إذا كان منطلقنا المنهجي في تقديم هذه الوثيقة التاريخية النادرة لعبد الرحيم بوعبيد رحمه الله (1922-1992) هو الأدوات المرتبطة إجرائيا بتاريخ الأفكار السياسية، فإن هذا الحقل المعرفي يتقاطع مع حقول معرفية أخرى، في رَعيلِهَا التاريخ والقانون وسوسيولوجيا القانون وأنتروبولوجيا القانون. وإذا كان هذا التكامل المعرفي بين تاريخ الأفكار السياسية وتاريخ الوقائع والأحداث والقانون يَتَوَطدُ بِما يَصِلُ الأصل بالفرع، فَلِأَن وثيقة الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد التاريخية النادرة أَعْمَقُ من أن تكون مجرد خطابٍ سياسي مُقَيدٍ بِسِياقٍ سياسي ظرفي. فَمِما يكون مُلْزِماً في حُسْنِ التلقي في إطار أخلاقيات المعرفة، استيعاب وفهم البُنى (جمع بِنْيَة) العميقة والتصورات والمفاهيم والاصطلاحات التي وظفها الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد وصاغ بها مُقارَبَتَهُ الحِجَاجِيةَ في مقاربة قَضِيتَيْ الصحراء المغربية والبِناء المغاربي. ولعل مما يُسْتَنْبَطُ من مغازي نشر هذه الوثيقة التاريخية النادرة لعبد الرحيم بوعبيد بعد 49 سنة من تقديمها، الجمع في آنٍ واحِدٍ بين تاريخ الأفكار السياسية في المغرب وتَحْصين ذاكرة تاريخ الأفكار السياسية. ويمكن تفكيك التصور المنهجي لوثيقة الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد التاريخية بالمفاهيم الآتية: 1- العَلاَمَة، أو الجوهر: أصل هذه الوثيقة، محاضرة قدمها عبد الرحيم بوعبيد في قاعة سينما (Vox) بمدينة وجدة، مساء يوم السبت 21 يونيو 1975. 2- التركيب: تتأيدُ هذه الوثيقة بِخَمْسِ وحدات متداخلة: – قبول المغرب وتونس التفاوض حول موضوع استقلالهما لم يكن البتة سببا في استمرار الحرب سبعة أعوام ونصفاً في الجزائر (فاتح نونبر 1954\5 يوليوز 1962)، بل أن استقلال البلدين ضَمِنَ لثورة التحرير الجزائرية القواعد الضرورية من أجل الانطلاق والتسليح. – تأخر المغرب في تحرير صحرائه في بداية الاستقلال بِطَلَبٍ من الثورة الجزائرية. – لم يحرك المغرب منذ سنة 1953 ملف تحرير الصحراء وهي جزء من سيادته الوطنية، بل أنه أعطى الأولوية لملف استقلال الجزائر وضمان الثقة لتحقيق حسن الجوار. – رفض المغرب التفاوض مع فرنسا في موضوع صحرائه، من باب التشبث بمستقبل البناء المغاربي. – تقديم وثيقة نادرة موضوعها بروتوكول اتفاق وقعته الحكومة المغربية مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بالرباط، يوم 06 يوليوز 1961. – حالة التنافي البَين بين فِكْرَتَيْ "البناء المغاربي" و "وحدة الأشقاء"، وتَهافُتاتِ مقولة "تقرير المصير". 3- التصور الوصفي: وقد اخترنا من عناصره الرئيسة، ما يأتي: – المرجع: إذا نحن أردنا تحديد مقاصد نص خطاب عبد الرحيم بوعبيد، فإن مَرْجِعَهُ الحِجاجِي هو الخطاب الذي ألقاه الرئيس الجزائري هواري بومدين (1932-1978) يوم 19 يونيو 1975 بمناسبة الذكرى العاشرة لانقلاب 19 يونيو 1965 ضد الرئيس أحمد بنبلة (1916–2012). – النص: اخترنا في نشر وثيقة عبد الرحيم بوعبيد معيارَ اعتبارِ خطابه السياسي وثيقةً تاريخيةً قائمة بِذاتها. ولا نزال نؤكد أن ذاك الخطاب إنما يكتسب صفة الدلالة الاصطلاحية للوثيقة التاريخية، من زاوية المقاربة الموضوعية النوعية التي أحسن عبد الرحيم بوعبيد توظيفها، في إطار تشكيلة خطابية متكاملة (المُرْسِلُ-المُرْسَلُ إِليه-الرسالة)، ثم نُرْدِفُ على ذلك بأن ذاك الخطاب إنما يكتسب أيضا صفة الدلالة الاصطلاحية للوثيقة التاريخية، من زاوية سياقه التاريخي. ونقصد بالسياق التاريخي، البنيةَ التركيبيةَ التي تجمع ما بين الفضاء الجغرافي والزمان التاريخي. ولأجل ذلك اعتمدنا مَنْطوقَيْ ومَفْهومَيْ التوثيق والتحقيق في قراءة تلك الوثيقة التاريخية، من جهة إخراجها في صورة أقرب إلى الصواب كما هو مُتداولٌ في علم تحقيق الوثيقة المخطوطة، أو ما هو في حُكْمِ الوثيقة المخطوطة، ومن جهة ضبط أسماء الأعلام والوقائع التاريخية الوارد ذكرها في الوثيقة. – المقابلة: فقد اتخذنا أَصْلاً، نص محاضرة الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد في قاعة سينما (Vox) بمدينة وجدة مساء يوم السبت 21 يونيو 1975، والتي نشرتها جريدة (المحرر) في العدد رقم: 347، يوم الثلاثاء 13 جمادى الثانية 1395 \ 24 يونيو 1975. وقد قابَلْنا على هذا النص الأصلي مُلَخَّصَيْنِ لِمُحاضَرَةِ عبد الرحيم بوعبيد، دُوِّنَتْ فيهما رُؤوسُ أَقْلامِ المحاضرة. وقد زَكَّتْ شهادات شفويَّةٌ مضمون المُلَخَّصَيْنِ. ولعل مما يعكس القيمة الإجرائية للشهادةِ الشَّفَوِيَّةِ، أن التاريخ الشَّفَوِيَّ حَقْلٌ مَعْرِفِيٌّ قائمٌ بذاته خُصَّ أكاديميا بِقِسْمٍ مستقل في جامعة (Columbia) الأمريكية منذ سنة 1948. وليس هناك شك في أن في نشر هذه الوثيقة التاريخية النادرة لعبد الرحيم بوعبيد، من المحامل السياسية والمعرفية اللائقة بها، ما يجعل من وَضْعِ أُسُسٍ علميةٍ للتصالح مع ذاكرتنا السياسية الجماعية أَوْلَوِيةً أكاديميةً. فهذه الوثيقة التاريخية، من حيث طبيعةِ المقاربةِ الموضوعيةِ ومنهجِ قراءةِ التاريخِ ووِعاءِ تأويلِ وقائعِ التاريخِ السياسي والأفكارِ المقترنةِ بِهِ، أَرْحَبُ وأَعْمَقُ من قراءَتِها قراءةً وظيفِيَّةً ظَرْفِيَّةً، لأن العبرةَ في حُسْنِ تَلَقِّيها هو ما يُحيل عليه خطاب عبد الرحيم بوعبيد ذاتُهُ من قابِلِيَّاتٍ مستقبلية. – نص الوثيقة التاريخية: أيتها الأخوات، أيها الإخوان: إن قضية اليوم هي قضية الصحراء المغربية وكفاح الشعب المغربي من أجل وحدة ترابه، وكيف تصبح هذه القضية قضية مصيرية للشعب المغربي من أجل تحرير المجتمع المغربي من كل أنواع الاستغلال والعبودية، ومن أجل الديموقراطية الحقة… وإذا قلنا أن كفاح الشعب المغربي مَصيرِيٌّ في ما يتعلق بالوحدة الترابية ومناهضة الاستعمار وأعوانه وعملائه فإن كلمة (كفاح) ليست جوفاء. وأما كلمة (مَصيرِيٌّ) فَمَعْناها أن نقرر مصيرنا اليوم ومصيرنا في المستقبل. إنها كلمة ذات تاريخ حافل لأنها تقترن بِشَعْبٍ ذي كفاحات مرت عليها قرون وأجيال، مثلما أن كفاحاته الأخيرة أدت إلى تحرير أجزاء أولى من ترابه (استرجاع طرفاية يوم 15 أبريل 1958، وسيدي إفني يوم 30 يونيو 1969). ويضاف إلى كل ذلك أن هذا مصيريٌ حتى لإخواننا الصحراويين. فَلْيَعْلَمْ هؤلاء الإخوان في الصحراء الغربية، وربما حتى في الصحراء الشرقية (التي اقتطعها الاستعمار الفرنسي من المغرب و ضَمَّها إلى الجزائر)، أن الحركة التقدمية في هذه البلاد ليست حركة ترمي إلى وطنيةٍ ضيقةٍ وعمياءَ، بل هي حركة تريد مناهضة الاستعمار، و لا تنسى في نفس الوقت المشاكل الداخلية لأنها تكافح من أجل الديموقراطية في هذه البلاد. إننا لا نبتغي تحرير هذه الصحراء ليصبح إخواننا الصحراويون في حالة عبودية واستغلال، ولكننا نريد تحريرهم حتى يصبح المغرب بِأَجْمَعِهِ قد أخذ زمام مصيره بنفسه على أسس الديموقراطية و وَفْقَ اختياراته و طِبْقَ مراقبته الحاكمين. إنه عندما يُقالُ أحيانا: هل قمنا بواجباتنا في الوطن المُحَرَّرِ، حتى نريد القيام بهذا الواجب في الأجزاء المغتصبة التي لم تُحَررْ بعد ؟ إنها سَفْسَطَةٌ و مُبَرِّرٌ واهٍ ومُغالطاتٌ ودِعايةٌ يَبُثُّها خصومنا. فَلْيَعْلَمِ الجميع و لْنُطْلِعِ الجميع، سواءً أكانوا صحراويين أم غير صحراويين، على أن المعركة واحدة. هناك أولوياتٌ حقيقيةٌ، ولكن المعركة شاملة بجميع جوانبها ولا ينفصل بعضها عن بعض، لأن أجزاءها متصلةٌ. فتحرير ترابنا الوطني يرتبط ارتباطاً كلياً بإقامة نظام ديموقراطي صحيح في هذه البلاد، مما يقتضي تعبئة حقيقية وإرادة صادقة وسَيْراً إلى الأمام نحو آفاق مفتوحة أمام الشعب بأجمعه، وأمام إخواننا في الساقية الحمراء ووادي الذهب. لا أريد أن أتناول قضية الصحراء من كل وجوهها، ولكنني سأقتصر على بعض قضاياها الظرفية التي نعيشها في هذه الأيام. لقد أصبحنا اليوم أمام حقائق تتطلب من الشعب المغربي بأجمعه أن يتخذ كل التدابير الضرورية لِيُبَيِّنَ للعالم أجمع أنه قادرٌ ومُصَمِّمٌ على أن يحقق بوسائله الخاصة وحدته الترابية المنشودة، منذ إعلان الاستقلال سنة 1956. إن من واجبنا إقناعَ خصومنا وأصدقائنا والملاحظين أن تاريخ المغرب مرتبط بقضية الصحراء، وأن وحدة المغرب الترابية كانت تنطلق دائما من المناطق الصحراوية، أي من الجنوب إلى الشمال. فَلْنُذَكِّرْ على سبيل المثال أن وحدة المغرب الترابية وارتباط الصحراء المغربية بشمال المغرب لهما جذور على عهد المرابطين والموحدين والمرينيين والسعديين، ثم العلويين. فالثابت غير الطارئ أن المنطلق والتحرير يَرِدانِ من الجنوب إلى الشمال. ومن البراهين التاريخية البينة على ذلك وثائق لا تقبل الجدال تخص مقاومة الشيخ ماء العينين (1831-1910) ضد الاستعمار في جنوب المغرب، وكان شماله تحت القبضة الاستعمارية. إن الشيخ ماء العينين لم يكتف بالمقاومة ضد الاستعمارين الفرنسي والإسباني في شمال موريتانيا وفي الساقية الحمراء ووادي الذهب، بل أعلن استراتيجية للمساهمة في تحرير الأجزاء الشمالية، أو على الأقل صد العدوان الاستعماري الفرنسي والإسباني في الشمال. ففي هذه التجربة من المقاومة ما يقوي أدلة الارتباط المتين بين كل أجزاء المغرب في وحدته الترابية. وهناك تجربة أخرى من المقاومة جسدها الشيخ أحمد ولد عايدة (1889-1932)، أحد أنصار الشيخ ماء العينين. فقد اقتفى أثره في قيادة قبائل الصحراء ضد الاستعمار الفرنسي، بينما كان المغرب يرزح تحت وَطْأَةِ الحماية الفرنسية والإسبانية. وقد اعتقل الجيش الفرنسي الشيخ أحمد ولد عايدة يوم 21 يناير 1912، ونهب سنة 1913 مدينة السمارة التي بناها الشيخ ماء العينين. وقد واصل الشيخ أحمد ولد عايدة رفع راية المقاومة ضد الاستعماري الفرنسي والإسباني وسقط شهيدا في ساحة الشرف يوم 19 مارس 1932. ويضاف إلى كل ذلك معركة الاستقلال الكبرى التي كانت الحركات الشعبية طليعتها التي تمثلها المقاومة وجيش التحرير. فأول نواة لجيش التحرير إنما كانت في جنوب المغرب وتحديداً في مناطقه الصحراوية، وكان التأسيس في شمال المغرب في أكتوبر 1955. ولما شهد المغرب أحداثاً جِساماً ما بين 1952 و 1956، أكد التاريخ من جديد دور القبائل الصحراوية الأساسي في تحرير المغرب وفي تحقيق وحدته الترابية. ولا بأس من التذكير بأن جيش التحرير واصل مسيرته في الكفاح ضد الاستعمار الإسباني والفرنسي من أجل إكمال مسيرة التحرير والوحدة الترابية حتى بعد استقلال المغرب سنة 1956، إِذْ وصلت طلائعه مرات عديدة إلى ربوع (أطار) (في موريتانيا الحالية)، بل أن مجال تحركات جيش التحرير كان يمتد من (أطار) إلى (طنطان). ولا يختلف اثنان في أنه لو تم آنذاك اتخاذ القرارات الرسمية الصائبة لإكمال مسيرة التحرير، لما وجدنا أنفسنا اليوم أمام مشكل الصحراء. فقد تمت تصفية جيش التحرير في الجنوب في فبراير 1958، وتم حله سنة 1960. لقد أعاد التاريخ ما حدث في أوائل القرن 20 وتحالف الاستعمار الفرنسي والإسباني من أجل تصفية جيش التحرير وطرده من موريتانيا والساقية الحمراء ووادي الذهب، في إطار عملية «Ecouvillon»، التي امتدت من 10 إلى 25 فبراير 1958. ومما يجب أن يظل راسخا في الذاكرة، انتفاضة قبائل (آيت باعمران) المسلحة ضد الاستعمار الإسباني، التي امتدت من 23 نونبر إلى 12 دجنبر 1957. وقد تكللت هذه الانتفاضة البطولية بتقهقر قوات الاحتلال الإسباني إلى مركز سيدي إفني. إن هذا مما يجب بَيانُهُ ومما يجب التذكير به وخاصة في مدينة وجدة العزيزة، التي تُجاوِرُ بِلاداً عزيزٌ علينا شعبُها. فمن أوجب الواجبات أن نَتَذَكَّرَ كل ذلك، وأن نُذَكِّرَ به أولئك الذين يريدون أن يَنْسَوْهُ، أو أن يَتَناسَوْهُ. فلذلك نقول لأصدقائنا بقدر ما نقول لخصومنا، أن قضية الصحراء قضية المغرب بأجمعه، أي أنها قضية 17 مليون مغربي. فلا مُهاوَدَةَ، ولا مساومة، ولا قبول للابتزاز، أو الضغط من أي كان. وأما المغرب فإنه سينتصر والمحقق أنه سينتصر، لأن له من الطاقات البشرية ومن الخصائص الجغرافية بِتُخومِهِ وسهوله وجباله وخيراته ما يجعله يقتحم المعركة، ولا يمكنه إلا أن ينتصر فيها. ولو ترددنا لا قدر الله، أو ضعف الإيمان بقوتنا وبإرادتنا الذاتية وبمستقبلنا، فإننا على يقين بأن الشعب المغربي لن يرضى بذلك، وحتى لو أجبر على عدم استعمال وسائله الذاتية الضرورية لاسترجاع حقوقه المشروعة فإنه سيعيد الكرة في الوقت المناسب. أيتها الأخوات، أيها الإخوان: لقد دخلت قضية الصحراء المحافل الدولية منذ أكثر من 10 سنوات، إذ أخذ المغرب المبادرة سنة 1963 وسجل قضية الصحراء في الأممالمتحدة. وإذا كانت هذه القضية قد عرفت تطورات وتحولات نؤدي ثمنها اليوم، فإن الأجدر أن نقول للجميع أنه آنَ الأوان لإخراج هذه القضية من دائرة المغالطات ومما بُنِيَ على الالتباس والغموض. لقد تم سنة 1964 إدراج قضية الصحراء بِطَلَبٍ من المغرب في جدول أعمال اللجنة الخاصة بتصفية الاستعمار التابعة للأمم المتحدة. وقد صدر يوم 16 دجنبر 1965 قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2072، الذي طالب إسبانيا بصفتها الدولة القائمة بالإدارة، بالقيام فورا باتخاذ التدابير اللازمة والدخول في مفاوضات من أجل تحرير إقليمي سيدي إفني والصحراء الغربية من السيطرة الاستعمارية. إنه لا التباس في أن القرار يطالب الحكومة الإسبانية بالتفاوض مع المغرب في شأن السيادة على تلك الأراضي المغربية المحتلة، لأن المغرب هو الذي وضع ملف الشكاية، مثلما أن منطقتي الساقية الحمراء ووادي الذهب مَعْنِيتانِ بموضوع الشكوى. لقد كان أول قرار للأمم المتحدة واضحا، مثلما أنه لم تكن هناك أطراف أخرى معنية بالأمر، بل أن القرار لم يذكر حتى اسم (موريتانيا). فالقضية لا تخص غير المغرب وإسبانيا، وبعبارة أوضح فإن الأمر محصورٌ في دولة تطالب بوحدتها الترابية وباستكمال تحرير أراضيها، وبدولة أقامت نظاما استعماريا. وبعد كل ذلك كانت هناك ملتمسات أخرى، وبرزت مستجدات أخرى. وإنا لا نزال نعتقد أن المغرب لو وقف سنوات (1964-1965-1966) وقفة رجل واحد، كما نشهده اليوم، لما وصلنا إلى ما نحن عليه في الحاضر. إن واجب النقد الذاتي يُلْزِمُنا الاعترافَ بأنه كان هناك تفريطٌ من المغرب. وإنا نحمد الله على أن إرادتنا اليوم وَثَّابَةٌ ومُتَأَجِّجَةٌ، وتسعى جاهدة إلى أن تتفادى اليوم ما فرطنا فيه بالأمس. ولا نزال متشبثين مبدئيا بأن التصويت الأممي الأول كان واضحا، لأنه قام على أساس أن مداولات الأممالمتحدة فَصَلَتِ الخطاب في مصير الساقية الحمراء ووادي الذهب. و مما يجب التذكير به أن الحكومة الجزائرية صوتت على ذلك بدون أدنى تحفظ خلال جلسة التصويت، وأكدت أنها ليست معنية كلية بالأمر. إن المؤكد هو الاستمرار في التعريف بقضيتنا العادلة ودعم النضال الديبلوماسي بعيدا عن الغرور، وبدون أن نعول على القرارات الديبلوماسية فقط من أجل جلاء الاستعمار عن الساقية الحمراء ووادي الذهب. فذلك جزء من مسؤولياتنا الوطنية يجب القيام به في إطار استراتيجية واضحة تتكامل فيها مكونات نضالنا، دونما ترجيح كفة على كفة أخرى. ومن الطبيعي أن تكون قضية المغرب في المحافل الدولية أولوية من الأولويات لأجل رفع كل أشكال الغموض والالتباس. ومما يندرج في الاستراتيجية الوطنية الربط بين قضية الصحراء المغربية وقضية البناء المغاربي، إذ يعتبر تحرير الأقاليم الجنوبية وإِرْجاعُها إلى المغرب منطلقا نحو البناء المغاربي، كما ننشده. لقد اطلعت هذه الأيام من خلال وكالات الأنباء على ما صرح به رئيس الجمهورية الجزائرية السيد هواري بومدين، وهو يحاول تعليل موقف الحكومة الجزائرية من قضية الصحراء. وقد اخترت في تحليل ذلك التصريح كشف جوانب قد لا تكون بينة. ولذلك سَأَعْمِدُ إلى توجيه خطابي إلى السيد هواري بومدين باعتباره أمينا عاما لحزب جبهة التحرير الوطني وباعتباره مناضلا، وليس باعتباره رئيس دولة. إن أمر الدولة لا يعنيني، وأنا لست عضوا في الحكومة. فأنا مناضل يريد أن يجيب عن تساؤلات مناضل آخر، ويرد على تصريحه. لقد صدر تصريح السيد هواري بومدين يوم 19 يونيو 1975 وقد آثَرْتُ تقسيمه إلى سِتِّ نِقاطٍ، ولذلك سأعرض كل نقطة على حِدَةٍ وأُدْلي برأيي فيها. وإني آمُلُ أن يطلع الشعب الجزائري ورجال الثورة الجزائرية على الحقيقةِ كُلِّ الحقيقة، لأن الصحراء الغربية التي توجد تحت السيطرة الاستعمارية الإسبانية موضوع ليس لنا فيه أي نزاع مع الشعب الجزائري ولا مع الحكومة الجزائرية، إِذْ إنه نزاع بيننا وبين الاستعمار الإسباني والأطماع الإمبريالية. فَلْيَعْلَمِ الشعب الجزائري أن هذه البلاد العزيزة قدمت ما كان من واجبها أن تقدمه للثورة الجزائرية، ولا نقول ذلك من باب المَنِّ، ولكن من باب التأكيد على روابط الأخوة والانسجام التي ميزت الشعبين فيما يتعلق بقضية الصحراء. وسأعرض النِّقاطَ السِّتَّ كالآتي: (1)- لا خلاف بيننا وبينكم حول مستقبل البناء المغاربي ووجوب الوحدة والتضامن، إلا أن دلالات مصطلحات الوحدة والتضامن والتعاون والبناء المغاربي تتطلب تدقيقا صحيحا. (2)- مما جاء في التصريح الجزائري أن قضية الصحراء مشكلٌ "خارجٌ عن إرادتهم."! فمعنى ذلك أنهم لم يقصدوه، أو كأن هذا النزاع جاء وحده من تلقاء نفسه ! إِنَّنا نقول: نعم، لم يكن هناك أَوَّلَ الأمر أي نزاع. فقد كان إخواننا في الثورة الجزائرية وفي جبهة التحرير الوطني على اطلاعٍ على قضايا المغرب، وضِمْنَهَا مشاكل المغرب مع الاستعمار الإسباني. لقد كانوا يعرفون معرفةً مؤكدةً أننا نطالب بالساقية الحمراء ووادي الذهب، بل أنهم أكدوا لنا غير ما مرة تضامنهم الكامل معنا. كما أن إخواننا في الثورة الجزائرية وفي جبهة التحرير الوطني يعرفون أن المغرب فَضَّلَ في السنوات الأولى من الاستقلال عدم مواجهة إسبانيا بما كان الأمرُ يَلْزَمُهُ. لماذا ؟ لقد كان إخواننا الجزائريون يقولون لنا دائما: "هَدْنوا السُّوقْ شْوِيَّهْ مع إسبانيا"، لأن مناضلي جبهة التحرير الوطني كانوا يتمتعون بحرية التنقل في إسبانيا وفي منطقة الحماية الإسبانية في شمال المغرب. فَلِذلك، إذا كانت قضيتنا قد تأخرت فلأنها تأخرت من أجل الجزائر. ومن ثَمَّ، لا يمكننا أن نقبل الادعاء بأن هذا النزاع قائم بغير إرادة الحاكمين في الجزائر ! (3)- احتضنت الجزائر في مارس 1973 حركة انفصالية يتزعمها أحدهم باسم مستعار (موحا الرگيبي) أو (Edouard Moha)، وهي (حركة تحرير الأراضي تحت السيطرة الإسبانية) أو (حركة مقاومة الرجال الزرق) (MOREHOB)، ومولتها ودعمتها إعلاميا. ولما تراجعت هذه الحركة عن مواقفها الانفصالية وأكدت أنه لا مستقبل للصحراء الغربية إلا بالاندماج في الشعب المغربي، أرادت الخروج من الوصاية الجزائرية فالتجأت إلى بروكسيل وكانت هناك نهايتها. ففي هذا السياق احتضنت الجزائر حركة جديدة تساير وصايتها هي (البوليساريو)، واتخذت لها عاصمةً مدينة تندوف المغربية. وبالإضافة إلى الدعم السياسي والمالي واللوجيستيكي والإعلامي المطلق فقد انخرط في المخطط الانفصالي مرتزقةٌ مُوَجَّهينَ ومُمَوَّلينَ. ومن هؤلاء المسمى (أحمد بابا مسكه)(1935-2016)، الذي كان أول سفير لموريتانيا في الأممالمتحدة وحكم عليه بالسجن في بلاده بسبب الارتشاء، ثم أصبح مرتزقا من المرتزقة بدرجة ناطقٍ رسمي باسم (البوليساريو) ومكلفٍ بصلة الوصل بين الجزائر و(البوليساريو). فكيف يمكن يا تُرى لرئيس دولةٍ أن يَدَّعِيَ أن نزاع الصحراء "خارجٌ عن إرادتهم"، في حين أن كل ذلك وقع بمحض إرادتهم ؟! ومما ورد في ذلك التصريح إشارة إلى أن هناك خلافا بين المغرب وموريتانيا، وأن الجزائر لا تريد أن تتدخل بين الأشقاء. فلما كان المغرب يطالب بالصحراء وموريتانيا تطالب بالصحراء، فقد اختارت الجزائر أن يكون مبدأ تقرير المصير هو الحل، لكي لا تقع مواجهة بين الأشقاء ! إِنَّا نقول للسيد بومدين: إن بلادنا عازمة كل العزم، وهو ما عبرت عنه مرارا، للاتفاق مع موريتانيا ضد الاستعمار الإسباني وضد الطامعين. وقد تم الاتفاق سياسيا على أن تكون الساقية الحمراء ووادي الذهب مجالاً يَصِلُ المغرب بموريتانيا، وربما هذا المجال الجغرافي منطقة استغلال مشترك بينهما. فلما كان الشعب المغربي يؤمن بالوحدة المغاربية وبوحدة الأمة العربية، فإنه يقدم بذلك دليلا ملموسا وواضحا على دفع الوحدة إلى الأمام. لقد كان بإمكان المغرب أن يقول: الأرض أرضنا، إِذْ لنا ما يكفي من الحجج التاريخية والإدارية والديبلوماسية لكي لا يُشارِكَنا أَحَدٌ، ولكننا نريد استشراف المستقبل لأن المستقبل ليس هو الوطنية الضيقة، بل الوطنية الموسعة. إننا عندما نقضي كلية على الوجود الاستعماري فإننا نبني المغرب الكبير، بينما يكتفي الآخرون بالكلام عن بناء المغرب الكبير. ولما أصبحت بوادر الاتفاق تظهر وتتحقق بين المغرب وموريتانيا، كان حقيقا بالحكومة الجزائرية أن ترحب باتفاق الأخوين الشقيقين وليس أن تحتضن البوليساريو وتصرح علناً ورسميا بأنها مع تقرير المصير! ففي كل ذلك ما يجلي بوضوح أن إثارة الخلاف بين المغرب وموريتانيا إنما كان مجرد مبرر، ولما زال ذلك المبرر صنعوا مبرراً آخر! فلو كان هناك إنصافٌ وتجاوبٌ مع الرأي العام الجزائري ومع ماضي الثورة الجزائرية لَكان حَرِيًّا بالمناضل الأول في جبهة التحرير الوطني أن يخاطب أطر حزبه بهذه اللغة وبتلك الصراحة، لا أن يتكلم كلاما فيه لُبْسٌ وغموض! (4)- مما جاء في تصريح هواري بومدين أن الثورة الجزائرية كان دورها حاسماً في تحرير المغرب الكبير بأجمعه وفي تحرير إفريقيا، ووردت الإشارة إلى مليون ونصف مليون شهيد في الجزائر. إننا ننحني اليوم كما انحنينا في كل آنٍ أمام الشهداء الذين لقوا حتفهم في ميدان الشرف ضد الاستعمار وضد كل أشكال التدخلات الأجنبية. ولذلك فإن الموضوع ليس فضل هذا أو ذاك، ولكن الموضوع أمره بسيطٌ والمرجع فيه إلى معطيات تاريخية لا تزال حيةً وعالقةً بالأذهان. إننا عندما نذكر بأن الثورة الجزائرية انطلقت أساساً وقبل كل شيء من المغرب، فإننا لا ندعي قَطْعاً أن المغرب قام بتحرير الجزائر نيابةً عن الشعب الجزائري. فنحن لم نَقُلْ ذلك ولم نَدَّع ذلك، ولكن التاريخ يشهد بكل ما يعني ثورة التحرير الجزائرية، ولذلك سأكتفي بذكر المثال البسيط الآتي: رست يوم 29 مارس 1955 بساحل (رأس الماء)(رأس كبدانة أو Cap de l'Eau) الباخرة (دينا) قادمة من ميناء الإسكندرية، وهي محملة بأكثر من 13 طن من السلاح والعتاد، موجه إلى جيش التحرير المغربي وجيش التحرير الجزائري. وقد نُقلت الحمولة كيساً كيساً إلى شاطئ (رأس الماء) على ظهور رجال جيش التحرير المغربي، بل أنهم حملوا على ظهورهم أيضا ركاب الباخرة، ومن ضمنهم السيد هواري بومدين الذي حمله على كتفيه إلى البر، المناضل المغربي سعيد بونعيلات (1920-2017). إِنَّا لا نَمُنُّ على أَحَدٍ عندما نُذَكِّرُ بهذه الحقائق التاريخية المعروفة، ولكننا نؤكدها فقط. وماذا صُنِعَ بذلك السلاح والعتاد؟ لقد تقاسمه جيش التحرير المغربي وجيش التحرير الجزائري. وماذا كان نصيب جيش التحرير الجزائري ؟ لقد آثَرْنا جيش التحرير الجزائري على أنفسنا وأعطيناه الحظ الأوفر، ونقل رجال جيش التحرير المغربي السلاح والعتاد إلى الولاية الخامسة لجيش التحرير الجزائري في الغرب الجزائري. وأنتم أهل وجدة لا يمكنكم إلا أن تتذكروا كيف أكرمتم إخواننا في ثورة التحرير الجزائرية، وكيف وَفَّرَ لهم المغرب الحرية المطلقة في التنقل والاستفادة من العون بالسلاح والعتاد والمواد الأولية. إنكم تتذكرون ذلك، ولكن البعض ربما نَسِيَهُ! ومما جاء في تصريح السيد هواري بومدين أن حرب التحرير لو امتدت بالإضافة للجزائر، إلى المغرب وتونس لما طالت سبعةَ أعوامٍ ونصفاً! إننا نذكر للتاريخ أنه كان هناك حوار بين بعض المسؤولين المغاربة وقيادات في ثورة التحرير الجزائرية، حول الموضوع الآتي: هل يجب على المغرب أن ينتظر تحرير الجزائر وكل المغرب الكبير؟ أم أن أداة المراحل هي التي يجب ألا تتجزأ من الاستراتيجية العامة للكفاح؟ قلنا لإخواننا الجزائريين: لنفترض أن حرب التحرير ستشمل تونس والجزائر والمغرب، ولنفترض أن المغرب سوف يرفض مفاوضات استقلاله بذريعة انتظار إخواننا الجزائريين حتى يتحرروا، وبعد ذلك يمكن أن تكون مفاوضات استقلال المغرب الكبير شاملة. إن كل الحروب التحريرية تسعى في تحرير الأراضي المحتلة إلى ما يشد عضدها على الحدود، أو إلى إيجاد حليف يدعمها. فأين هو هذا الحليف بالنسبة للمغرب الكبير ؟ وفي حالة بُعْدِ المسافة عن مصر، فهل ستأتي مصر بأسطولها لتحرير المغرب الكبير ؟ إن نيل المغرب استقلاله ولو جزئيا ونيل تونس استقلالها ولو جزئيا سيضمن لثورة التحرير الجزائرية قواعد خلفية للدعم، وهذا هو الذي تحقق. لقد نال المغرب استقلاله واتخذته الثورة الجزائرية قاعدة خلفية، ونالت تونس استقلالها واتخذتها الثورة الجزائرية قاعدة خلفية. وقد كان جيش التحرير الجزائري مرابطا على الحدود المغربية، وكان مرابطا على الحدود التونسية. وكان هنا بمدينة وجدة (معسكر العربي بلمهيدي)(Camp Larbi Belmhidi)، بالإضافة إلى مراكز التدريب. فقد كان السلاح يرد على جيش التحرير الوطني الجزائري من تونس ومن المغرب، بل من ليبيا أيضا. وقد تبين أن رأي إخواننا الجزائريين لم يكن وجيهاً، ولكننا تفهمناه من الناحية النفسية، لأنهم كانوا يخشون أن نتركهم وحدهم ومصيرهم في مواجهة الاستعمار الفرنسي، دون دعم من المغرب وتونس. وقد أثبت التاريخ تضامناً كليا بين الشعوب الثلاثة، إلى أن تحررت الجزائر. وليتذكر أولو الألباب أن الصحراء الشرقية المغربية التي توجد اليوم تحت وصاية الإدارة الجزائرية كان بالإمكان ألا تكون نفسها مرتبطة بالتراب الجزائري. لقد عُرِضَتْ على المغرب سنوات 1958 و1959 و1960، مقترحات من أجل التفاوض حول الصحراء بأكملها وخاصة جهة (تْواتْ) و(تندوف)، بل أن الأمر كان يمتد حتى إلى (عين صالح)(وسط الصحراء الجزائرية حاليا). ولعل من أيادي المغرب البيضاء على الثورة الجزائرية، أنه رفض أن يتفاوض مع الفرنسيين حول قضية الصحراء الشرقية المغربية حتى تنتهي المعركة بين الشعب الجزائري وجيوش الاحتلال الفرنسي. إنها حقائق تاريخية تخص مناطق واسعة هي اليوم جزءٌ من الجزائر، رغم أنها ليست لها في الأصل. لقد طلبت الحكومة الفرنسية رسميا أن تجعل من تلك المناطق الصحراوية مجالاً لاستغلال خيراتها استغلالاً مشتركاً بين المغرب والجزائر وتونسوفرنسا، ولكننا قلنا للفرنسيين أن الاستغلال المشترك لتلك الخيرات يجب أن يكون في دائرة المغرب الكبير وحده. وقد تخوف إخواننا الجزائريون المُمَثلين في ذلك الوقت بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من أن تكون هناك مفاوضات سرية بين فرنسا والمغرب، أو أن يتم إنشاء كيان صحراوي مستقل، ولكننا عملنا على طَمْأَنَةِ إخواننا الجزائريين وأعطيناهم تأكيدات. وهذا ما زكاه بروتوكول اتفاق باللغة الفرنسية وقعه المغرب مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في الرباط، يوم الخميس 06 يوليوز 1961. و نص الوثيقة مترجماً إلى اللغة العربية هو كالآتي: (إن حكومة صاحب الجلالة ملك المغرب والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تحذوهما مشاعر التضامن و الإخاء المغاربيين، و وعياً منهما بمصيرهما الإفريقي و رغبة منهما في تجسيد المطامح لشعبيهما، قد اتفقتا على ما يلي: – وفاءً لروح مؤتمر طنجة المنعقد في شهر أبريل 1958، و نظرا لتعلقهما المتين بميثاق الدار البيضاء حول الوحدة الإفريقية في يناير 1961 و القرارات المتخذة من قِبَلِهِ، تُقِرُّ الحكومتان السعي إلى بناء المغرب العربي على أساس المشاركة الأخوية في المجالين السياسي و الاقتصادي. – تؤكد حكومة صاحب الجلالة ملك المغرب مساندتها غير المشروطة للشعب الجزائري في كفاحه من أجل الاستقلال و وحدته الوطنية، و تعلن عن دعمها بدون تحفظ للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في مفاوضاتها مع فرنسا على أساس احترام وحدة التراب الجزائري، و ستعارض حكومة صاحب الجلالة ملك المغرب بكل الوسائل كل المحاولات الرامية إلى تقسيم أو تفويت التراب الجزائري. – تعترف الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من جانبها بأن المشكل الترابي الناشئ عن ترسيم الحدود بين القُطْرَيْنِ المفروض تعسفا من قِبَلِ فرنسا سيوجد له حل في المفاوضات بين حكومة المملكة المغربية وحكومة الجزائر المستقلة. – تقرر الحكومتان لهذا لغرض إنشاء لجنة جزائرية مغربية ستجتمع في أقرب الآجال لبدء دراسة هذا المشكل و حله ضمن روح الإخاء و الوحدة المغاربية. – و تبعا لذلك، فإن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تؤكد أن الاتفاقيات التي يمكن أن تنتج عن المفاوضات الفرنسية الجزائرية لا يمكن أن تنطبق على المغرب فيما يخص ترسيم الحدود بين الترابين الجزائري و المغربي. وقع في الرباط بتاريخ 06 يوليوز 1961. .صاحب الجلالة الحسن الثاني ملك المغرب. .صاحب السعادة فرحات عباس رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية). إن الجلي الواضح هو أن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تتعهد تعهداً واضحا للمغرب باستلام المناطق الصحراوية من الحكومة الفرنسية، ثم الاتفاق مع المغرب لأجل إيجاد حلول في نطاق مغاربي. ولعل الشعب الجزائري غير مطلع على هذه الوثيقة التاريخية، ولذلك كان واجبا علينا أن يقرأها إخواننا الجزائريون ليدركوا كيف يغالطهم حُكامُهُمْ عندما يدعون أن المغرب يريد منازعتهم في التراب الجزائري الذي سقته دماء الشهداء. إننا نقول لهم ونقول للتاريخ: هذه هي الوثيقة التي وقعها المغرب والجزائر، ولكنه تاريخ الشعوب! إن التأويلات الفاسدة والتحفظات العبثية والعبارات الغامضة لا تُجْدي في الوقت الراهن، لأن زمن الوضوح قد جاء ومن الواجب أن يلازم الوضوح كل ميادين الكفاح وكل مجالات العلاقات التي تربط ما بيننا. (5)- صرح السيد هواري بومدين أن الجزائر تريد تقرير المصير عن طريق الاستفتاء في الصحراء، وأنها هي التي حركت وعجلت مسلسل تصفية الاستعمار في الصحراء الغربية. إنه ادعاء قد لا يستحق الرد عليه لأن المغاربة هم الذين حركوا قضية الصحراء سنوات 1953 و 1954، بل وحتى 1958. فقد كان هناك جيش التحرير في الجنوب، وسقط ضحايا من أجلها، ثم عرضت القضية على المحافل الدولية. فأي مبرر يكمن في الادعاء بأنهم هم الذين حركوا قضية الصحراء، عَدا تحريك جماعة الانفصاليين بذريعة الكفاح من أجل تقرير المصير. ورفعاً للالتباس فإني أشير إلى ما يلي: – يحصل تقرير المصير عندما يريد شعب أن يندمج طواعية مع شعب آخر. – يحصل تقرير المصير إذا كانت أرضٌ محتلة في الأصل ترجع إلى أرض مُحَررة. ومن ثَمَّ فإن تقرير المصير لا يتحقق حتماً و دائماً بالاستقلال عن طريق الاستفتاء. مثلا إذا كانت هناك أرضٌ أو شعبٌ ماضيهِ هي الحدود الموروثة عن الاستعمار، فإن مصيره هو الاستقلال إذا كان جزءٌ من ذلك الشعب في الأراضي المحررة، بينما الجزء الآخر في الأراضي المحتلة. فما قيمة نهاية الاستعمار وما قيمة تقرير المصير، إذا كان ما تحت الاحتلال لا يُلْحَق بما هو مُحَررٌ؟ فَإياكُمْ أيها الشباب أن تحسبوا تقرير المصير قضية مبادئ، ولذلك نقول لخصومنا الذين يغالطون الرأي العام، أن حَصْرَ قضية تقرير المصير في الاستفتاء كَذِبٌ مَحْضٌ وتزويرٌ لمقررات الأممالمتحدة نفسها. ويضاف إلى كل ذلك أن السيد هواري بومدين تحدث عن (أهل الصحراء الغربية)، وهذا يعني أن هناك صحراء غربية وصحراء شرقية وصحراء وسطى. فأهل الصحراء من سلالة واحدة، ومتجانسون فيما بينهم، وأُسَرُهُمْ واحدة، واقتصادهم واحد، وثقافتهم واحدة. فلماذا ننظم الاستفتاء في الساقية الحمراء ووادي الذهب، ولا ننظمه في تندوف و (تْواتْ)؟ (6)- مما جاء في آخر تصريح السيد هواري بومدين، أن الجزائر لا تزال مصممة على تشييد المغرب العربي، أي مغرب الفلاحين والعمال ومغرب الشعوب ! إننا متفقون كل الاتفاق على ذلك، بل أن هدفنا كان دائما هو تشييد المغرب العربي على أسس ديموقراطية صحيحة، ولكن أين نحن اليوم من كل ذلك إذا احتكمنا إلى الواقع والممارسة وإلى تصرفات القادة الجزائريين ؟ فهل يقتضي بناء المغرب العربي وتوحيد شعوبه، العمل قبل كل شيء على تجزيء المغرب العربي ؟ وهل يتطلب بناء المغرب العربي العمل على إنشاء كيان مزيف في الصحراء ؟ إن مما نبتغيه أن نعطي للكلام مدلوله الحقيقي، لأن الاتفاقيات الرسمية ذات بُعْدٍ دولي أيضا. فالاتفاقيات بين الحكومة المغربية والحكومة الجزائرية اعترف بها المغرب كما اعترفت بها الدول العربية، ولذلك نقول للجزائر كلاما بسيطا في ما يتعلق بقضية الصحراء: إذا أردتم التحريض على الانفصال، فلكم ذلك إن بقي هناك مغزىً لروابط التضامن في المستقبل، لأننا سنسير إلى النهاية. فنحن لا نطلب منكم مساندة في قضية الصحراء المغربية، ولكننا نطلب منكم الحياد فقط وأن تتركوا المجال للشعب المغربي ليفعل ما يجب أن يقوم به ليحرر بلاده بيده، مثلما فعل ذلك لأجزاء أخرى من ترابه وبدون مساعدة تأتي من الخارج. وليعلم إخواننا الجزائريون أننا لا نزال على العهد، وعلى العهود التي كانت دائما بين شَعْبَيْنا، فنحن لا نريد انقساماً و لا خصومةً. إننا نريد الحق وإعطاء كل ذي حق حقه، ونحن على استعداد لأن نتنازل عن كثير من حقوقنا من أجل مصلحة شعوبنا، وليس من أجل وطنية ضيقة تريد أن تُهَيْمِنَ. أيتها الأخوات، أيها الإخوان: أنتم جيرانُ الجزائر، ويجب أن تكون من مهامكم التعريف بقضيتنا لدى الشعب الجزائري. فعلى كل مغربي أن يتصل بإخوانه وأسرته وبمختلف وسائل الاتصال حتى تظهر الحقيقة جليةً وواضحةً وضوح الشمس في عز النهار، وحتى نَميزَ النية الحسنة من الحسابات الغالِطة. إن المستقبل ولا شك هو مستقبل شعوب المغرب العربي، وليس مستقبل الوطنيات الضيقة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. *باحث أكاديمي