نوارة كتغوت: وضحكو غانتوما، وما أنا نكل جنابي من لغدايد على قلة الرجال./كنت خلفها..أمطر ردفيها ضربا.] لذيذا.. أحضنها ثم/أتزوج بها../أخذني أبي مبللا بحلمي وابتسم./.إيه عليك يا بو لعيالات …هكذا ألحت نصوص الكتلتين، على إبداع أجناسي تدفئه ذاكرة غزلية حالمة، بمرجعية إنسانية، خاصة حضور «الذات/الأب» بفاعليتها الملحوظة. – ويقدم لنا المستوى الأخير كتلة نصوص، تبدو منكسرة التوجه، فاقدة لتجانسها الاحتوائي، وهي: (لقاء-استمرارية- سمقلة-حلم اللوحة -حلم الشيخوخة-حلم طارق-سقيا-طوفان-احتضار).. لكن «التجوهر» سيوحد بومضه، سياق المنظور الكلي، في مقاربة للنص العام وخطابه المنمذج، وذلك كما يلي: انعتاق الذات، نضالية مستميثة، مناهضة الكوابيس، أمل التغيير، طموح حضاري، تخصيب الحلم، صيانة الحلم، التشبث بالحياة، وترسيخ الإبداع الأجناسي… 4- مشروع الخطاب: -إنها خريطة خطابات بتيمة الحلم،أطرت النص العام، في مجموعة «قطف الأحلام»، تحفيزا وتحريضا وعصيانا للاحلم والطغيان بشتى أنواعه، في استماثة صلبة من جهة.. ومن جهة أخرى، تمثلا بالقيم الإنسانية والإبداعية والذاكراتية، دون انقطاع… وبذلك تعددت أوجه الخطابات وتفرعت… واسترسلت رؤاها لتصب في بناء مواز للتجربة/المشروع، صوغا لرؤيا جوهرية عابرة لمجموع نصوص الأضمومة من أجل بلورة هذا الخطاب الحالم.. إنها أطوبيوغرافيا*11 للأنا والحلم والقص، القصير جدا، تضمنت خطابا إبداعيا شاعريا، مفرجا عن هموم الذات والوطن وكيانيهما العربي والإنساني… وهكذا استطاع «الخطاب العام»، أن يربط الكتابة بالحلم والحلم بالكتابة، فينتج قيمه النامية، منذ طفولة «سميعين» إلى رشد النص، أي من الأنا/الذاكرة إلى الكاتب/المؤلف. العربي الرودالي هوامش: *1-من مؤسسي «دائرة التأويل» بمعنى التفسير المعرفي المحجج، في المنهج «الهيرمنيوطيقي».. *2- من رواد السيميائية في الإبداع الأدبي.. أي «الميتانصية» بين الدال والمدلول اللسنيين..*3- شهادة من مقدمة «الطوفان» للناقد محمد رمصيص.. *4- متصوف إسلامي من ق.الرابع الهجري..* 5-(شون أمي..) = لفظ دارج، كناية عن الحضن الدافئ للأم.. *6- ناقد مغربي من الرواد../*7- مقالة بعنوان-ما هو النص؟- لعبد السلام بنعد العالي، ص59..كتاب «ميتولوجيا الواقع»، دار تبقال للنشر، 1999 الدارالبيضاء..*8 – ميشيل فوكو- نظام الخطاب-دار التنوير للطباعة والنشر- تحقيق محمد سبيلا.. *9- (ينظر محمد مصابيح. كاتب جزائري -مقال: مفهوم النص والخطاب-لفان ديك). البريد الإلكتروني: [email protected] *10- سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، الزمن، الصيغة، التبئير. منشورات المركز الثقافي العربي، بيروتلبنان، ط 3 سنة 1997. ص: 14..*11 -خطاب «الأطوبيوغرافيا»، هو حديث استرجاعي ينصب على تيمة أحادية تشمل فكرة عامة أو سيرة شخص أو سيرورة خطاب…