ان أي تحليل سياسي لابد ان يلتزم الرصانة والثبات وهذا لن يكون الا باستحضار جميع المعطيات والوقوف على زمنية الحدث وسياقه وتداعياته الانية سواء على مستوى الفضاء العام او على المستوى السياسي ومالاته السياسية المستقبلية وايضا مسالة جد مهمة هو عدم تقطيع الحدث وجعله معزولا عن الاحداث بل يكمن مجهود أي محلل في الوصول الى ربط سببي منطقي عبر التاريخ يمكنه من فهم المحتوى السياسي والقدرة ولو نسبيا على التنبؤ مستقبلا أي كمحاولة جدية للامساك بالخيط الناظم ذاخل نسق معقد ومركب يميز النظام السياسي المغربي . فعبارة الزلزال السياسي هي عبارة وردت في خطاب الملك خلال افتتاح الدورة التشريعية مؤخرا ، وقد استعملتها استعارة من اجل ان الخص فحوى حدث قرار اعفاء الوزراء بدل ان اغرق في تفاصيله. مدخلات ومخرجات النظام السياسي : يحدثنا العالم السياسي دافيد ايستون عن نموذجه النظمي في التحليل ، بحيث انه يعتبر النظام السياسي كنسق ديناميكي حركي يشتغل عن طريق المدخلات والمخرجات والتغدية الراجعة ، فعملية تحليل المدخلات لانتاج المخرجات تقع ذاخل ما سماها ايستون بالعلبة السوداء التي يصعب الكشف عنها ورصد كيفية اشتغالها ، وما يهمنا في هذا النموذج هو اخذ منهجه التحليلي والاستعانة به في تحليلنا . مر النظام السياسي المغربي من احداث وازمات سياسية تعامل معها بمخرجات تختلف باختلاف درجتها وحدتها ، فمثلا وغير بعيد في زمن حراك 20 فبراير كانت الاحتجاجات في كل مناطق المغرب بمثابة مدخلات فرضت نفسها في الاجندة الملكية وتعامل معها النظام السياسي المغربي بدهاء وذكاء اولا بترك المساحة الكافية للتعبير والتظاهر دون التدخل بالقوة العمومية وثانيا بانتاج مخرجات مباشرة واخرى سياسية ضمنية ، الاولى دستور جديد والثانية ترك المجال لصعود قوة سياسية حزبية تمثلت في العدالة والتنمية والتي امتصت كثيرا الازمة وهذا كله من اجل استمرارية النظام وتوازنه . نفس الشيء ينطبق على الوضع اليوم فحدث الاعفاء ليس الا مخرجا من مخرجات النظام من اجل تجاوز ازمة الريف وتداعياتها ، وضمان استمرارية النسق السياسي ، وفي نظري مستقبلا بعد ان ينطق القضاء بحكمه تجاه المعتقلين من الريف ليس مستبعدا ان نسمع بعفو ملكي يزيد اكثر من الشرعية السياسية للملكية ورمزيتها في المخيال السياسي المغربي . الحراك في الريف : المدخلات بدات احتجاجات الحسيمة بحدث معزول لكنه كان مروعا لجميع المغاربة ، فمقتل بائع السمك محسن فكري حرك مشاعر مواطني المنطقة ليمتزج بشعور سلبي تاريخي يعيد الام الماضي ، فالحسيمة منطقة عانت الكثير منذ زلزال 2004 ، واستفاقت في 20 فبراير 2011 على واقعة اخرى وهي حرق خمسة شبان في وكالة بنكية دون ان نعرف الاسباب الحقيقية التي ادت الى ذلك ولاسيما انها تزامنت مع الحراك الفبرايري ولاداعي ان اغوص في التاريخ من الغاز الكيماوي الى 1958، هذه الاحداث يصعب ان تنسى فهي مترسخة في الضمير الجمعي او اللاشعور السياسي لاهل المنطقة . امتدت المظاهرات والاحتجاجات لازيد من ثمانية اشهر لتصل الى مناطق اخرى القريبة من الحسيمة كبني بوعياش وامزورن وغيرها وكانت السلمية هي ما برز في سلوكها عموما والمطالب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية هي ملفهم وقضيتهم . ارتكبت النخبة السياسية غلطة زادت من حدة الازمة فخرجتها الاعلامية والرسائل التي شحنت في خطاباتها والتي تحمل دلالات الانفصال والتمويل الخارجي جعلت الامور تزيد حدة لولا تدخل الملك ومطالبة الوزراء بزيارة المنطقة … هذا كله جعل الملك في خطابين متتاليين ينتقد عمل النخبة السياسية وعمل الاحزاب السياسية ، فكان مشروع الحسيمة المنارة المتوسط دافعا قانونيا واخلاقيا لاثبات قرار الاعفاء الذي هو قرار ايضا على كل المستويات سواء الحكومية والادارية او المحلية في ممارسة المسؤوليات من اجل المحاسبة عليها وايضا هذا القرار ليس الا عطفا على منطقة الحسيمة التي لن ننسى ان من بين اولى زيارته بعد توليه العرش هي منطقة الحسيمة والريف ولازال الى اليوم يفضلها في امضاء عطلاته الشخصية ولن ننسى قراراته السابقة في فتح باب المصالحة والتي تحملت فيه الدولة وزر ماوقع من احداث وتم العمل على جبر الاضرار والتعويض ، صحيح ان مثل هذه الاحداث لها عمق رمزي في نفسية من تعرضوا لها لكن ايضا الاعتراف بالاعتداءات من طرف الدولة وطلب المصالحة هي لها دلالة رمزية لاسيما انها جاءت في ظل حكم الملك محمد السادس والتي تميزت بزيادة منسوب الحرية والاهتمام بحقوق الانسان . قرار الاعفاء : المخرجات في تاريخ المغرب وقعت اعفاءات لوزراء لكن ما يميز الاعفاء الاخير سياقه المرتبط بالوضع غير الصحي للنخبة السياسية وفشلها في ابتداع وابداع اشكال سياسية والتعبير عن تمثيلية حقيقية للمواطنين والسهر على تدبير شؤونهم العامة المحلية والوطنية والعمل على الوساطة والتواصل والمساهمة في اعداد مشاريع لسياسات عمومية او العمل على الاقل في اشراك المجتمع المدني في التنمية ، والترافع من اجل الاستثمار العمومي والبحث عن الفرص الاستثمارية الخاصة وغيرها . فقرار الاعفاء كما سلفت هو مخرج اساسي تتبعه مخرجات اخرى مستقبلا على الاقل تعيد فيها المؤسسة الملكية هيبة وواجهة الحكامة الجيدة التي هي اساس أي تنمية . استقبلت العائلات الحسيمية قرار الاعفاء على انه هدية رمزية من طرف الملك طالبين منه ان يراف ويعفوا على اولادهم المعتقلين ويمكن اعتبار ان هذا المطلب سيكون بمثابة مدخل جديد للنظام السياسي . فهذا القرار من طرف الفاعل المركزي يزيد من ترسيخ وتاكيد مركزية ومكانة الملكية في النسق السياسي المغربي . رضا اكليد او الملك ودلالاته المستقبلية : تحدثنا الثقافة السياسية المغربية عن مسالة لا تخلو من اهمية في المخيلة السياسية المغربية ، الا وهي مسالة الدلالة الرمزية والقيمية لمسالة الرضا وعدم الرضا الملكي من فعل ما ، حيث ان الرضا يشكل موردا سياسيا رمزيا كبيرا لمن حضي به ، وقد استحضرت كتابات عبدالله العروي وحمودي وغيرهم هذا المعطى باعتبار ان الرضا يضفي شرعية رمزية تقليدية على الفاعل السياسي يستطيع معها رفع موارده السياسية ، والتاريخ السياسي المغربي شاهد على شخصيات نالت هذا المورد وتمكنت من الاستئثار بالمشهد السياسي . الرجل السياسي الذي نال ثقة ورضا الملك اليوم هو السوسي التافراوتي عزيز اخنوش واعتقد انه سيساهم في صعود حزب التجمع الوطني للاحرار ليس سياسيا ورمزيا فقط بل حتى من ناحية شرعية الانجاز . الامين العام الحالي لحزب الاستقلال نزار بركة يعيد هيبة منطق الكفاءة مقابل الشعبوية مما سيجعله سيلتقي مع حزب الاحرار في نقاط مشتركة وقد استقبله الملك مسرورا بتقلده لمسؤولية امانة عام الاستقلال . الحركة الشعبية والاتحاد الدستوري مع حزب الاحرار وهذا لاشك فيه من منطلق تشكيل الحكومة ودفاع الاحرار عنهم في دخول الحكومة . وقرار الاعفاء يمكن أي يؤثر لكن ليس بالشكل الذي يقطع مع علاقاتهم لاسيما وانها استمرت فترة كبيرة منذ ما يسمى باحزاب الوفاق . الاستاذ نبيل بن عبد الله والامين العام للتقدم الاشتراكية يقول له الملك بطريقة غير مباشرة ان عليه ترك باب دوران النخبة والقيام باستراحة ومراجعة للنفس . واعتقد ان اتخاذ قرار الاستمرار او الخروج من الحكومة ستجتمع عليه اللجنة المركزية ، والرجل المناسب لتقليد مهمة الوزارة والامانة وهي في مصلحة الحزب الاستاذ عبد اللطيف اعمو . دهاء الياس العماري تجلى اساسا في استقالته المبكرة وكانه تنبا بما سيقوم به الملك لان مسؤوليته في قضية مشروع المنارة واضحة باعتباره رئيسا للجهة وشريكا ايضا في الملف . لكن حزب البام دون الياس سيخسر الكثير . ونعلم جميعا تقرب حزب البام من الاحرار . حزب العدالة والتنمية الحزب الفائز بالانتخابات يتم قص وفك شيفرته التحالفية بدقة لاسيما ان الحزب يراهن على ما يسمى بتحالف الكثلة ، الاتحاد الاشتراكي استبعدت وها هي التقدم في الطريق ، وبوادر الخلاف تظهر في قيادة العدالة . الاساس من هذا كله هو ان نلاحظ توجه الدولة والنظام السياسي ونرصد تمظهرات الضبط الذي تميز المشهد الحزبي بالمغرب باختلاف السياقات والادوات . اخيرا ، يؤكد عبد الله العروي على ان النظام السياسي المغربي عصي على التفسير ، مما لا يدع معه مجالا للشك بان منطق الخصوصية المغربية يفرض نفسه في أي تحليل . * باحث في العلوم السياسية – جامعة ابن زهر