تحظى عملية المحافظة على التراث الثقافي وصيانته باهتمام كبير من طرف مجموعة من المنظمات الدولية والوطنية. وتزايد هذا الاهتمام بعدما كشف الباحثون في التراث: مفكرون، علماء الأركيولوجيا، علماء الأنثروبولوجيا ، علماء الاجتماع ...، عن قيمته الحضارية والانسانية متوسلين في ذلك بمفاهيم جعلته يقفز عن الإطار الجغرافي المحدود ليكتسي طابع العالمية، ويصبح ثروة مشتركة وجامعة في ملك المجتمع الانساني دون استثناء. وفي هذا الاطار أفرزت مؤتمرات منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم عدة اتفاقيات، اليونسكو، تروم حماية مكونات التراث الثقافي العالمي، باعتباره موروثا انسانيا كونيا. وقد ورد في نص اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة، اليونسكو:" يعني التراث الثقافي، لأغراض هذه الاتفاقية: – الأثار: الأعمال المعمارية ، وأعمال النحت والتصوير على المباني والعناصر أو التشكيلات ذات الصفة الأثرية ، والنقوش، والكهوف، ومجموعات المعالم التي لها جميعا قيمة عالمية استثنائية من وجهة نظر التاريخ، أو الفن، أو العلم؛ – المجمعات: مجموعات المباني المنعزلة، أو المتصلة، التي لها بسبب عمارتها، أو تناسقها، أو اندماجها في منظر طبيعي، قيمة عالمية استثنائية من وجهة نظر التاريخ، أو الفن، أو العلم؛ – المواقع: أعمال الانسان، أو الأعمال المشتركة بين الانسان والطبيعة، وكذلك المناطق بما فيها المواقع الأثرية، التي لها قيمة عالمية استثنائية من وجهة النظر التاريخية أو الجمالية، أو الاثنولوجية، أو الأنثروبولوجية." وبعد توسيع وعاء مفهوم التراث ليشمل الموروث ذا الطبيعة المعنوية، عقدت الدول الأعضاء في المنظمة المذكورة اتفاقية ثانية لصون التراث الثقافي غير المادي. وقد حددت هذا النوع من التراث فيما يلي: – التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، بما في ذلك اللغة كواسطة للتعبير عن التراث الثقافي غير المادي؛. – فنون وتقاليد أداء العروض؛ – الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات؛ – المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون؛ – المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية . وقصد استجلاء الآليات القانونية ذات المصدر الدولي أو الوطني لحماية التراث نستعرض أهم النصوص التي وردت في هذا الموضوع مبرزين أهم التدابير والاجراءات التي تضمنتها، وإلى أي حد لامست الهدف الأممي لصون التراث . تدابير صون التراث وفق توصيات منظمة اليونسكو: ما فتئت منظمة اليونسكو تصدر مجموعة من التوصيات، من خلال مقرراتها ونصوص اتفاقيات جموعها العامة، تدعو كل الدول الأعضاء، دولة المغرب واحدة منها، إلى اتخاذ جملة من التدابير والاجراءات القمينة بحماية التراث بكل أنواعه وصونه، حتى لا يضيع وينتقل كاملا من جيل إلى جيل. وفي هذا الصدد نعرض بعض التدابير التي أوصت بها هذ المنظمة: – اتخاذ سياسة عامة تستهدف جعل التراث الثقافي والطبيعي يؤدي وظيفة في حياة الجماعة، وادماج حماية التراث في مناهج التخطيط العام؛ – تحديد مكونات التراث وتوثيقه؛ – اجراء البحوث عليه؛ – تعزيزه وابرازه ونقله عن طريق التعليم النظامي وغير النظامي؛ – احياء مختلف جوانب التراث. كما أوصت بعدة اجراءات محلية، تخص الدول الأطراف، الموقعة على نصوص الاتفاقيات في موضوع حماية التراث: – تشجيع إجراء دراسات علمية وتقنية وفنية، وكذلك منهجيات البحث من أجل الصون الفعال للتراث غير المادي، ولا سيما الثقافي غير المادي المعرض للخطر؛ – ضمان الانتفاع بالتراث الثقافي غير المادي مع احترام الممارسات العرفية التي تحكم الانتفاع بجوانب محددة من هذا التراث، – اعتماد التدابير القانونية والتقنية والادارية والمالية المناسبة. وبقراءة هذه التوصيات يتضح أن منظور المنظمة للتراث يتجاوز غاية استرجاع الماضي وجعله حيا في الحاضر إلى اعتباره موضوعا مهما للبحث الأكاديمي لما يوفره من مادة خصبة جديرة بالاستغلال، وقوة محركة للتنمية يتوجب استحضارها في السياسات العامة للدول الأطراف ومخططاتها الاستراتيجية. تعد دولة المغرب واحدة من الدول الأطراف الموقعة على الاتفاقيتين المذكورتين، وقد تفاعلت ايجابيا واجرائيا مع التوصيات منظمة اليونسكو الواردة في موضوع هاتين الاتفاقيتين. وفي هذا السياق نجد مجموعة من النصوص القانونية والتنظيمية صادرة عن المؤسسة الملكية، المؤسسة التشريعية، و المؤسسة الحكومية تؤشر على مجموعة من التدابير والاجراءات الخاصة بحماية التراث بشكل عام. 1. تصريف التوصيات الدولية على المستوى الوطني: تعد دولة المغرب واحدة من الدول الأطراف الموقعة على الاتفاقيتين المذكورتين، وقد تفاعلت ايجابيا واجرائيا مع التدابير الموصى بها من طرف منظمة اليونسكو . وفي هذا السياق نجد مجموعة من النصوص القانونية والتنظيمية صادرة عن المؤسسة الملكية، المؤسسة التشريعية، و المؤسسة الحكومية تؤشر على مجموعة من التدابير والاجراءات الخاصة بحماية التراث بشكل عام. ومن بين هذه النصوص نقف عند أهمها: الدستور المغربي: جاء في تصدير دستور سنة 2011 أن الدولة المغربية تلتزم بالاتفاقيات الدولية الموقعة من طرفه، وتجعله تسمو بمجرد نشرها على التشريعات الوطنية، كما ألغى أي أشكال التمييز بسبب اللون أو الجنس أو المعتقد أو الثقافة مشيرا بذلك إلى احتضانه لكل الأشكال الثقافية المحلية واقراره للمساواة بين الثقافات المشكلة للهوية المغربية. وفي القصل الخامس يصرح ويعترف بكل المكونات اللغوية المتواجدة عبر جغرافية البلد ويضمن حمايتها، كما يحمي مختلف التعبيرات الثقافية المغربية باعتبارها تراثا أصيلا وابداعا معاصرا، وذلك من خلال احداث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية. ظهائر وقوانين ومراسيم تشريعية: أ. تنزيلا لمقتضيات اتفاقية باريس لمنظمة اليونسكو في شأن حماية التراث الثقافي اغير المادي التي وقعها المغرب في يوم، 17 أكتوبر 2003، تم اصدار ظهير شريف رقم 1.06.113 القاضي بالمصادقة على الاتفاقية المذكورة ونشرها، والتي ستصبح سارية المفعول عقب ذلك. وقد ورد نص الاتفاقية كاملا في الجريدة الرسمية عدد 5755 الصادرة بتاريخ 4 شعبان 1430 الموافق ل 27 يونيو 2009. ب. القانون 22*80: يتعلق هذا القانون بالمحافظة على المباني التاريخية والمناظر والكتابات المنقوشة والتحف الفنية والعاديات ويتضمن مجموعة من الأبواب والفصول التي ترتب المنقول وتنظم مجموعة من العمليات المرتبطة بالعقارات والتحف الفنية كما ينص هذا النص التشريعي على العقوبات المترتبة عن تجاوز المساطر القانونية المتضمنة في بعض من فصوله. جدير بالذكر أن هذا القانون يرخص للباحثين ولوج المباني والعقارات من أجل البحث والدراسة. ت. القانون التنظيمي المتعلق بالجماعات رقم 113.14: بموجب هذا القانون تتحمل الجماعات الترابية ومجالسها المنتخبة مسؤولية حماية التراث والخصوصيات الثقافية كما ورد في الباب الثالث من القانون المذكور، وتحديدا في المادة رقم 87:" تمارس الجماعة من الاختصاصات المشتركة بينها وبين الدولة في المجالات التالية: – تنمية الاقتصاد المحلي وانعاش الشغل؛ – المحافظة على خصوصيات التراث الثقافي المحلي وتنميته." وبغية ترويج التراث الثقافي والفني المحلي وجعله رافعة من رافعات التنمية والرواج الاقتصادي ألزم ذات القانون في المادة رقم 83 الجماعات المحلية بتنظيم معارض الصناعة التقليدية وتثمين المنتوج المحلي. ث. المناهج التعليمية: جاء في القانون الاطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين جملة من الاجراءات المتعلقة بادراج الأنشطة الثقافية داخل الحياة المدرسية حتى يتمكن التلميذ من تملك رصيدا ثقافيا وقيميا يساعده على الاندماج في محيطه والانفتاح. طموح تربوي تجسده جملة من المذكرات المنظمة الصادرة عن وزارة التربية الوطنية. لكن وجب الاشارة أنه بافتحاص القانون المذكور لم تتم الاشارة إلى هدف صريح يتوخى تمرير التراث الثقافي المغربي المتعدد الروافد بجميع أشكاله وبكل مكوناته للناشئة المتعلمة، فالمقررات والمحتويات الدراسية تكاد تكون مكوناتها فارغة من ابداعات الأدب الشعبي، بالرغم من جمالية هذه الأخيرة، وحمولتها التربوية والقيمية: الزجل، الحكاية الشعبية، الشعر الحساني والأمازيغي وقيمة عن الألعاب المقررة. يمكننا أن نستخلص مما استعرض من نصوص ومواد قانونية، بالإضافة إلى اتفاقيات وقوانين أخرى لم نذكرها، أن هناك زخم من تشريعي مهم يعكس انشغال مؤسسات الدولة بالتراث الوطني، ووعيها بأهمية وقيمة التراث الثقافي المادي وغير المادي، وبضرورة حمايته على اعتبار أنه ثروة ثمينة جديرة بالصون. وقد ملأت هذه التشريعات الفراغ القانوني في هذا الموضوع، وألغت مزاج المسؤول في المحافظة على التراث والتعامل معه بمنطق الانتقائية، القائمة على الخلفية الايديولوجية، والنفعية المباشرة. لكن بالرجوع إلى واقع مجموعة من مكونات التراث على المستوى الوطني نجدها مازالت مهددة بخطر الضياع والتدمير والانقراض، ولا يلتفت إليها إلا ناذرا. فمجموعة من القصبات والمواقع التاريخية مهددة بالتدمير نتيجة استباحة فضاءاتها ،وجعلها مجالا هامشيا يستغل خارج القانون، أو تجاهلها بالمرة لتبقى ركنا ميتا، ومظلما خارج مجال الحياة. ينضاف إلى هذه الصور من الاهمال صورة أخرى تتمثل في عدم صيانة هذه المآثر والمعالم بشكل منتظم واحترافي يبرز دلالتها التاريخية وقيمتها المعمارية، لذلك تبقى خارج جل المخططات التنموية المحلية. وعلى غرار التراث المادي مازال نظيره غير المادي دون اهتمام، ومحل اهمال، بالرغم من وفرة عناصره وتعددها، كما يصرح بذلك الباحثون في الثقافة الشعبية و الأدب الشعبي المغربي. إذ لازال هؤلاء المختصون يدعون إلى الانتباه للموروث الأدبي الشفهي بالخصوص ( الحكاية الشعبية، الأمثال الشعبية، الزجل، الكرامات...) قصد العمل على حمايته واستثماره اجتماعيا وتربويا وثقافيا وفنيا وبحثيا. وإذا اقتربنا أكثر من الواقع فمجموعة من العادات والتقاليد لجماعات وقبائل مغربية لم يتناولها البحث الأنثربولوجي، والتداول الاعلامي كي يتم التعريف بها، وتيسير شرحها وفهمها وتوثيقها حتى لا تندثر وتموت. ختاما يتبين أن المقاربة القانونية لحماية التراث، على أهميتها وضرورتها، لم تصب أهدافها على مستوى الواقع المغربي. فينبغي أن ترافق بمقاربات أخرى: تحسيسية، تربوية وتنموية، تستهدف المواطن، تروم، في مستوى أول، توعيته بقيمة الموروث الثقافي المحلي وأهميته في تشكيل الوعي بالذات الفردية، والجماعية، و الجمعية، وترسيخ هوية مشتركة أصيلة؛ بعد ذلك، وفي مستوى ثان، حمل ذات المواطن للانخراط الواعي في حماية التراث المحلي والوطني؛ ثم اقدار هذا المواطن على تبني مشاريع تنموية تعتمد على الرأسمال الثقافي والتراثي المتراكم، الكبير والشاهد على غنى الدولة المغربية وعراقة كيانها.