تمّ اختتام فعاليات "شهر التراث يحل ضيفا ببيتك" الذي أطلقته وزارة الثقافة والشباب والرياضة - قطاع الثقافة- تماشيا مع الظروف الحالية المرتبطة بكوفيد- 19، كورش وطني للتعريف بالتراث اللامادي والأركيولوجي الذي تزخر به بلادنا، والذي عرف محاضرات علمية عديدة نظمت من طرف فعاليات أكاديمية عبر الفضاء الأزرق للمساهمة في التحسيس بمدى أهمية هذا التراث باعتباره ثروة نفيسة من قصور وقصبات وغيرها. ومن أجل الوعي الجماعي بالقيمة العالمية للتراث المغربي والأركيولوجي واللامادي، ساهمت المديريات الثقافية لمختلف جهات المملكة إضافة إلى مؤسسات وطنية مثل المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث في هذه التظاهرة، كما ساهم مجموعة من الباحثين والأساتذة في مختلف التخصصات الأثرية والأنتروبولوجية وبشكل فعال في هذه الفعاليات المهمة، بتقديمهم ندوات فكرية افتراضية. يقول عبد الله العروي: "عندما نقول: الموروث أو التراث، فإننا نشير إلى مجموعة من الأشكال الكلامية، أو السلوكية، التي انحدرت إلينا من الأجيال السالفة، وبالتالي فإن كلمة تراث تعني كل ما هو موروث في مجتمع معين عن الأجيال الغابرة: العادات، والأخلاق والآداب، والتعابير، وهذا يعني بالضبط ما تؤديه كلمة تراث".( العروي، عبد الله، (1988) ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي المغرب، ط 2، ص 192-191 . كتاب "ابن رشد في فكر محمد عابد الجابري منشورات دار البيروني للنشر الطبعة الأولى 2019". لقد ظهر مفهوم التراث الثقافي غير المادي (أو اللامادي) أو التراث الرمزي عام 2001م عندما أُعلنت لأول مرة قائمةُ مأثورات تقدمت بها الدول، بناءً على طلب لمنظمة اليونسكو بتحديد مفهوم التراث غير المادي، وذلك في إطار إعلان روائع التراث الشفوي، أو التراث غير المادي للإنسانية، على أن تكون المأثورات المقترحة تعبيراً ثقافياً حيّاً أو مهدداً، وأن تكون قد وضعت لها برامج لصيانتها وتطويرها. ويشمل هذا التراث العادات والتقاليد وأشكال التعبير الحية الموروثة من أسلافنا والتي تم تناقلها بين الأجيال، مثل التقاليد الشفوية وفنون الأداء والطقوس والأحداث الاحتفالية والمعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون أو المعرفة والمهارات اللازمة لإنتاج الحرف التقليدية، ويوفر التراث الثقافي غير المادي للمجتمعات الإحساس بالهوية والاستمرارية، وهو ما يعزز احترام التنوع الثقافي والحوار بين الثقافات. وقد تم توقيع اتفاقية بهذا الشأن صدرت عن اليونسكو في باريس 17 أكتوبر 2003م سُميت ب «اتفاقية صون التراث الثقافي اللامادي». وقد أُعطيت التوجيهات العملية لهذه الاتفاقية من قِبل اللجنة الدولية الحكومية، وحددت قائمة تمثيلية عالمية، وأخرى في حالة تستوجب الحفاظ العاجل (معرضة للخطر)، لتظهر عليها المأثورات التي حددت سابقاً وتسجل عليها سنوياً مأثورات جديدة. ولقد صادقت على هذه الاتفاقية أكثر من 78 دولة في 20 يونيو 2007م. وطبقا لهذه الاتفاقية، تم تعريف التراث الثقافي غير المادي، بأنه "الممارسات، والتصورات، وأشكال التعبير، والمعارف، والمهارات وما يرتبط بها من آلات، وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية، والتي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحياناً الأفراد، جزءاً من تراثهم الثقافي. وهذا التراث الثقافي غير المادي ينتقل من جيل إلى جيل، ويقع بعثه من جديد من قِبل الجماعات والمجموعات طبقاً لبيئتهم وتفاعلهم مع الطبيعة ومع تاريخهم، وهو يعطيهم الشعور بالهوية والاستمرارية، بما يساهم في تطوير احترام التنوع الثقافي، والإبداع الإنساني". ويعود الاعتراف بمكانة التراث الثقافي غير المادي إلى الأكاديميين والأنتروبولوجيين والإثنولوجيين، إضافة إلى المجلس الدولي للمتاحف الذي أُسِّسَ سنة 1946، وفي السياق نفسه تم اعتماد اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي. ويشكل المؤتمر العالمي المعني بالسياسات الثقافية بالمكسيك 1982 المناسبة التي استخدمت فيها عبارة التراث غير المادي لأول مرة. ومما جاء في إعلان مكسيكو، حسب موقع اليونسكو، أن كل ثقافة من الثقافات تمثل مجموعة فريدة من القيم التي لا غنى عنها، إذ إن كل شعب من الشعوب يتخذ تقاليده وأشكال تعبيره وسيلة ليثبت وجوده في العالم. وبهذا المعنى، يشير الإعلان إلى أن الهوية الثقافية والتنوع الثقافي لا ينفصمان، وأن الاعتراف بوجود أشكال متنوعة من الهويات الثقافية حيثما تتعايش مختلف التقاليد هو ما يشكل جوهر التعدد الثقافي. ومنذ إقرار اتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي من قبل اليونسكو في عام 2003، وحماية التراث الثقافي غير المادي من خلال الصكوك القانونية، تم وضع الأهداف الرئيسية لاتفاقية عام 2003 في حماية التراث الثقافي غير المادي في صدارة اهتمام العديد من الدول، وذلك لرفع مستوى الوعي حول أهميته وتشجيع التعاون الدولي والمساعدة في هذه المجالات؛ ذلك لأن الاتفاقية المذكورة تركز على دور المجتمعات المحلية والجماعات في الحفاظ على التراث الثقافي غير المادي. ومن أجل زيادة وعي المجتمع بأهمية التراث الثقافي اللامادي، تم التركيز على أهمية إشراك جميع الفعاليات في عملية الحفاظ على هذا الموروث. للتراث اللامادي أدوار متنوعة؛ منها ما يتعلق بالحفاظ على الهوية ومقومات الشخصية، ومنها ما يساهم في التنمية الاقتصادية، مثل السياحة وغيرها، وما له علاقة بتطور المجتمع. كما يخضع التراث اللامادي لتحولات تمليها تطورات الحياة المختلفة. من جانب آخر، يعتبر التراث اللامادي من أهم المقومات للجذب السياحي، ويمكننا توظيف كنوز هذا الأخير في مجال الترويج له من خلال إدراجه في الفعاليات والمهرجانات المحلية والدولية، وأيضا إعادة إنشاء فضاء للأنشطة الشعبية التي تعكس هذا التراث. وللتراث اللامادي تجليات شتى يطغى عليها الجانب الشفهي، ويشمل المجال الفني، والحكائي والديني والأسطوري. كما أن له أدوارا متنوعة؛ منها ما يتعلق بالحفاظ على الهوية ومقومات الشخصية، ومنها ما يساهم في التنمية الاقتصادية، مثل السياحة وغيرها، وما له علاقة بتطور المجتمع. وقد لوحظ، خلال مرحلة إعلان حالة الطوارئ الصحية، انتعاش العديد من المضامين التراثية والفنية اللامادية، من خلال تداول المواطنين للأشعار والأمثال والحكايات والأغاني القديمة؛ ما يدل على حيوية هذا التراث الذي ما زال يؤدي وظائفه إلى اليوم. التراث المادي شاهد على تاريخ عريق وبجانب التراث اللامادي، يزخر المغرب بمآثر وصناعات وحرف يدوية كثيرة تعكس غنى التراث المادي كذلك ببلادنا؛ وهو التراث الذي يمكن تعريفه بأنه كل ما يتخذ طابعا ملموسا ذا وجود مادي مجسد من بنايات ووسائل وأدوات ومصنوعات شعبية. ولهذا التراث المادي أيضا مرجعياته القانونية ومختصوه والمتابعون لشأنه، فقد عقد الجمع العام السنوي ال19 للمجلس العالمي للمعالم والمواقع (إيكوموس)، منذ أكتوبر 2019 بمراكش. وحسب الأستاذ عبد العاطي لحلو، رئيس اللجنة الوطنية المغربية "إيكوموس المغرب"، فإن المغرب يولي اهتماما مهما بهذا المجال والذي ينبع من إدراكه بأن التراث والتنوع الثقافي المادي يمثلان رافعة أساسية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في البلاد. ومن بين التوصيات التي تمخض عنها اللقاء ضرورة الاهتمام بتراث العالم القروي الطبيعي المادي وغير المادي على مستويات من قبيل: الدراسات الأكاديمية والاهتمام بالقضايا البيئية والإيكولوجية وحماية الثروات الطبيعية والاهتمام بالأنظمة التقليدية للاستغلال الفلاحي مثل الخطارات المائية التي تعد معلمة تاريخية وتراثا ايكولوجيا باعتبارها أنظمة نقل نشيطة للمياه عبر "أروقة" تحت أرضية. ونوه الأستاذ عبد العاطي لحلو بما تقوم بها بلادنا في مجال تأهيل وترميم المدن العتيقة والبحث الأثري والجيولوجي، حيث أكد أن الجهود غير كافية مقارنة مع غنى وتنوع التراث الطبيعي والثقافي الذي يزخر به المغرب. كما أوضح أن لجنة "إيكوموس المغرب" قد تأسست في فبراير1997 بالرباط من لدن المهتمين بشؤون التراث الطبيعي والإنساني لتقوم، كباقي اللجان الوطنية، بمهمة تحسيس المواطن بأهمية التراث المادي واللامادي وقضاياه والمحافظة عليه وترميمه وحمايته؛ وهو العمل الذي تقوم به اللجنة المغربية بتعاون مع المجلس العالمي للمحافظة على الممتلكات الثقافية، إيكروم ومنظمة اليونسكو والإيسيسكو وغيرها. وفي إطار حماية التراث، كان من بين التوصيات الصادرة في ندوة حماية التراث الأثري لعام 1990 التابعة للإيكوموس في مدينة Lausanne والتي جاء فيها ما يلي: تنص المادة رقم (2) على أن المشاركة الفعالة من قبل عامة الناس يجب أن تكون جزءا ضروريا من سياسات الحفاظ على التراث الأثري وبشكل أساسي عند وجود الأثر في وسطهم، كما يجب تزويدهم بالمعلومات اللازمة التي تساعدهم على هذه المهمة. كما نصت المادة (3) من الاتفاقية نفسها على أن مهمة الحفاظ على التراث الأثري هي واجب أخلاقي على عاتق جميع المجتمع البشري، إلى جانب أنه يجب تعريف المجتمع بأهمية هذا الواجب من خلال وضع الموارد المالية والقوانين اللازمة لدعم برامج إدارة وصيانة الآثار. وأضافت المادة (6) أن أفضل وسيلة للحفاظ على الآثار هي إسناد مهمة إدارة وصيانة الآثار إلى السكان المحليين، كما نصت المادة (7) على ضرورة إيضاح وتفسير أهمية هذه الآثار في تطوير المجتمعات الحديثة. كما تنص المادة رقم (8) من توصيات لجنةICOMOS الأمريكية، المنعقدة في تكساس عام 1996، على أن مسؤولية إدارة وحماية التراث الثقافي تعود في المقام الأول إلى المجتمع الذي نشأ فيه وحافظ عليه سابقا. ومن هنا، يبرز دور المجتمع في الحفاظ على الآثار وبالأخص المواقع الأثرية كما يتجلى دور الأسرة في الحفاظ على الآثار وذلك بتشجيعها الناشئة من الأطفال على زيارة المواقع الأثرية بغرض المتعة والمنفعة، وغرس حب الوطن في نفوسهم والاعتزاز بتاريخه؛ مما يدفعهم في النهاية إلى المشاركة في الحفاظ عليه، لأنه مصدر اعتزازهم وانتمائهم لبلدهم. ومن جهة أخرى، تناط إلى المؤسسات التعليمية بدورها مهمة التعريف والحفاظ على التراث على سبيل المثال الآثار، حيث يتركز دور قطاع التعليم في الحفاظ عليها وذلك بالعمل على حث وتعليم الأطفال والشباب الاهتمام بالتراث عن طريق المؤسسات التعليمية، والتي تشمل المدارس والجامعات ومراكز تكوينية للفنون الحرفية يشرف عليها خبراء في ميدان الحرف اليدوية التقليدية و(المْعَلْمِينْ) أو الصناع وغيرها من المعاهد التي تساهم في الحفاظ على التراث بصفة عامة عن طريق إدراج مواد تعليمية من قبيل تاريخ المغرب القديم ودروس في فن العمارة، إضافة إلى التعريف بالحرف التقليدية التي تعبر عن الأصالة المغربية وغيرها في جميع مراحل الدراسة من المرحلة الأولى إلى المرحلة الجامعية، وذلك ضمن البرامج التعليمية، بالإضافة إلى إعطاء نبذة عن المواقع الأثرية في المغرب وإعطاء فكرة عن طرق صيانتها والحفاظ عليها، وكذلك القيام ببعض الزيارات الميدانية لها وتنظيم ندوات وملتقيات فكرية تحسيسية بقيمة وأهمية التراث الثقافي الوطني، في جميع جهات المغرب. لقد آن الأوان للبحث عن الوسائل الكفيلة والناجعة للتوظيف الجيد لقطاع الحرف التقليدية كتراث أصيل يبرز مهارات الصانع المغربي في المجال السياحي، وخصوصا في ظل تداعيات جائحة كورونا، التي تستلزم تضافر الجهود لإنقاذ قطاع السياحة، لأنه مرتبط بقطاعات اقتصادية مهمة مثل قطاع الصناعة التقليدية الذي يستلزم بدوره إحداث مجمعات خاصة بالحرف اليدوية للصناع مدعمة بالوسائل المادية واللوجيستيكية مع الاهتمام بقطاع الخدمات وغيرها. إن التراث المغربي هو ذاكرة وركن أساسي من الهوية المغربية، تراث غني من أبرز سماته أنه يتميز بالتنوع والتعدد (د. عباس الجراري2006، كلمات تقديم ص39)، سواء في جانبه الحضاري أو الثقافي، يجب الحفاظ عليه. هذا دون أن ننسى، من جهة أخرى، دور وسائل الإعلام بجميع أصنافها في التأكيد على أهمية صيانة التراث المادي واللامادي كموروث غني بوظائف متعددة، عن طريق إعداد برامج تثقيفية تُعَرف بتاريخ المغرب وحضارته، وبرامج تحسيسية، باستضافة خبراء وأساتذة أكاديميين متخصصين في هذا المجال للتعريف به.