يبدو من المفارقة السياسية أنه في وقت تقلدت بعض الشخصيات السياسية المنحدرة من منطقة الريف مناصب سياسية بارزة ضمن المشهد السياسي بالمغرب، كرئاسة مجلس المستشارين من طرف حكيم بنشماش، وترؤس مجلس جهة طنجةتطوانالحسيمة من طرف إلياس العماري، وتعيين لفتيت واليا على جهة الرباط، قبل أن يعين وزيرا للداخلية في حكومة الدكتور العثماني، بالإضافة إلى تعيين أوجار وزيرا للعدل في الحكومة نفسها.... تشهد منطقة الريف حراكا سياسيا كانت له عدة تداعيات ليس فقط على المنطقة، بل على توازنات النظام السياسي الذي اضطر إلى تحريك آلياته الأمنية لاحتواء الوضع بعدما عجزت مكونات هذا النخبة السياسية الريفية عن نزع فتيل هذا الحراك، ورفض نشطائه التفاوض أو محاورة مع بعض ممثليه. ولعل هذا الوضع يطرح عدة تساؤلات عن مدى تمثيلية هذه النخب السياسية للتركيبة الاجتماعية التي تنتمي إليها، وعن العوائق التي تكمن وراء تشكل نخبة سياسية ريفية متماسكة ومتجذرة. -عوائق تشكل النخبة الريفية على عكس النخب السياسية التي تشكلت بشكل طبيعي في المغرب، كالنخبة الفاسية أو السوسية والعروبية وحتى الصحراوية، واجهت النخبة الريفية عدة عوائق سياسية كانت وراء عدم تكونها بشكل طبيعي ومطرد، كطبيعة الاستعمار الإسباني، وتخوف النظام من النزعة التمردية التي ميزت النخبة الريفية في علاقتها بالسلطة المركزية. - الاستعمار الإسباني ووأد النخبة الريفية شكلت منطقة الريف تاريخيا مجالا منزويا جغرافيا ووعرا تضاريسيا ومستقلا سياسيا، استمد استقلاليته هذه من عدة عوامل، من أهمها كونه شكل معقلا ضد الهجمات الإيبرية، وبالأخص الاحتلال الإسباني؛ كما أن بعده الجغرافي عن السلطة المركزية ووعورة مسالكه عمق من هذه الاستقلالية السياسية التي لم تتحول في أي فترة من الفترات التي طبعت التاريخ المحلي إلى انفصال سياسي. وقد تجسدت هذه الاستقلالية السياسية من خلال امتناعه عن دفع الضرائب المخزنية مع الاعتراف بشرعية السلطة المركزية. وبعد فرض الحماية على المغرب، عزلت السلطات الإسبانية هذه المنطقة وفصلتها عن باقي أنحاء المغرب دون أن تهتم بتطويرها مقارنة بباقي المناطق التي احتلتها بشمال المغرب، كتطوان التي استفادت من إنجاز بعض المشاريع التنموية، خاصة ما يتعلق بالمجال الثقافي، من مسارح ومعاهد موسيقية وقاعات سينمائية. ولعل هذا الوضع هو الذي أدى إلى تبلور نخبة سياسية اعتمدت الكفاح المسلح كوسيلة لمقاومة سلطات الحماية الإسبانية. وهكذا شهدت منطقة الريف بروز اسم عبد الكريم الخطابي ممثلا لهذه النخبة السياسية الجنينية التي كانت في طور التبلور بكاريزما مختلفة ورؤية وحنكة عسكرية حولت هذه النخبة إلى حركة مسلحة لمحاربة الاستعمار الإسباني، متبنية في ذلك تكتيك حرب العصابات. لكن أمام تحالف جيشي الاستعمار الفرنسي والإسباني تم وأد هذه النخبة السياسية الجنينية، وذلك من خلال نفي مكوناتها، وعلى رأسها ترحيل الزعيم عبد الكريم الخطابي الذي استقر بمصر إلى حين وفاته، بينما هاجر البعض الآخر إلى خارج البلاد، ونهج آخرون محاولة العصيان المدني ودخلوا بعد حصول المغرب على الاستقلال في مناوشات سياسية مع السلطة المركزية انتهت بالصدام الدامي مع القوات المسلحة الملكية التي كان يترأسها ولي العهد آنذاك مولاي الحسن.. وبالتالي، فبخلاف مكونات باقي النخب السياسية التي تكونت بالمغرب (سواء كانت نخبة فاسية، أو سوسية، أو يهودية...) فإن النخبة السياسية التي تزعمها الأمير عبد الكريم الخطابي لم يكتب لها أن تتحول إلى نخبة سياسية متمرسة على تعقيدات العمل السياسي من توعية سياسية كبناء المدارس الحرة التي أسستها نخب الحركة الوطنية، وتوقيع العرائض، بما فيها عرائض المطالبة بالإصلاحات، وحتى عرائض المطالبة بالاستقلال، وتنظيم المظاهرات الشعبية (اللطيف). إلى جانب ذلك، فطبيعة الاستعمار الإسباني، الذي كان يتبنى سياسة عسكرية في تسيير منطقة الريف خاصة بعد سيطرة الجنرال فرانكو على الحكم، أدت إلى عدم تهييء الأرضية الملائمة لتشكيل نخب سياسية تضاهي تلك التي سهر الجنرال ليوطي، أول مقيم عام فرنسي، على تكوينها من خلال تحويل أبناء الأعيان سواء بالقرى أو بالحواضر إلى نخب سياسية يمكن الاستناد إليها في تسيير البلاد، حيث تم إنشاء مجموعة من المدارس لتشكيل هذه النخب، كمدرسة مولاي يوسف بالرباط، ومدرسة أبناء الأعيان بمراكش، ومدرسة ليوطي بالدارالبيضاء، بالإضافة إلى غض الطرف عن خلق أحزاب من طرف مكونات هذه النخب وانضمامها إلى النقابات... - عنف الدولة وإجهاض تكون النخبة الريفية لقد خاضت المنطقة تجربة قاسية منذ قيام الدولة الوطنية الحديثة. فبخلاف السياسة غير المباشرة التي كانت متبعة من طرف سلطات الاحتلال الإسباني، والتي وإن لم تكن لها انعكاسات اقتصادية إيجابية على المنطقة فإنها على الأقل لم تكن تتدخل في الشؤون المحلية للقبائل، سلكت السلطات المغربية سياسة ضبطية متشددة وفرضت ضرائب على المنطقة. ولعل شعور السكان المفاجئ بثقل واجبات "المواطنة" وضآلة حقوقها، بالإضافة إلى استشعار تحكم النخب الفاسية في شؤون المنطقة أدى إلى تمرد فعاليات هذه المنطقة، ما ردت عليه الدولة ببطش عسكري صارم خلف العديد من الضحايا، وحفر جرحا سياسيا غائرا في الذاكرة الجمعية لسكان هذه المنطقة. وبالتالي، فعلى الرغم من نجاح السلطة في قمع التمرد المسلح لسكان المنطقة، فقد تبنت سياسة ممنهجة في إجهاض أي تشكل لنخب سياسية قد تعيد إنتاج أي تمرد سياسي أو نزعة استقلالية قد تهدد الوحدة السياسية للدولة. ولبلوغ هذا الهدف، تم اللجوء إلى الآليتين السياسيتين التاليتين: تغريب مكونات النخبة الريفية: عرفت منطقة الريف، سواء قبل الاستقلال أو في ما بعد، نزيفا بشريا مطردا نتيجة لهجرة السكان من المنطقة. ومما يثير الانتباه هو ارتباط هذه الهجرة بالأحداث السياسية التي عانت منها المنطقة. ويؤكد عبد الله بارودي هذه الظاهرة بقوله: "إن الهجرات الداخلية والخارجية لمنطقة الريف...لا يمكن فصلها عن التقلبات السياسية... التي عرفتها المنطقة منذ بداية هذا القرن، أي القرن 20". فما تتميز به هذه المنطقة ليس فقط كونها منطقة هجرة، إذ في هذا تتشابه مع عدة مناطق مغربية، بل في كونها منطقة "تهجير سياسي". وبهذا الصدد أكد بارودي أنه "كثيرا ما أعطيت تعليمات للسلطات المحلية لتشجيع سكان الريف على الهجرة نحو أوربا وغيرها من البلدان الأجنبية....". وقد اتخذ هذا التشجيع الرسمي على الهجرة طابعا ممنهجا، ما حول منطقة الريف إلى "مصنع كبير لإنتاج اليد العاملة التي تصدر... إلى الخارج". وقد استمرت هذه السياسة متبعة، حتى بعدما اتخذت دول السوق الأوربية المشتركة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي إجراءات مشددة لتقنين الهجرة. ويتجلى ذلك من خلال تغاضي السلطات المحلية عن الهجرة السرية. وقد كان من نتائج هذه السياسة أن عددا كبيرا من سكان المنطقة هاجروا إلى أوربا، وبالأخص إلى بلجيكا وهولندا وألمانيا الغربية، بل إن كثيرا من هؤلاء فقدوا الصلة بالمنطقة، مفضلين العيش نهائيا في البلد المضيف. ومما شجع على هذا الانفصال هو التسهيلات الأوربية الممنوحة للتجمعات العائلية. ولعل هذا ما يفسر أن نخبا سياسية تشكلت من أبناء هذه المنطقة، خاصة من الجيل الثاني والثالث، نجحت في تقلد مناصب سياسية في أجهزة ومؤسسات بعض الدول، كهولندا، وبلجيكا وغيرها. – تعطيل آليات إعادة إنتاج النخبة الريفية كان من بين مكونات النخبة السياسية التي اعتمد عليها الملك الراحل الحسن الثاني في تثبيت حكمه وإرساء نظامه السياسي بعض مكونات النخبة العسكرية المنحدرة من منطقة الريف، حيث وظفت بعض الأطر العسكرية الريفية التي تم تكوينها في أكاديمية (الدارالبيضاء) التي أسسها ليوطي بنواحي مكناس لتدبير الشؤون المحلية. فعلى غرار ما قامت به سلطات الحماية من تعيين ضباطها العسكريين في المراكز والدوائر والأقاليم نهجت المؤسسة الملكية السياسة نفسها، إذ تم تعيين العديد من هؤلاء الضباط على وحدات ترابية، ومن بينهم: - محمد بن أحمد المذبوح، خريج أكاديمية الدارالبيضاء برتبة سو ليوتنان في 1947، والذي اشتغل ضمن الديوان العسكري الملكي في 1955 و1967، كما عين عاملا لإقليمورزازات في 1956، ثم عين عاملا على الرباط في 1957، ثم عاملا على إقليمتازة في 1958. - الخياري بن حدو بوكرين، خريج أكاديمية الدارالبيضاء برتبة سو ليوتنان في 1944، والذي اشتغل كملحق ضمن الديوان العسكري للأمير مولاي الحسن آنذاك في 1957، حيث عين على كل من إقليم طرفاية في 24 يونيو 1957، وعمالة الرباط في 10 أكتوبر 1961، ليعين بعد ذلك عاملا على مدينة الدارالبيضاء خلفا للجنرال إدريس بن عمر، ثم عاملا على مدينة مكناس. - وبالإضافة إلى الكولونيل بوعزة بولحيمص، الذي عين على مدينة الدارالبيضاء، تم اختيار العديد من هؤلاء الضباط لتعيينهم على المناطق الحدودية أو بعض المناطق الحساسة، حيث تم تعيين الليوتنان -كولونيل لعربي الشلواتي على مدينة وجدة المتاخمة للحدود الجزائرية. وقد اندرجت هذه التعيينات كلها ضمن خطة ملكية في إشراك هذه النخبة العسكرية والاستفادة من خبراتها في تدبير الشأن المحلي في فترة تميزت بعدم الاستقرار السياسي، سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الإقليمي. وفي هذا الإطار صرح الملك الراحل الحسن الثاني لجريدة "le petit marocain" بتاريخ 15 مارس 1966 بما يلي: "لقد أشركنا الضباط العسكريين في تدبير بلادنا وتسييرها سواء كوزراء، أو عمال ورجال سلطة، لأن جيشنا ساهم في تكوين الأطر المسيرة لوزارة الداخلية. وبالتالي فإننا عازمون على استثمار المزايا الخلقية والمؤهلات الجسمانية للضباط في هذا التدبير...". ولم يقتصر إشراك مكونات النخبة العسكرية الريفية على تدبير الشؤون المحلية والأمنية، بل تعدى ذلك إلى تعيين العديد من كبار الضباط في مناصب وزارية حساسة، إذ أسندت في هذا السياق إلى الجنرال محمد المذبوح وزارة البريد التي كانت تعتبر من بين الوزارات الحساسة في نظام الملك الراحل الحسن الثاني، إذ كانت هي أذن النظام في مراقبة ما يجري من مكالمات هاتفية سواء بداخل المملكة أو خارجها. كما أن الجنرال محمد المدبوح، وعلى الرغم من انتسابه إلى أبناء الأعيان، إذ كان أبوه قائدا في ظل الحماية الفرنسية، وعلى الرغم من تكوينه العسكري في أكاديمية مكناس، وتجربته القتالية في الحروب الفرنسية بالهند الصينية، فإن ما كرس وضعه العسكري وساعد على تعيينه في بعض المناصب العسكرية الحساسة هو مصاهرته للماريشال محمد أمزيان، الذي كان الشخصية العسكرية الوحيدة التي وصلت إلى رتبة ماريشال في تاريخ الترقيات العسكرية داخل القيادة العليا للجيش المغربي منذ تأسيسه إلى حد الآن. فهذا الحاكم السابق لمنطقة قادس، والصديق الذي كان مقربا إلى الجنرال فرانكو، كان يعتبر ليس فقط الأعلى رتبة عسكرية ضمن الضباط السامين الذين شكلوا القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية بعيد تأسيسها في 14 ماي 1956، كالجنرال محمد الكتاني، والجنرال إدريس بن عمر... بل كان أيضا الماريشال الأكثر غنى وثراء، بالإضافة إلى ماراكمه من علاقات مع شخصيات عسكرية وسياسية كبيرة كالجنرال فرانكو. لذا فإن مصاهرة الضابط محمد المذبوح للماريشال أمزيان، وتزوجه من إحدى بناته، فتح أمامه بلا شك تسلق العديد من سلالم الهرمية العسكرية. فبعد عودته من حرب الهند الصينية وانضمامه لقيادة القوات المسلحة الملكية، تمت ترقيته من رتبة كابيتان في سنة 1958 إلى كومندار في سنة 1960، ثم إلى ليوتنان كولونيل في سنة 1963، فكولونيل في سنة 1965 وجنرال في 3 مارس 1968، ما أظهر الإيقاع السريع للترقيات العسكرية التي تمتع بها صهر الماريشال محمد أمزيان. كما أن هذا الوضع فتح له أيضا الطريق لولوج أبواب القصر الملكي، فبعدما التحق بالديوان العسكري للملك في 1955، عين بعد ذلك قائدا للدرك الملكي، قبل أن يعين قائدا للحرس الملكي سنة 1958. وبداية سنة 1967 نجح في الجمع بين منصب مدير الديوان العسكري للملك الحسن الثاني، وقيادة الحرس الملكي، بالإضافة إلى إشرافه على المكتب الثاني للقوات المسلحة الملكية. لكن يبدو أن محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة التي تزعمها الجنرال المدبوح بمساعدة الكولونيل اعبابو بالصخيرات، والتي شارك فيها تلامذة هرمومو الذين كان جلهم من منطقة الريف، جعلت الملك الراحل الحسن الثاني يتخذ موقفا سياسيا وربما شخصيا من سكان هذه المنطقة ومن مكوناتها النخبوية. فالكولونيل محماد عبابو، الذي كان المنفذ الرئيسي للانقلاب، والذي كان يترأس الأكاديمية العسكرية لهرمومو، كانت له دوافع سياسية واضحة. فهو ينحدر من منطقة الريف التي عانت من موجات القمع المتلاحق في 1959 و1960. فقد كان ينتمي إلى عائلة فقيرة من قبيلة كزناية، مثل المقاوم عباس المسعدي الذي اتهم حزب الاستقلال، حزب النخبة الفاسية، باغتياله. ومن المعلوم أن هذه القبيلة قد تعرضت بشدة لقمع 1960، وبالتالي فقد كانت ذكرى البطل الوطني عباس مازالت حية في المنطقة. وبالتالي فقد ترسخت لدى الملك الراحل الحسن الثاني، خاصة بعد تورط عسكريين من المنطقة نفسها في عملية محاولة إسقاط الطائرة الملكية في غشت 1972، قناعة شخصية وسياسية بتهديد هذه المنطقة لحكمه ونظامه. لذا عمل ليس فقط على تهميش هذه المنطقة بشكل ممنهج، بل أيضا على تعطيل أي تشكل لنخب سياسية ريفية جديدة. وقد ظهر ذلك بالخصوص في الآليات التالية: - عدم خلق أي مؤسسات تعليمية عليا من مدارس أو معاهد عليا أو جامعات تمكن المنطقة من تشكيل نخب سياسية، فمدينة الحسيمة أو حتى الناظور لا تتوفر إلى حد الآن على مؤسسات جامعية عليا على عكس مدن أخرى سواء بشرق المملكة كوجدة، أو بشمالها كطنجةوتطوان، أو بالجنوب كمراكش وأكادير... عدم تجذر الأحزاب في هذه المنطقة، فإذا كانت منطقة سوس، التي تتشابه مع المنطقة في عدة مناح اقتصادية وسياسية، قد عرفت بمشاركتها الكبيرة في العمليات الانتخابية، فمنطقة الريف تتميز بضعف مشاركتها الانتخابية رغم ما تجسده من مظاهر التمرد التي فاقت معارضة منطقة سوس، خاصة في ستينيات وسبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي. ويرجع السبب إلى عدم تمكن أحزاب المعارضة، على الخصوص، من الانتشار داخل المنطقة. فقد سجلت المنطقة غيابا شبه تقريبي لأحزاب المعارضة، وظهر ذلك واضحا في الانتخابات التشريعية لعام 1963، إذ لم يمثل حزب الاستقلال في إقليمالناظور إلا 15 %، وفي إقليمالحسيمة سوى %12، أما الاتحاد الوطني للقوات الشعبية فلم يقدم أي مرشح عنه في إقليمالحسيمة، وانحصرت نسبة تمثيليته في 6 % في إقليمالناظور. كما بقي دور أحزاب المعارضة محدودا في المنطقة في الانتخابات التشريعية لعام 1977، ما أثر على نسبة المشاركة الانتخابية. وقد ألمح الباحث الفرنسي سانتسي إلى هذه الظاهرة، رابطا من خلالها بين ارتفاع نسبة الامتناع عن التصويت وبين ضعف نفوذ أحزاب المعارضة في المنطقة. وفي هذا يقول: "إن المناطق التي تميزت بنسبة أعلى من الامتناع عن التصويت تمركزت على الخصوص في إقليميالناظوروالحسيمة... اللذين يشكلان معقلين للمعارضة والاحتجاج، إلى درجة أن أحزاب المعارضة، بما فيها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لم تتمكن من التعبير عنها". ومما يزيد من تأكيد ظاهرة هذا الغياب الانتخابي داخل المنطقة أنه رغم محاولات السلطة تشجيع تواجد بعض الأحزاب، مثل الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية وحزب العمل، داخل المنطقة، يبدو أن هذه المحاولات باءت بالفشل. أما بالنسبة للحركة الشعبية، فرغم ما عرفته من نجاح انتخابي داخل المنطقة، نتيجة لخطابها الإقليمي وعلاقاتها الشخصية مع بعض أعيان المنطقة، فنفوذها بدأ يتقلص في منطقة الريف ابتداء من سبعينيات القرن الماضي. هيمنة الأعيان المحليين.. لم تتحول هذه الشريحة الاجتماعية التقليدية إلى نخب سياسية بسبب التركيبة القبلية، والانغلاق المجالي، وعدم انتشار مؤسسات تعليمية جامعية، بالإضافة إلى لما تتمتع به من نفوذ اجتماعي وسياسي. ومن المعالم التي تميز هذه الشريحة الريفية: * وضعيتها الاقتصادية والاجتماعية والعائلية المتميزة نتيجة ما تمتلكه من أراض عقارية وما يدره عليها التهريب والاتجار بالكيف من ثروات ضخمة، ومنحدرها العائلي المتميز نظرا لانتماءات أفرادها إلى عائلات شريفة، وكذا وظيفتها الإدارية نتيجة لتقلد العديد من أعضائها لوظائف مخزنية في الجهاز الإداري الإسباني. وبالتالي فعادة ما يستخدم هؤلاء الأعيان نفوذهم الاجتماعي لتقديم عدة خدمات لسكان المنطقة، سواء من خلال التوسط لهم لدى السلطات الإدارية أو تقديم قروض وحتى أسمدة للفلاحين المعوزين؛ ما يجعل سكان المنطقة في علاقة تبعية لهم. * وضعيتها السياسية.. إذ يلعب هؤلاء الأعيان دور الوسيط بين سكان المنطقة والسلطات الإدارية، سواء المحلية أو المركزية؛ كما يلعبون دور الوسيط أثناء العمليات الانتخابية. فأهم المرشحين الذين فازوا في الانتخابات كانوا مساندين من طرف هذه الشريحة، إذ عادة ما تستخدم هذه الأخيرة علاقات الزبونية التي تجمعها بالسكان لكي تنزل بثقلها لصالح مرشحي الأحزاب الذين يترشحون في هذه المنطقة. ومما يؤكد هذه الظاهرة هو أن نفوذ الحركة الشعبية داخل المنطقة، خاصة في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كانت تستمده على الخصوص من خلال عاملين أساسيين: انضمام بعض هؤلاء الأعيان لحزب الحركة الشعبية، وربط علاقات شخصية أو صلات متميزة بين الحركة واعيان المنطقة. - المصالحة السياسية وإعادة تشكيل النخبة الريفية على عكس سياسة التشدد والاحتواء والقمع التي انتهجها الملك الراحل الحسن الثاني إزاء منطقة الريف ونخبتها، سلك الملك محمد السادس منذ توليه العرش سياسة أكثر انفتاحا على هذه المنطقة، تمثلت في عدة إجراءات سياسية ورمزية، من أهمها خطاب أجدير الذي كان لإلقائه في هذه المنطقة دلالة سياسية تعبر عن فتح صفحة سياسية جديدة مع سكان المنطقة بعد سنوات من التهميش والقمع، كان آخرها الإخماد الدموي لانتفاضة 1984 التي همت عدة حواضر في هذه المنطقة. ويبدو أن هذه الإجراءات الملكية كانت تستهدف، بالإضافة إلى تحقيق نوع من المصالحة السياسية مع سكان هذه المنطقة، إعادة خلق توازن سياسي بين مختلف نخب جهات المملكة؛ وذلك من خلال إعادة تشكيل نخبة ريفية من خلال خلق تنظيم سياسي يعكس وجودها، وكذا من خلال تقلدها لعدة مناصب داخل أجهزة الدولة. - الولادة القيصرية للنخبة الريفية تميزت فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني بالصدام والمواجهة بين السلطة المركزية والنخبة الريفية، ففي سنة 1959 قاد العاهل الراحل عندما كان وليا للعهد حربا على منطقة الريف خلفت خسائر مادية وبشرية.. لتتجدد هذه المواجهة بين العاهل وسكان هذه المناطق في انتفاضة سنة 1984 عندما وصفهم بالأوباش. ونتيجة لذلك، كانت مكونات النخبة الريفية من أكثر النخب التي تعرضت للانتهاك في سنوات ما سمي سنوات الرصاص، إذ تعرضت العديد من قياداتها لقمع السلطة، وقضت شهورا وسنوات في سجون وزنازين ومعتقلات نظام الملك الراحل الحسن الثاني. لكن بعد اعتلاء الملك محمد السادس العرش بدأت هذه الأمور تتغير. فعلى عكس سياسة سلفه المتشددة، أولى هذا الملك اهتماما شخصيا لهذه المنطقة حيث أصبح يقضي عطله في محطاتها السياحية. كما قام في السنوات الأولى من حكمه بتدشين بعض المشاريع الاقتصادية والاجتماعية للنهوض بهذه المنطقة. وفي هذا السياق السياسي، تم العمل على إعادة تشكيل نخبة ريفية موالية للنظام من خلال الآليات السياسية التالية: - استقطاب الفعاليات المدنية الريفية ساهم الاهتمام الملكي بالمنطقة في تحرك بعض الفعاليات المدنية والقيادات السياسية إلى تأسيس جمعيات تطالب عن طريقها النظام الجديد برد الاعتبار السياسي لها. وهذا ما دفع النظام الجديد إلى توظيف بعض هذه القيادات والفعاليات في المؤسسات التي أنشأت لتدبير التركة السياسية الثقيلة من الانتهاكات والتجاوزات التي نجمت عن سياسة الملك الراحل القمعية. وهكذا تم إدماج بعض الفعاليات الريفية في الهيئة الوطنية للإنصاف والمصالحة، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان وديوان المظالم، بالإضافة إلى المجلس الوطني للمهاجرين المغاربة. ولعل زلزال الحسيمة سنة 2004، والنزول الشخصي للملك بكل ثقله لاحتواء هذه التداعيات، كانت فرصة لتقرب هذه الفعاليات من محيط الملك، حيث ستتاح لبعض الشخصيات الريفية فرصة التحدث المباشر مع الملك محمد السادس، ما لم يحدث طيلة فترة حكم والده الملك الراحل الحسن الثاني. استقطاب الفعاليات السياسية الريفية على غرار ما قام به الملك الراحل الحسن الثاني في مواجهة تحركات النخبة الفاسية من خلال احتواء حزب الاستقلال، وتحركات النخبة السوسية من خلال لجم معارضة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعد شل قوة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وذلك من خلال استقطاب فعاليات من وسط منطقة الشاوية لإنشاء حزب الاتحاد الدستوري بزعامة الوزير الأول السابق المعطي بوعبيد، والحزب الوطني الديمقراطي برئاسة وزير التشغيل السابق أرسلان الجديدي، تم التفكير، رغبة في إعادة التوازن بين مكونات المشهد السياسي بعدما ظهر ميل حزب العدالة والتنمية إلى الهيمنة على هذا المشهد، وتراجع باقي الأحزاب الأخرى، في ضرورة خلق تنظيم حزبي جديد استقطبت إليه شخصيات ريفية كحكيم بنشماس، والياس العماري وبنعزوز، إلى جانب أطياف سياسية مختلفة تم توظيفها لهذا المشروع. وهكذا نجحت هذه الشخصيات الريفية في التحكم في إدارة حزب الأصالة والمعاصرة بعدما توارى مؤسسه الحقيقي كاتب الدولة في الداخلية السابق السيد فؤاد عالي الهمة إلى الخلف بعد تداعيات حراك 20 فبراير 2011. وهكذا تمكن الياس العماري، ابن قبيلة بني بوعياش، إحدى القبائل المتواجدة بضواحي الحسيمة، ورئيس شباب الريف الحسيمي، من أن يصبح الأمين العام الرابع في المؤتمر الثالث للحزب بعد الحسن بنعدي ثم الشيخ بيد الله، ثم مصطفى الباكوري. الولادة السياسية للنخبة الريفية في إطار تكريس نوع من التوازن بين نخبه السياسية، سواء النخبة الفاسية التي تموقعت داخل المشهد السياسي والاقتصادي منذ بداية استقلال البلاد، أو النخبة السوسية التي احتلت مناصب حساسة سواء على الساحة الاقتصادية أو داخل أجهزة الدولة، وكذا النخبة الصحراوية التي تدير الأقاليم الصحراوية المسترجعة مستفيدة منذ سبعينيات القرن الماضي من ريع اقتصادي يتمثل في الامتيازات الضريبية ودعم المواد الأساسية من محروقات ودقيق وزيت وسكر، وبطاقات الإنعاش الوطني... برز توجه في إستراتيجية النظام لخلق نخبة ريفية وترسيخ تموقعها داخل المشهد السياسي من خلال الزج بقياداتها في دواليبها الدولة ومؤسساتها. فإلى جانب ترؤس الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة إلياس العماري، والعضو السابق في الهيئة العليا للتواصل السمعي البصري لمجلس جهة طنجةتطوانالحسيمة عقب في انتخابات 4 شتنبر 2015، تقلد بنشماس رئاسة الغرفة الثانية للبرلمان ليصبح ثالث شخصية سياسية في البرتوكول المخزني. لكن يبدو أن ما يعزز رغبة السلطة في تكريس التموقع السياسي لهذه النخبة الريفية هو المسار الإداري والسياسي لوزير الداخلية الحالي السيد الوافي لفتيت. فبعد حصول هذه الشخصية الريفية على دبلوم مدرسة البوليتكنيك بباريس سنة 1989 ودبلوم المدرسة الوطنية للقناطر والطرق سنة 1991، التحق بمكتب استغلال الموانئ ليعين بين سنتي 1992 و2002 على رأس مديرية الموانئ على التوالي بكل من أكادير وآسفي وطنجة. وبتاريخ فاتح ماي 2002، تم تعيينه مديرا للمركز الجهوي للاستثمار بطنجة – تطوان، قبل أن يعين في أكتوبر 2006 عاملا على إقليمالناظور، وهو المنصب الذي ظل يتولاه إلى أن عينه الملك بتاريخ 9 مارس 2010 رئيسا مديرا عاما لشركة التهيئة من أجل إعادة توظيف المنطقة المينائية لطنجةالمدينة؛ ليتم بعد ذلك تعيينه في 24 يناير 2014 واليا على جهة الرباط - سلا - زمور – غير أن تعيين السيد لفتيت وزيرا للداخلية في حكومة الدكتور سعد الدين العثماني يعكس إلى حد بعيد مرحلة اكتمال هذه الولادة السياسية للنخبة الريفية التي سهرت السلطة على مخاضها، ما يذكر إلى حد ما بمرحلة تقلد إدريس البصري لوزارة الداخلية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، والتي تزامنت مع صعود النخبة العروبية في نهاية سبعينيات القرن الماضي. حراك الريف وهشاشة تجذر النخبة الريفية يبدو أن حراك الريف وما خلفه من تداعيات سياسية واجتماعية واقتصادية قد عكس إلى حد بعيد الشرخ القائم بين هذه النخبة وساكنة منطقة الريف؛ فضعف تجذرها الاجتماعي رغم انتمائها الجغرافي إلى هذه المنطقة أقنع السلطة بالهلامية السياسية لهذه النخبة، وأظهر أن مراهنتها على ترؤس هذه النخبة لحزب الأصالة والمعاصرة كمشروع سياسي لتأطير منطقة الريف، وإمكانية لعب دور الوساطة والسخرة السياسية بين ساكنة المنطقة ودوائر القرار السياسي على المستوى المركزي تعتوره العديد من المحاذير وبعض جوانب من القصور. عدم التجذر الهوياتي للنخبة الريفية أفرزت الحركية الاحتجاجية في منطقة الريف مجموعة من النشطاء والزعامات المحلية التي رفضت التعامل مع مكونات هذه النخبة، وحتى التفاوض معها، بشكل يذكر إلى حد ما بتداعيات انتفاضة فاس في 1990 التي عكست فشل النخبة الفاسية في احتواء الحركية الاحتجاجية التي عرفتها هذه المدينة، وجعلت الملك الراحل الحسن الثاني يقرع النخبة الفاسية ويتهمها بعدم الاهتمام بمنحدرها الجغرافي وأصولها الاجتماعية والثقافية، مقارنا بين اهتمام وزيره في الداخلية إدريس البصري بمدينته ومنطقته وما بين إهمالها لمنطقتها. ولعل هذا الوضع ينطبق إلى حد بعيد على مكونات هذه النخبة؛ فارتباطها بإستراتيجية السلطة في تحقيق توازن بين نخبها، جعل هذه الأخيرة تجد نفسها منشطرة بين ولائها للمركز، وانتمائها الثقافي والتاريخي والسياسي إلى المنطقة. وقد انعكس ذلك من خلال المسيرات الاحتجاجية التي كانت تنظم بمدن هذه المنطقة والشعارات والرموز السياسية التي كانت تتقدمها كالأعلام الأمازيغية وصور الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي، بما يرمز له ذلك من موروث مرتبط بالمقاومة والهوية السياسية المحلية. ففشل هذه النخبة في عكس هذه الهوية أفقدها شرعية تمثيلها والتعبير عن رمزيتها. إذ لم تنجح مكونات هذه النخبة في إنجاز مشروع المتحف الوطني المتعلق بتاريخ المنطقة، والذي يمكن أن يؤطر ذاكرتها الجمعية ويعالج الجراحات السياسية التي عانى منها سكان هذه المنطقة، سواء من طرف السلطات الاستعمارية الإسبانية التي ثبت استخدامها للأسلحة الكيماوية في مواجهة المقاومة الريفية، واستغلال فرانكو لطاقتها البشرية في حربه ضد خصومه من الجمهوريين، أو من طرف سلطات الاستقلال في مواجهة تمرد سكان هذه المنطقة في سنتي 1958 و1984، بما رافق ذلك من تهميش ونعوت سياسية قدحية؛ بالإضافة إلى فشلها في استعادة رفات الأمير عبد الكريم الخطابي من مدفنه بمصر، في محاولة لترميم الذاكرة السياسية الريفية وإعادة الاعتبار الرمزي والسياسي لأحد أهم الرموز السياسية للمنطقة، ما يمكن أن يحقق المصالحة السياسية التي دشنتها السلطة بخطاب أجدير، لكن بدون أن تعقبها إجراءات سياسية أخرى لترسيخ هذه المصالحة السياسية. كما تتمثل الهشاشة الهوياتية لهذه النخبة في عدم تمكنها من دمج أطراف هذه المنطقة في جهة موحدة ومنسجمة. فقد نادت العديد من الأصوات الريفية بضرورة تجميع أقاليم الريف في جهة واحدة، مقترحة على وزارة الداخلية في إطار مشروع التقسيم الجهوي الجديد أن يتم إدماج إقليميالحسيمةوالناظور زيادة على إقليم الدريوش وأقاليم أخرى مجاورة ضمن جهة واحدة، وذلك لاعتبارات القرب الجغرافي والثقافي والتاريخي بين هذه الأقاليم الريفية. لكن التعديل الذي قامت به وزارة الداخلية على هذا المقترح، وربطها بعض أقاليم هذه المنطقة بجهة طنجةتطوان، أظهر فشل النخب السياسية الريفية المنتمية إلى إقليميالناظور والدريوش، سواء الممثلة في البرلمان أو غير الممثلة، في إقناع السلطة المركزية بهذا المقترح. بل إن إلحاق إقليمالحسيمة بجهة طنجةتطوان جعل بعض ساكنة المنطقة تشك في نوايا بعض النخب السياسية في الحسيمة التي يمكن أن تكون قد ضغطت بقوة على وزارة الداخلية من أجل أن ترضخ لمطالبها، اعتقادا منها بأن مصالحها مرتبطة بجهة تطوانطنجة، بحكم أن جل النخب الريفية المنتمية إلى الحسيمة متواجدة بشكل كبير بمدن الشمال، وعلى رأسها طنجةوتطوان. ولعل ما زاد من شكوك هذه الساكنة ترؤس ابن الحسيمة فؤاد العماري عمادة طنجة، في الوقت الذي انتخب إلياس العماري المنتمي لقبيلة بني عياش رئيسا على جهة طنجة – تطوان. عدم التجذر الاجتماعي والاقتصادي بخلاف النخبة السوسية التي عملت سواء بشكل ذاتي أو بشراكة مع الدولة على إنجاز عدة مشاريع اقتصادية أو اجتماعية بمختلف أنحاء منطقة سوس، معتمدة في ذلك على روح ارتباطها بالأرض، وكذا علاقات التضامن التي تجمع بين مكوناتها، سواء داخل المملكة أو بجاليتها المقيمة ببعض الدول الأوربية، وعلى رأسها فرنسا، فقد لوحظ تقاعس النخبة الريفية على تبني هذا المنحى. فعلى الرغم من الموارد المالية التي تحولها جاليتها المقيمة بأوربا إلى أفراد عائلتها، وما تجلبه معها خلال زيارتها للمنطقة في عطلها الصيفية، فقد لوحظ غياب اهتمامها بإنجاز مشاريع اجتماعية بالمنطقة على الرغم من الخصاص الكبير الذي تعاني منه قراها ومداشرها في البنى التحتية وضعف تجهيزاتها المرفقية بسبب التهميش الطويل الذي فرض عليها من طرف السلطة، سواء في عهد الاستعمار الإسباني برئاسة فرانكو، أو في عهد نظام الملك الراحل الحسن الثاني. وقد تواصل هذا السلوك حتى بعدما تبلورت نخبة ريفية، وتقلد بعض أعضائها مناصب سياسية حساسة في دواليب الدولة في عهد الملك محمد السادس؛ فرغم إشراف هذا الأخير على تدشين مجموعة من المشاريع الاجتماعية والاقتصادية بهذه المنطقة، فقد استشعرت الساكنة بأن ذلك لم ينعكس إيجابا على تطور منطقة الريف المهمشة، وأن النخبة الريفية التي تدعي انتمائها إلى المنطقة لم تواكب عملية التطور هذه. ولعل تأخر مشروع منارة الريف وتداعيات إنجازه قد رسخت هذه الفكرة، وكانت من بين الأسباب الكامنة وراء الحركية الاحتجاجية التي شملت مختلف أنحاء هذه المنطقة، وتواصلت لأكثر من سبعة أشهر. وقد اتهم نشطاء هذا الحراك مكونات النخبة الريفية سواء المحلية أو الوطنية بتقاعسها، حيث رفضوا التفاوض مع ممثليها والمطالبة بالتفاوض مباشرة مع الملك، ما اضطر السلطة المركزية، في محاولة لنزع فتيل هذا التوتر، إلى إقالة مجموعة من ممثليها المحليين بالمنطقة. فخلال الزيارة التي قام بها محمد حصاد، وزير الداخلية، والشرقي اضريس، الوزير المنتدب في الداخلية السابقين، إلى المنطقة، للتعرف على مكامن الاحتقان الذي تعرفه مدينة الحسيمة، أجريت حركة انتقال كبيرة وغير مسبوقة في منطقة واحدة، همت إقالة مسؤول الشؤون العامة بالعمالة،، وإحالة عامل الإقليم على الإدارة المركزية لوزارة الداخلية، وتعويضه بالوالي المفتش العام لوزارة الداخلية محمد فوزي. كما شملت قرارات الإعفاء خمسة باشوات لمدن الحسيمة، وإمزورن، وبني بوعياش، وأجدير، وتاركيست، و12 قائدا ضمنهم قائدا المقاطعتين الحضريتين ببني بوعياش، وقائد بجماعة إمرابطن، وقواد بمقاطعات حضرية بالحسيمة، ليتم تعويضهم ببعض أبناء المنطقة وأعيانها، إذ تم تعيين بعض المنتمين إلى عائلات كبيرة، مثل الطالبي الذي كان قائدا بسيدي سليمان، وحميد الخطابي، حفيد عبد الكريم الخطابي القادم من المضيق، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من رجال السلطة المنحدرين من إمزورن (أبو القاسم الذي كان رئيس دائرة بالبيضاء وعين باشا بإمزورن) وعبد النور بنحماني القادم من زاكورة ومحمد جراد من وجدة. وبالموازاة مع هذه الإعفاءات التي شملت الإدارة الترابية، تم على صعيد وزارة الصحة إبعاد المندوب الإقليمي للوزارة بالحسيمة، ومدير المستشفى الإقليمي محمد الخامس بالمدينة، ليتم تكليف طبيبين من المنطقة بالقيام بهذه المهام بشكل مؤقت. - عدم التجذر السياسي إذا كانت منطقة سوس، التي تتشابه مع المنطقة في عدة مناح اقتصادية وسياسية، قد عرفت بمشاركتها الكبيرة في العمليات الانتخابية، فمنطقة الريف تتميز بضعف مشاركتها الانتخابية رغم ما تجسده من سخط ومعارضة سياسية. ولعل الأمر يرتبط بالأساس بكون منطقة سوس قد بلورت نخبة سوسية تجذرت سياسيا بهذه المنطقة التي عانت بدورها من بعض مظاهر التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والتي وجدت لها عدة تعبيرات حزبية، سواء من خلال الانضمام إلى بعض أحزاب المعارضة، كالاتحاد الوطني للقوات الشعبية أو الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أو لبعض الأحزاب الأخرى كحزب التجمع الوطني للأحرار، وحزب الاستقلال، وحزب العدالة والتنمية، فمنطقة الريف لم تبلور نخبة ريفية نجحت في التماهي مع تنظيمات حزبية متجذرة في هذه المنطقة، بما فيها تلك الأحزاب المتموقعة في المعارضة. إذ إن الكثير من هذه الأحزاب لم تستطع التماهي مع ساكنة المناطق الريفية أو الجبلية، خاصة من الشباب، نظرا لانتشار الأمية في الساكنة، ولأن الفئة المتنورة من منطقة الريف فضلت الاستقرار بالدول الأوربية، خاصة بهولندا، والاندماج السياسي في مؤسساتها إلى جانب محاربة السلطة السياسية للتنظيمات اليسارية، السرية والعلنية، والعمل كل ما في وسعها من أجل تبخيس العمل السياسي والحزبي، فحاربت الأحزاب السياسية، وضعّفت النقابات، وفعاليات المجتمع المدني. وقد نجم عن هذه السياسة التي نعتت ب"عسكرة المنطقة"، فراغ سياسي قاتل حاولت السلطة أن تملأه من خلال المراهنة على تصدر فعاليات ريفية لحزب الأصالة والمعاصرة. وقد انعكس هذا الفراغ من خلال المواجهة المباشرة بين السلطة ومتزعمي الحركية الاحتجاجية بهذه المنطقة. "فبعد ساعات قليلة من ذيوع خبر مقتل محسن فكري، نزل عامل إقليمالحسيمة ليحاور المحتجين في الفضاء العام رأسا لرأس، وهو الفضاء الذي أنتج ناصر الزفزافي، قائد حراك الريف...في غياب أي نوع من الوساطة الاجتماعية أو السياسية، التي تتمظهر في تدخل أحزاب سياسية (برلمانيين، منتخبين)، أو جمعيات، أو نقابات... فقد كانت السلطة في تلك الليلة وجها لوجه مع المحتجين الغاضبين". وبعدما فشل التفاوض بين السلطة ومتزعمي هذا الحراك، بعد سبعة أشهر من الاحتجاجات الشعبية، اتخذت هذه المواجهة الثنائية شكلا صداميا بين قوات الأمن ونشطاء هذا الحراك، والتي انتهت باعتقال العديد منهم ومحاكمتهم. وبالتالي فسياسة إنتاج أعيان جدد في منطقة الريف، وتأطيرهم في حزب غير متجذر سياسيا، لم تعط أكلها ولم تساهم فعلا في استتباب الأمن والولاء في منطقة الريف. من هنا، يبقى من الضروري إعادة النظر في علاقة السلطة بساكنة هذه المنطقة؛ وذلك من خلال خلق أجواء الثقة السياسية بين الطرفين، عبر: - استكمال عملية المصالحة بين السلطة وساكنة هذه المنطقة التي دشنها الخطاب الملكي، وذلك من خلال الإسراع في إنجاز متحف الريف الذي قُدّم الوعد بإنجازه منذ سنة 2011 بمساهمة مالية من الاتحاد الأوروبي قدرت بأربعة ملايين أورو، و200 مليون سنتيم من صندوق الجماعات المحلية التابع لوزارة الداخلية. فرغم خطاب أجدير الذي دشن لبداية مصالحة سياسية مع سكان هذه الجهة، وبعض الزيارات الملكية إلى هذا الإقليم لتدشين بعض المشاريع والأوراش الكبرى، بما في ذلك ورش "الحسيمة منارة المتوسط"، أو تعود الملك قضاء إجازته الصيفية في بعض شواطئ هذا الإقليم، فإن هذا لم يؤد إلى مأسسة هذه المصالحة السياسية وإعادة ترميم الذاكرة الجمعية لسكان منطقة الريف. فالتأخر في تأسيس متحف لحفظ ذاكرة المنطقة، ورفض استعادة رفات الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي ودفنه في تراب هذا الإقليم، جعل هذه المصالحة عملية متوقفة بما أرخته من تداعيات على هذا الحراك. - بناء معاهد جامعية عليا، منها جامعتان علميتان في كل من الحسيمةوالناظور، تحملان اسمي رمزين وطنيين هما: محمد بن عبد الكريم الخطابي ومحمد الشريف أمزيان، والتي كانت من بين المشاريع العلمية التي تم رفعها من قبل مجموعة من الفاعلين الجامعيين والثقافيين والمؤرخين إلى هيئة الإنصاف والمصالحة برئاسة إدريس بن زكري سنة 2004، في إطار ما أطلق عليه آنذاك "جبر الضرر الجماعي". ذلك أن إنشاء هاتين المؤسستين سيمكن من إنتاج نخبة ريفية شابة ومتماهية نفسيا، وفكريا، وثقافيا مع منطقة الريف عوض نخبة ترتبط بها بالانتماء الاسمي أو الجغرافي. - إعادة النظر في التقسيم الجهوي الحالي، وذلك من خلال بلورة جهة الريف كجهة مندمجة ومنسجمة سواء على الصعيد الجغرافي أو التاريخي أو اللغوي، بدل إلحاق هذه المنطقة بجهة طنجة أو تطوان التي لا تتماهى مع ساكنة هذه المنطقة تاريخيا، أو اجتماعيا، أو لغويا.... - رفع التهميش الاقتصادي والاجتماعي عن المنطقة وفق ما ورد في الخطاب الملكي بالحسيمة سنة 2004 عقب زلزال الأرض، والذي جاء فيه بصفة خاصة: "ومن منطلق منظورنا الإستراتيجي للقضايا الكبرى للأمة، فقد أصدرنا تعليماتنا للحكومة قصد الانكباب الفوري على إعداد مخطط تنموي مندمج وهيكلي، على المدى المتوسط والبعيد، من أجل تأهيل إقليمالحسيمة، وإعمار منطقة الريف. وسنقف شخصيا، سواء من خلال المتابعة الموصولة، أو الوقوف في عين المكان، على حسن إنجاز البرنامج الاستعجالي، واعتماد المخطط المتوسط والبعيد الأمد، الكفيل بجعل منطقة الريف، التي نوليها عنايتنا الفائقة، قطبا للتنمية الحضرية والقروية، في جهة الشمال، مندمجا في النسيج الاقتصادي الوطني". فهذا المخطط ينبغي "أن يتضمن مشاريع مضبوطة، في أهدافها ووسائل تمويلها، وآجال إنجازها وتقييمها، لتمكين المنطقة من التجهيزات الأساسية، المائية والكهربائية والطرقية الكفيلة بفك العزلة عنها، وربطها بالشبكة الوطنية عبر محور فاس – الحسيمة، والإسراع بإنهاء المدار الطرقي المتوسطي، مع إيلاء أهمية خاصة لتشجيع الاستثمارات والمشاريع التنموية المدرة لفرص الشغل، خاصة في قطاعات السياحة والصيد البحري، وبناء اقتصاد فلاحي عصري ومنتج". - العمل على إصدار عفو شامل عن نشطاء حراك الريف ينسجم مع مضمون الخطاب الملكي الذي ألقي بالبرلمان في دورته الخريفية في أكتوبر 2017، والقرارات التي وردت في البلاغ الملكي بإقالة مجموعة من الوزراء وكبار المسؤولين في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة. ولعل الاستجابة المتدرجة لمختلف هذه الشروط ستساهم بلا شك في خلق المناخ الملائم لإنتاج نخب سياسية ريفية متجذرة في المنطقة، تحمل أفكارا نوعية ترتبط أساسا بمكونات التركيبة المجتمعية الريفية وقضاياها الهامة، وقادرة على امتلاك رؤية واضحة تحدد العلاقات بين كل المجالات وأبعاد السياسة المحلية في علاقتها بالسلطة المركزية والالتزام المبدئي بانشغالات ومصير الريف، بدل الولاء المزدوج الذي لم تستطع أغلب "النخب السياسية" السابقة تجاوزه والانسلاخ عنه. فرمزية هذه المظلومية السياسية التي جسدها الجسد المطحون لفكري هي التي فعلت الحراك ومنحته الوهج الاستمراري الذي ميزه، من خلال المظاهرات الاحتجاجية المتواصلة التي أصبحت تعرفها شوارع الحسيمة والمناطق الريفية المحيطة بها. وبدل أن تستوعب السلطة هذا المعطى السياسي وتتفاعل معه بشكل يناسب حجمه الرمزي والاحتجاجي والمطلبي، واجهته بنوع من التجاهل الإعلامي من خلال عدم اهتمام وسائل الاتصال الرسمية بمتابعة تطوراته في الوقت الذي اتخذت منه وسائل التواصل الاجتماعي عبر الصور والفيديوهات مادة دسمة للمتابعة والتغطية الإخبارية، مما جعل وسائل الإعلام الدولية تلتفت إلى الاهتمام به ومتابعة تطوراته.