ما يقرب من السنة والعدوان "الصهيوأمريكي" يدك غزة بكل أنواع الأسلحة الفتاكة والمبيدة، والمقاومة تصنع سلاحا استراتيجيا تقذف به تل أبيب وتتصدى به لآلياته وجنوده المتوغلة داخل أراضيها، وتُوقع خسائر فادحة في الجيش المعتدي وترسانته. إطلاق الصواريخ الاستراتيجية في اتجاه تل أبيب في هذا التوقيت من بين آليات العدو وتجمعاته، أمر يثير ألف سؤال حول مدى تمكن العدو –حسب ادعاءاته- الحد من قدرات المقاومة، فعمليات الإطلاق هاته تحتاج إلى منصات وتجهيزات مناسبة وأيضا إلى تعبئة خاصة وإعداد كبير وكفاءة عالية أمام التواجد المكثف لأحدث وسائل التنصت والمسح من طيران ومسيرات وبوارج وأقمار ووسائل تنصت متطورة فوق سماء غزة. أما حرص الأهالي على مواجهة عمليات التهجير المستمر وحرصهم على العودة إلى مساكنهم ومناطقهم مجددا وتحت القصف، فإنه يثبت أن الحاضنة الشعبية للمقاومة قوية وثابتة أمام مخططات الإفراغ والتهجير إلى سيناء وهو ما أفشل أهداف "النتن" من الحرب وجعلت هذا الشعب يستحق أن يوصف بأنه الشعب الذي لا يخضع ولا يقهر. فبينما يدعي الاحتلال، أنه تمكن من إفراغ شمال غزة، يعقد رؤساء العشائر والبلديات مؤتمرا صحفيا ببيت لاهيا للمطالبة بتوفير الأساسيات المجتمعية، وهو ما يثبت أيضا أن الاحتلال يكذب في ادعاءاته، وعلى عكسه تماما فحكومة غزة مستمرة في إدارة شؤونها كترجمة عملية على قدرة حماس العالية في إدارة المعركة سياسيا وعسكريا وإداريا. وأيضا على عكس المتداول من أن المقاومة صارت إمكانياتها أضعف من الأول، فإن دلائل عديدة تثبت العكس، خصوصا تلك التي فسرت تجنيد حماس لدفعة جديدة (تجنيد 2024)، بخسارتها الآلاف من المجندين، فالقصة الأخرى تفيد أن حماس كانت تشتغل بآلاف المقاتلين ثم استطاعت تجنيد آلاف أخرى والدليل على هذا النتيجة هو ما نشاهده من اتساع للعمليات وتوثيقها بشكل يومي وإيقاع الخسائر بأكثر ما يمكن. يحكي الكثيرون عن لص اقتحم بيتا ولكنهم لا يعرفون كيف انتهى به الأمر: وهذه القراءة التي تقول "إن الجيش الإسرائيلي اجتاح غزة"، تطيح بها قراءة أخرى، فاصطياد جنود "الحفاظات" داخل البيوت التي يتحصنون بها إما قنصا أو تفجيرا يجعل مُقام هؤلاء العلوج هناك عبئ على قيادة الجيش والكيان، فمصيرهم يتراوح بين ثلاث خيارات، إما قتلى أو جرحى أو أسرى، وهذه القصة الأخرى تثبت أن المقاومة استدرجت الجيش الصهيوني بعد أن قامت بتفخيخ ممراته والإحاطة به ومن تم الانقضاض عليه من مسافة الصفر عوض تركه يرمي قاذفاته على غزة بعيدا عن متناولها. ما يؤكد هذا الاستنتاج، هو عودة الجيش الصهيوني إلى جحر الديك وإلى وسط غزة مرات ومرات، وفي كل مرة يعلن تمكنه من إخلاء المنطقة من المقاومين وقضى على قدراتهم، ثم ما يلبث أن يظهر المجاهدون مجددا مسيطرين ومتحكمين بها بل تنطلق الصواريخ منها في اتجاه تل أبيب على عكس سردية الاحتلال. خلاصة القول في هذه الفقرة، أن هناك انكسار اقتصادي وعسكري ونفسي وسياسي للصهاينة، وهناك انكسار حتى على مستوى التفكير الاستراتيجي، بل إن جيش الاحتلال عاجز عن تحقيق أيٍّ من أهدافه وأنه يتعرض لخسائر كبيرة في الأرواح والعتاد، حتى لو لم يعلن عنها، ولو أن المحيط العربي لم يكن مستكينا وضعيفا إلى جانب عدم نضوج المجتمع العالمي بما يجري أمام تعنت السياسيين الأمريكيين وإمدادهم الكيان بالسلاح والعتاد، لكانت المقاومة قد تمكنت من حسم المعركة منذ الشهر الأول. هجوم السابع من أكتوبر 2023 كان فعلا من المقاومة وليس رد فعل؟ يروج حتى من أطراف من داخل المقاومة أن طوفان السابع من أكتوبر كان مجرد رد فعل بسبب التعنت الإسرائيلي وتنكيله بالفلسطينيين منذ أزيد من سبعين عاما، وحصاره الطويل لغزة. وأمام وجود مثل هذه السردية لدى بعض الطيبين الذين يرون أن المقاومة لم تكن مبادئة ولا سباقة إلى الهجوم وأنها قامت فقط بواجبها في ردة الفعل أمام رغبة الكيان الغاصب وجنوحه إلى تهجير الفلسطينيين وقهرهم. أقول: الحقيقة في رأيي المتواضع هي أن هذا الهجوم كان فعلا مخططا له ومدروسا بشكل دقيق ومفصل، وكان ينتظر فقط الإشارات المناسبة لتنفيذه، لأن رد الفعل يكون بحجم الفعل ويكون على المدى القصير وبدون استعدادات. أما طوفان الأقصى وهجوم المقاومة في السابع من أكتوبر فاحتاج إلى تخطيط وإعداد كبير من سلاح وإعداد بشري وتخطيط وتوفير للآليات والمؤن الضرورية لمواجهة مختلف الظروف المتعلقة بمواجهة العدو. اليوم بعد مرور أكثر من 325 يوما لا تزال أجهزة غزة الإدارية كالمستشفيات والدفاع المدني والبلديات والجسم التعليمي كلها لا تزال تعمل بدرجة عالية من التنظيم والكفاءة بما يعني أن التخطيط كان دقيقا. يمكن الإشارة هنا إلى أن رد الفعل الذي لم يكن محسوبا ربما برأي الكثير من المتابعين من جانب المقاومة، هو رهانها الخاسر على ردة فعل الأنظمة العربية والشعوب أيضا التي لا تزال تحركاتها تحت المستوى الأدنى لدعم غزة وتخفيف التصلب في الموقف الصهيوأمريكي، وكأن هذه الأنظمة المتفرجة تنتظر إعلان المقاومة استسلامها بصفتها متورطة في إفشال خط الهندغزةقبرص والمخطط الإبراهيمي وخطط السلام الموعودة في المنطقة. غدا ليس كاليوم: طوفان الأقصى أوجد مجموعة من التأثيرات الجديدة على مستوى العالم، حيث كان له تأثير على الانتخابات في الكثير من الدول وتغيير – على سبيل المثال – في استراتيجية الولاياتالمتحدةالأمريكية في تحريك أساطيلها العسكرية وبعثر خططها في أوكرانيا وخططها المتعلقة بمواجهة الصين. أيضا كشف حجم تأييد المحور الشيعي، الذي لم يتجاوز ردود أفعاله السقف بل لم تكن ردود هذا المحور تتناسب مع حجم الضربات الصهيونية التي تلقاها في عقر داره، بل مست سيادته حيث اغتالت إسرائيل العديد من القيادات الكبيرة في إيران ولبنان ومرغت أنوف قادتها السياسيين في التراب، آخرها اغيال أبو العبد المجاهد الكبير في العاصمة الإيرانية وأثناء حضوره لقاء رسميا وكأنها تقول لهذا المحور: "أنتم ملك يميني". في مقابل المقاومة الفلسطينية التي لا تملك ما تملكه إيران ولا حزب الله، جعلت الاحتلال يتألم علنا ويصرخ جراء تحييد جنوده وآلياته بحسب اعتراف وزير الدفاع نفسه الذي تحدث عن آلاف الإصابات وغرق جيشه "الذي لا يقهر" في مستنقع غزة وتعرضه لعمليات استنزاف لم يسبق له الوقوع في مثلها. تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى: النزاع الداخلي بين مؤسسات وقادة الاحتلال يتزايد، وهناك ارتباك شديد وغياب استراتيجية أو أهداف واضحة، وهناك أعمال غير مدروسة بشكل جيد وهناك تضارب بين المؤسسات الصهيونية وهي نتائج لا تظهر إلا في بيئة ردة الفعل العشوائية التي يغيب عنها التنسيق والتخطيط ويحضر الارتباك وردات الفعل فقط. أما المقاومة في غزة فهي رغم أن الاحتلال حول أرضها إلى منطقة لا تصلح للسكن، إلا أن الغزيين لا يزالون صامدين ويتأقلمون مع الوقائع والأحداث، ويشتغلون على هدف استراتيجي بعيد المدى، وليس على أهداف مرحلية فقط، على عكس الاحتلال المستمر في التدهور، وملامح ضعفه وعجزه على تحقيق أهدافه وتسارع تراجعه على المستوى العسكري والسياسي واضحة وهو لا محال آجلا في الطريق للزوال. وما يثبت هذا الادعاء، فإن حوالي ثلث الكفاءات العالية التكوين في الكيان، غادر الكيان المغتصب، وخلال فترة قليلة قادمة سيغادر المزيد من العلماء والكفاءات الأخرى إسرائيل، وهي لا تستطيع تعويضها في المرحلة القليلة القادمة لأنهم نخبة النخبة يصعب تعويضها خصوصا أن أعدادا أخرى ستلتحق بكوكبة المغادرين. قس على هذا أعدادا من الشركات والمستثمرين ورجال الأعمال والفاعلين الاقتصاديين،،، هذا الواقع الجديد سيفتح شهية الشعوب في تكوين جماعات ثورية للتحرر والتخلص من التبعية، فالعالم كله أصبح ضعيفا ومنبهرا أمام إصرار المقاومة على إخراج الاحتلال من أراضيه التي اغتصبها. وأعدوا لهم .. ترهبونهم: تقديرات الاستخبارات الأمريكية وتقرير مشترك للأجهزة الأمنية المشتركة بريطانية وأخرى لم يفصح عنها وغالبا تكون عربية، تفيد أن حماس تحديدا لم تضخ بعد كامل قدراتها العسكرية بما فيها مجموعات النخبة التي لم تدخل بعد المعركة. بل إن المقاومة في غزة بحسب نفس المصادر تفوقت على حزب الله وإيران في المحافظة على أمن وسلامة كوادرها وتتعامل مع الوضع المني المفتوح في غزة بكل أريحية رغم التصوير والنقل المباشر من كل جهة، ومع ذلك تحافظ على سرية تنظيماتها وتشكيلاتها العسكرية وتحركاتها في مواجهة العدوان. وبالنسبة للمفاوضات، يراها الكثيرون شكلا من أشكال استدامة الحرب على الشعب الفلسطيني، وأداة من أدوات استنزاف الوقت لصالح إنهاك المقاومة وإطالة أمد الحرب وإرهاق الحاضنة الغزية، وليست مفاوضات من أجل الحل، وكل من يعتقد أن طريق الحل يكمن في هذه المفاوضات المعوقة مخطئ، فالواضح أن العدو يستخدم المفاوضات لإخضاع وتفكيك المقاومة وقدراتها. المقاومة لحسن الحظ تدرك الهدف الصهيوني ولكنها مضطرة للذهاب إلى المفاوضات لنفس الهدف وهو إرهاق العدو وإخضاعه للنزول عند شروطها، وحتى تثبت للعالم أنها تريد إنهاء الحرب العدوانية على الشعب الفلسطيني، وخلق نوع من التوازن لمعرفتها أن العدو يستخدم المفاوضات للمماطلة وهو يجيد ذلك بامتياز. إنهم يتألمون كما تتألمون: ما هي النتائج المتوقعة من المفاوضات ما دام الأمر على هذا الحال؟ وفق السردية الإسرائيلية فإن هذه المفاوضات ستنتهي بوقف لإطلاق النار مؤقتا ريثما يسترجع أسراه ثم يعاود الهجوم الوحشي على غزة بعد أن يعيد الاستعداد جيدا وفق خطة شاملة يشارك فيها أيضا الشركاء العرب الذين أوكلوا للصهاينة مهمة القضاء على المقاومة خشية الانتقال دائها إليها كعدوى تصيب شعوبها المقهورة وتوقظ عزيتمها. ولكن بالنظر إلى التكلفة الكبيرة التي دفعها الفلسطينيون وصمودهم الأسطوري أمام هذه الآلة "الصهيوأمريكية" المدمرة، فإن غزة تدفع أثمانا باهظة بالنيابة عن بعض الدول كمصر التي يراد الاستغناء عن قناة السويس خاصتها واستبدالها بموانئ "نيوم" وقناة "بنغوريون" التي يخطط بنو صهيون تمريرها عبر غزة. كما أنها (المقاومة) على عكس أبطال أوسلوا من رفاق عباس يمتلكون حسا تفاوضيا وقدرة عالية على المراوغة تفوق قدرات الأمريكيين والصهاينة مجتمعين، معتمدين على عدالة قضيتهم وصلابة رجال المقاومة وإنجازاتهم في الميدان، وحرصهم على عدم تمكين العدو مما عجز عنه بالسلاح والنار، وهم يدفعون أثمانا باهظة مقابل هذا التصدي والصمود. وخلاصة القول، فالمقاومة ستكره العدو الصهيوني على خوض مفاوضات جديدة بشكل جديد ووسطاء جدد بمستوى آخر، قد تنطلق بعد انتهاء الانتخابات الأمريكية وستكون نتائجها أكثر إيلاما للعدو الصهيوني وأصعب من نتائج اتفاق "شاليط". ولعل المقاومة، كما عبرنا في مقال سابق تتمكن من أسر مزيد من العلوج ربما تكون هذه المرة رقاب بعض كبار المسؤولين أو ذويهم ومن يقربهم وهذا سيعجل في بداية مسلسل الانهيار للكيان المغتصب كما سيجعل مجرد تفكير صهاينة العالم القدوم إلى فلسطين فضلا عن المكوث فوق أراضيه كابوسا يوجع أحلامهم.