جفاف وتضخم وارتفاع في الأسعار ونسب بطالة غير مسبوقة، مؤشرات صعبة تنذر بشتاء ساخن اقتصاديا واجتماعيا، لكنه الأكثر برودة إثر عجز مواد الطاقة، نتيجة مواقف غير محسوبة اتخذتها حكومات أوروبا اصطفافا إلى جانب واشنطن. تفاقمت الأوضاع الاقتصادية ومعدلات التضخم والركود أصبح وشيكا في أوروبا، في ظل بوار لتحركات قد تعم الشارع الأوروبي الذي يدفع ثمن مواقف غير محسوبة، وانحياز حكومات بلاده إلى واشنطن فيما عجزت عن تأمين حاجته اليومية، بحسب الخبراء. عودة السترات الصفراء يشير الخبراء إلى أن حراك "السترات الصفراء" لن يقتصر على فرنسا، وأن العديد من البلدان الأوروبية تشهد احتجاجات قد تكون غير مسبوقة، وأن تيارات جديدة وأصوات عالية تطالب بالانفكاك عن واشنطن وإعادة النظر في مصالح أوروبا منفصلة عن المواقف الأمريكية. في أول مشهد للتعبير عن الأزمة الاقتصادية، نزل محتجو "السترات الصفراء" مجددا إلى شوارع العاصمة الفرنسية باريس، رفضا لارتفاع أسعار السلع وزيادة معدلات التضخم، وتنديدا بسياسة الدولة تجاه الأزمة الأوكرانية. توقيفات أمنية وذكر موقع "أكتو باريس" الفرنسي المحلي، أمس السبت، أنه بعد توقيف واستجواب 100 شخص خلال مظاهرات السبت الماضي، قررت "السترات الصفراء" النزول مجددا إلى شوارع العاصمة الفرنسية باريس، احتجاجا على غلاء المعيشة، والمطالبة بعدالة اجتماعية ضريبية. وبعد الاحتجاج الأول في 3 سبتمبر/ أيلول، أصدر حزب "الوطنيين" دعوة جديدة للنزول إلى الشوارع للمطالبة برحيل ماكرون وانسحاب فرنسا من الاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو". تجمع آلاف المواطنين الفرنسين في ساحة المقر الملكي في العاصمة الفرنسية باريس للاحتجاج بعد دعوة حزب "الوطنيين" المطالبة باستقالة رئيس البلاد إيمانويل ماكرون. صنفت وكالة موديز العالمية للتصنيف الائتماني في أغسطس/ آب، 6 دول في الاتحاد الأوروبي، على أنها "الأكثر انكشافا". واحتج ما يقرب من 70 ألف متظاهر في ساحة "وينسيسلاس" في وسط العاصمة التشيكية، السبت 3 سبتمبر 2022. وحمل بعضهم لافتات تندد بعضوية البلاد في الاتحاد الأوروبي والتحالف العسكري لحلف شمال الأطلسي"، كما أوردت "بلومبيرغ". مؤشرات مفزعة ارتفع مستوى التضخم في ألمانيا إلى 7.9% في أغسطس، بعد انخفاضه لشهرين على وقع انعكاسات تدابير المساعدة الحكومية. فيما ارتفع معدل التضخم السنوي في إيطاليا إلى مستوى 8.4% في أغسطس 2022، مقارنة بمعدل 7.9% في الشهر السابق. في فرنسا، ارتفع التضخم السنوي إلى 6.1% في يوليو/ تموز، بعدما بلغ 5.8% في يونيو/ حزيران، وهو أعلى مستوى له منذ يوليو 1985. أما في بريطانيا سجل التضخم 9.9% في أغسطس بعدما بلغ 10.1% في يوليو، وهو أعلى مستوى له في 40 عاما. كما قفز معدل التضخم بنسبة 12% على أساس سنوي في أغسطس في هولندا. وسجل معدل التضخم في منطقة اليورو رقما قياسيا عند 9.1% في أغسطس، ارتفاعا من 8.9% في يوليو، و8.6% في يونيو. من يدفع الفاتورة؟ في البداية قال الخبير الاستراتيجي التونسي منذر ثابت، إن حركة السترات الصفراء تعود بقوة في فرنسا وعدد من الدول الغربية، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية القوة. وأضاف في حديثه ل"سبوتنيك"، أن التداعيات الاقتصادية تدفع نحو اضطرابات اجتماعية وسياسية واحتجاجات عديدة في معظم البلدان الأوروبية. وشدد على أن الحركة النقابية يتصاعد نشاطها وتحركاتها خلال الأيام المقبلة، خاصة في ظل مزيد من التضخم وارتفاع الأسعار. ويرى أن شعبية "اقصى اليمين" بدأت ترتفع، وأن هناك الكثير من الأصوات بدأت تعلو وتتحدث عن أن مصلحة أوروبا ليست بالضرورة هي مصلحة واشنطن. تيار ثالث في أوروبا ونوه ثابت بأن الظرف الراهن يمكن أن يدفع نحو ظهور تيار ثالث يرى ضرورة في الابتعاد عن واشنطن وعدم التقارب مع موسكو والدول الأخرى، وفي أقل تقدير نحو توازن العلاقات بدلا من التبعية الكاملة لنفس السياسات الأمريكية. في الإطار قال الأكاديمي رضا شكندالي، إن أوروبا مرشحة لشتاء ساخن اقتصاديا في ظل أزمة الطاقة التي تؤثر على المستوى المنزلي والصناعة في أوروبا. وأضاف في حديثه ل"سبوتنيك"، أن إيجاد الحلول البديلة للطاقة يحتاج لكثير من الوقت، ما يعني تأثر جل البلدان بنسب متفاوتة. ويرى أن أوروبا ليس أمامها حلول سوى "السياسة النقدية" والتي تستخدم لمحاربة التضخم، وأن استخدام أوروبا والجانب الأمريكي تأتي بنتائج عكسية تارة على الدولار وتارة على اليورو. ولفت إلى أن الجانب الروسي لم يتأثر بشأن تراجع الصادرات نحو أوروبا، خاصة في ظل أسواق بديلة وفي مقدمتها الصين. الأصعب منذ الحرب العالمية الثانية من ناحيته قال المحلل الاقتصادي الجزائري، أحمد الحيدوسي، إن أوروبا تمر بأوضاع اقتصادية هي الأصعب منذ الحرب العالمية الثانية. ويرى أن الارتفاع الكبير على مستوى الأسعار ينذر بمزيد من الاحتقان في الشارع الأوروبي. كما يرى أن أوروبا تتجه نحو التقشف، ويمكن أن تضطر بعض البلدان إلى قطع مواد الطاقة في بعض الأوقات، إضافة لارتفاع فاتورة الاستخدام. وأضاف أن الأزمة المالية في 2008، تركت أثارها في العديد من الدول الأوروبية حتى اليوم، ومنها إسبانيا واليونان والبرتغال، التي تتلقى سنويا مساعدات من الاتحاد الأوروبي، من أجل سد العجز في الموازنات العامة. ولفت إلى أن أزمة كورونا فاقمت الوضعية الاقتصادية بشكل أكبر، مما أضطر الدول لاتخاذ مجموعة الإجراءات التي تعرف في الاقتصاد ب"التيسير الكمي"، وهو ضخ كميات كبيرة من الأموال من أجل دعم الأسر على مجابهة الأزمة. لكن هذه الإجراءات قوبلت بعرض قليل للسلع والخدمات، نظرا لسياسات الغلق التي اتخذت، ما أدى إلى ارتفاع معدل التضخم لمستويات قياسية غير مشهودة، وفقا للخبير. ولفت إلى أن أوروبا أصبحت في خانة "الركود التضخمي" في ظل أسعار مرتفعة ومعدل بطالة مرتفع، وأزمة طاقة، مشددا على أن الاتحاد الأوروبي أصبح على المحك، حال عدم قدرته على تأمين مصادر توريد الطاقة. ولفت إلى أن الأزمة ستصيب كل الدول الأوربية بدرجات متفاوتة، خاصة الدول التي ليس لديها خيارات متعددة في مجال الطاقة، وفي المقدمة ألمانيا. وفيما يتعلق بالاضطرابات الاجتماعية في أوروبا يرى أن وقوعها في إحدى الدول يصيب كل الدول الأوروبية تأثرا بها. كابوس أوروبا من ناحيته قال رشيد ساري الخبير الاقتصادي المغربي، إن ما تعيشه أوروبا اليوم أشبه بكابوس حقيقي، حيث جفاف وصل إلى حد معاناة من نقص التزود بالماء، كما هو الحال بفرنسا وبلجيكا وألمانيا، إضافة إلى تبعات الأزمة الأوكرانية، خاصة فيما يتعلق بنقص مواد الطاقة. ولفت إلى أن نسب التضخم غير المسبوقة، والتي تعدت نسبة 9% في دول الاتحاد الأوربي، تجسد حجم الأزمة التي يعيشها الاتحاد. ويرى أن الوضع المؤسف الذي تعيشه أوروبا ومع قدوم الشتاء يمكن أن يدفع نحو حراك اجتماعي، خاصة في ظل الحاجة الماسة للطاقة مع فصلي الخريف والشتاء. بدأت موجة احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا، في السابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2018، كردة فعل على قرار الحكومة رفع الضريبة على أسعار المحروقات؛ لكي تتوسع بعدها دائرة المطالب لتشمل الأحوال المعيشية بشكل عام. ولاقت موجة الاحتجاجات في بدايتها تأييدا شعبيا واسعا، قبل أن تتخذ بعض المظاهرات طابعا عنيفا تمثّل بأعمال شغب وتخريب في جادة الشانزليزيه.