غيرت اسمها عبر التاريخ واحتفظت بذاكرة ليست كرائحة «الخزامى» ولا كعبق الهواء الممزوج بملح المتوسط وشيء من غابات الصنوبر. تغيرت العهود والوعود وبقي دفتر التاريخ المفتوح بها تفوح منه رائحة الألم وتزاحم عطر الخزامى. دفتر مفتوح على من يضيف به سطورا. هي مدينة هادئة، لكن هدوئها لا يعني المهادنة. مدينة يغلب عليها الأزرق والأبيض وتذوب ألوان البحر والسماء على خدود جدران ديارها، لكن سلام ألوان الجدران لا يعني استكانة ساكنيها، مدينة بشواطئ فاتنة لكنها تصحو وتنام على حكايات الجمر الحارقة. إنها مدينة الخزامى أو «الحسيمة» هادئة تقف واثقة على أرض زلزالية. هي القلب النابض للريف، تقع شمالي شرقي المغرب، عيونها على البحر الأبيض المتوسط، محاطة بسلسة جبال سميت جبال الريف، كانت عنوان أغاني عديدة عن الملاحم والمقاومة والصمود وعن الألم والأمل. أغان جعلت من الجبل موضوع إبداع وهو يحتل جزءا مهما في التراث الريفي الذي تتغنى به الحسيمة، وليس فقط الحسيمة، فكلما قال أحد في المغرب جبال الريف صدح في أذنه غناء سعيدة فكري «يا جبال الريف، علاش تكذبي وتباني قدامي فرحانة» بمعنى يا جبال الريف لماذا تكذبين وتتظاهرين أمامي بالفرح؟ قصص خلف الاسم تأسست مدينة الحسيمة على يد الاستعمار الاسباني سنة 1927 عقب توقف حرب التحرير التي كانت بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي. يقول علي الإدريسي المؤرخ أنه أطلق على المدينة في البداية اسم «بيا سان خورخو» تكريما للجنرال الاسباني اسان خورخو الذي نجح في إنزال قواته البحرية على شاطئ الموقع. وسميت الحسيمة في بداية الاستقلال ب»بيا الحوسيماس» والحوسيماس اسم اسباني لجزيرة النكور، المستعمرة من اسبانيا منذ عهد السلطان المولى إسماعيل سنة 1673. وهي تقع قرب قرية أجدير، مسقط رأس الخطابي البعيدة 8 كيلومترات إلى الجنوب الشرقي للحسيمة. ويقول الإدريسي مضيفا، أنه في سنة 1957 أطلق المغرب المستقل على المدينة اسم «الحسيمة» ورسمها عاصمة لإقليم منطقة الريف الأوسط ولا تزال. واختلف المؤرخون والباحثون حول اشتقاق الاسم الحالي، الحسيمة، فقد يكون مشتقا من الحسم الذي يعرف به أهل الإقليم، بل كل الريف، حسب الإدريسي وقد يكون مشتقا من نبتة الخزامى التي تشتهر بها المنطقة، وهناك من يقول أن «الحسيمة» هي تحريف لكلمة «المزمة» وهي مدينة ريفية ساحلية قديمة كانت تقع بالقرب من موقع الحسيمة الحالي، ويعزز ذوو هذا الافتراض فرضيتهم بكون بعض الكتابات الأجنبية، خاصة الاسبانية حينما تتحدث عن مدينة النكور المقابلة لمدينة المزمة وسمتها بينو دالحسيماس. معنى آخر للريف لا يحمل اسم الريف في المغرب الدلالة نفسها في الشرق التي تحيل على القرى الجانبية للحواضر. الريف في المغرب منطقة في شماله معروفة بسلسة جبال وعرة وقمم شاهقة وغطاء نباتي كثيف، وهو موطن جزء هام من المغاربة الأمازيغ الذين يسمون «ريافة» ولسانهم هو الريفية وهي أحد مكونات اللغة الأمازيغية التي أقرها دستور سنة 2011 لغة رسمية للبلاد إلى جانب العربية. ويمتد الريف جغرافيا بين مضيق جبل طارق ومدينة طنجة غربا إلى حدود الجزائر شرقا مع محاذاة البحر الأبيض المتوسط وجنوبا تتداخل المنطقة مع سهول الغرب ثم سايس وصولا إلى مناطق المغرب الشرقية. وتعد الحسيمة من أهم حواضر الريف إلى جانب تطوان والناظور، وطنجة يختلف الباحثون في نسبتها للريف. تعد الحسيمة قلب الريف الأوسط وهو مفتوح على الواجهة المتوسطية ويبلغ عدد سكان المدينة وحدها حوالي 55 ألف نسمة، وإقليم الحسيمة ككل حسب معطيات إحصاء 2014 يصل عدد ساكنته إلى 399654 نسمة وهو ما يمثل 11،2 في المئة من السكان على الصعيد الوطني. ويتوزع السكان بشكل غير متوازن بين المجالين الحضري والقروي وبلغت نسبة التمدن في الريف 34،4 في المئة مقارنة 59،9 في المئة على المستوى الجهوي و 60،4 في المئة على المستوى الوطني. مدينة الهدوء قدر المدينة الهادئة أن تقع جيولوجيا فوق أرض تعرف نشاطا زلزاليا متواصلا، وآخر زلزال كبير كان سنة 2004 وتسبب في مأساة إنسانية كبيرة، إذ خلف آلاف القتلى والجرحى. وسياسيا أن تعيش على سلم مضطرب مع السلطة المركزية ودرجات التوتر قد تعرف انخفاضا لكنها لم تختف لأن الماضي عالق في الذاكرة وما زال يخط جزءا من فصول الحاضر، فصول اتسمت بهزات اجتماعية وسياسية مستمرة. «ارتبط اسم الحسيمة ومناطق الريف عموما باعتزازهم الكبير بمقاومة الاستعمار منذ 1909 إلى 1912 مع الشريف محمد أمزيان، ومع الخطابي بين 1920 و1926، وانبعاث جيش التحرير مجددا في جبال الريف سنة 1955 لدحر الاستعمار. مما أرغم فرنسا على إعادة السلطان محمد الخامس إلى عرشه، بعد أن كانت قد عزلته ونفته إلى مدغشقر»، يقول المؤرخ والباحث علي الإدريسي ويضيف أن «وجود الريف في صدارة منهجية التحرير أقلق أعوان الاستعمار وورثته في دولة وسلطات المغرب المستقل، فهمش وأقصي من كل ما له علاقة بمزايا دولة الاستقلال». ويقول الادريسي ل»القدس العربي» في سلسة أحداث وشمت ذاكرة الريف «فبعد أن اتهموا سنة 1958 بعدائهم للملك وبنزوعهم للانفصال، مما نجم عنه هجوم عسكري على الريف بمساعدة فرنسا ترأسه الراحل الحسن الثاني حينما كان وليا للعهد، لم تتوقف الذاكرة النازفة في ذلك التاريخ بل كانت الساكنة سنة 1984 على موعد آخر مع الألم الجماعي بعد التدخل العنيف في حق المظاهرات التي نشبت في مجمل المناطق المغربية، وكان أن نالت ساكنة الريف نصيبا وافرا من التنكيل وصل حد التوصيف القدحي لهم من طرف أعلى سلطة رسمية على شاشات التلفزيون. الملك محمد السادس فتح صفحة جديدة مع الريف منذ صيف 1999 وزار أقاليمه مرات عدة خاصة بعد زلزال الحسيمة سنة 2004. اعتقد المغاربة أن مصالحة حقيقية ستتم بين مكونات الأمة المغربية والمخزن، واعتقدوا أن دولة المؤسسات ستحل محل المخزن، حيث أعطى تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة الأمل القوي في ذلك، خاصة أن رئيسها كان من ضحايا سنوات الجمر والرصاص» يقول الإدريسي مشيرا للاستقبال المنقطع النظير الذي كانت ساكنة الريف تخص به الملك محمد السادس أثناء زياراته «وكان يتجول بحرية بين الرعايا الذين أحسوا معه لأول مرة بأنهم مواطنون» متسائلا عما الذي حدث حتى «انبعث المخزن من تحت رماده على الرغم من دستور2011»؟ مشيرا للأحداث الأخيرة والغليان الذي تعيش على إيقاعه منطقة الريف خاصة بعد الأحكام الأخيرة الصادرة في حق معتقلي الحراك. شواطئ تنتظر عودة عاشقيها والواقع لا يرتفع وجمال الطبيعة والشواطئ الأخاذة في الحسيمة لا يغير واقع الحزن الذي يعم المنطقة والذي كان له أثر على واقع السياحة الذي يعد النشاط الأساسي في المنطقة إلى جانب الصيد البحري وعائدات الجالية المقيمة في الخارج. وينتظر السكان هذا الصيف بداية دخول المهاجرين لخلق رواج اقتصادي، فإلى حدود بداية الأسبوع الماضي دخل 1341 مهاجرا عبر ميناء الحسيمة، ويفترض حسب المعهود في المدينة أن يرتفع الرقم تدريجيا، غير أنه حسب إفادات بعض الساكنة فالمهاجرون يسألون ذويهم عن المحاذير من الدخول للحسيمة خاصة بالنسبة لنشطاء الحراك في المهجر. وتعرف المدينة عادة رواجا اقتصاديا مرتبطا بالسياحة الموسمية في فصل الصيف بفضل عودة المهاجرين. هي سياحة، لكنها تندرج في إطار صلة الرحم وزيارة الأقارب، لأن «السائحين» هم أبناء المنطقة، غير أن زيارتهم لذويهم تعود بالعملة الصعبة على المنطقة. وقبل مقتل بائع السمك محسن فكري في تشرين الأول/اكتوبر 2016 كان هناك أيضا نوع من السياحة الداخلية شجعتها الزيارات الملكية للمدينة، تراجعت منذ اندلاع الحراك والملك لم يزر المدينة. ما يغري بالسياحة الداخلية في الحسيمة شواطئها التي تعد من أفضل الشواطئ في المغرب: شاطئ كيمادو وكنابوليتا والصفيحة وتلايوسف وشاطئ بوسكور الذي يزوره الملك، والسواني وأيسري. في حين ما زال الاشتغال على متحف الريف ساريا وهو من توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة ويتابعه المجلس الوطني لحقوق الإنسان ويعود تأخر إنجازه، حسب مصدر من المجلس، لأسباب مرتبطة بالسيولة المالية وعدم التزام شركاء الجهة والمجلس الإقليمي ووزارة الثقافة. ويعد السردين المشوي الطبق الأكثر طلبا في الحسيمة، فهو في هذه المدينة من أجود ما تجود به واجهتا المغرب البحريتان من أسماك، وكانت وزارة الصيد البحري تقيم مهرجان السردين في الحسيمة غير أنها توقفت عنه خلال السنتين الأخيرتين. المهرجانات الفنية هي الأخرى عرفت تراجعا، ومنها مهرجان جمعية «الريف للتنمية والتضامن» وآخر مهرجان تم تنظيمه كان قبل اندلاع الحراك. ويروج حديث عن رغبة اتصالات المغرب في تنظيم مهرجان فني في المدينة غير أن حالة الترقب بعد الأحكام تجعله في عداد اللايقين. وحالة الترقب هاته سمة عامة تحيا على وقعها شواطئ المدينة ومهرجاناتها المؤجلة وكل الساكنة التي ترقب بعيون الأمل عما إذا كانت الأيام المقبلة ستلوح بأفق تنفرج فيه الأحزان، وتعود المدينة إلى سابق عهدها المفعم بالحيوية في الصيف، فهل تحمل رياح بحر الحسيمة عطر خزامى أم رائحة زلزال جديد؟ سعيدة الكامل/ القدس العربي