في بداياتي المِهْنية وفي موسم دراسي ما في مكان ما كانت في فصلي تلميذتان شقيقتان، تجلسان أمام المكتب مباشرة، أبحث في وجهيهما عن القواسم المشتركة فلا أجد الكثير، لكن دائما أخطئ في الصغرى لأنها تبدو أكبر سنا لأن شقيقتها كانت هزيلة الجسد وكانت تتصرف بحكمة كعجوز صغيرة تسير بيت عيال تعددت فيه زوجات الأبناء. إلى هنا كان الأمر عاديا لا يستحق التذكر ولا الكتابة ولا أراه يفيدكم في شيء.. قصتي مع الفتاتين تبدأ عندما سطرت جدولا على السبورة وطلبت من التلاميذ نقله إلى دفاترهم... انشغل الجميع برسم الجدول..في انتظار أن يرسموا أرجع معكم إلى مرحلة الثانوي وأنا تلميذ، كان أستاذنا في العلوم الطبيعية أستاذا متدينا غريب الأطوار، وكان يفرض علينا قوانين خاصة به داخل الفصل بمبادئ تعودنا الأمر وأصبح مألوفا نتقبله بصدر رحب... ومنها أنه لا يسمح للتلميذات بالدخول بلباس متبرج فلا بد من وزرة ساترة، كما يفرض عليهن أن يجلسن في المقاعد الخلفية حتى لا يفتنن الذكور. لكن الأغرب أنه يفرض علينا نوعا من قلم الرصاص (HB2) دون غيره، وأنا ممن كان هذا القلم فوق طاقتي لأن هناك قلما يؤدي الدور نفسه بثمن رخيص، كما كان أستاذنا يرفض أن نسطر بالكوس أو المنقلة، وأداة التسطير الوحيدة التي يقبلها هي المسطرة، وسبق أن توعدني لأنه وجدني أسطر بالكوس دون المسطرة... عدت من شرودي عندما انتبهت إلى أن إحدى الشقيقتين تسطر بينما الأخرى تنتظرها حتى تفرغ. نظرت إليها مبتسما، وكان من عادتي بين الحين والآخر أن أشاكس تلامذتي لعلي أرسم ابتسامة على وجوه بعضهم ولكن أكسر رتابة الدرس أحيانا ليفهموا أننا يمكن أن نضحك ونجد.. اقتربت من مقعد الشقيقتين وقلت لها مازحا: – هل أبوك بخيل إلى هذه الدرجة ليشتري لكما مسطرة واحدة؟ ابتسم بعض التلاميذ الذين كان على مقربة منهما لأنني لم أتحدث بصوت عال لكن الفتاة لم تبتسم، أجابت: – أبي رحمه الله. وجدتني في ورطة كبيرة وحرج، انتابني إحساس غريب، وسرت قشعريرة في جسدي، اقتنعت أنني تصرفت بشكل سيء، وأن مبرر جهلي بوفاة والدها مردود علي فهما تلميذتان في فصلي وكان علي أن أعرف، حتى وإن كانت مدارسنا لا تقدم لنا معلومات ضرورية عن المتعلمين كالوضع الأسري أو الحالة الصحية لبعضهم مثلا.. – رحم الله والدك، وأعتذر عن تعليقي. مر الموقف بسلام، ولعل الفتاة نسيته كما يمكن أن تنسى الدرس والأستاذ، ولكنني لم أنسه أبدا وما زلت في كل بداية موسم أتذكره وأصره على سؤال تلاميذي على مهنة الأب والأم وإن كنت في الحقيقة لا أهتم أكثر للمهنة بقدر ما انتبه عندما يكتب أحدهم متوفي أو متوفية فأصححها إلى متوفى ومتوفاة وأترحم ثم أمر. لكن ما أثار انتباهي هو موقف جزء مهم من التلاميذ الذين لا تكون والدتهم تزاول (مهنة) فيكتب بعضهم "بدون" أو "ربت بيت" فيكون علي مرة أخرى أن أخبرهم أن "ربة" بتاء مربوطة وأنشدهم: ربابة ربة البيت تصبّ الخلَّ في الزيت لها عشرُ دجاجات وديكٌ حسنُ الصوت ثم راودني أن أكتب عن ربة البيت هاته التي يخجل البعض أن تكونها أمه خاصة إذا صادف أن جاوره من أمهاتهم "مهندسة، أستاذة، طبيبة، موظفة..." فيشعر وكأن أمه يقل شأنها أمام هؤلاء، وبالتالي فزملاؤهم يزيدون عليه درجة لأن أمهاتهن عاملات بأجر شهري ومنزلة اجتماعية رمزية. ربة بيت كانت الأصل، كانت أم الجميع، قبل أن تنخرط النساء في العمل كن ربات بيوت وحتى العاملات أغلبهن يؤدين دور ربات البيوت بلا ملل.. انظر إلى نفسك كيف تكون بلا أم.. بلا خبز البيت، بلا شاي ساخن، بلا دفء، بلا بيت مرتب، بلا غرفة أنيقة، بلا صحن نظيف، بلا لباس مغسول، بلا كسكس جمعة، بلا نداء الصباح أن استيقظ، بلا فرحة بضيوف، بلا سؤال الجارة عن أمك وعن صحن وعن قدر... تخيل أما لا تمارس دور ربة بيت، تخيل حجم الفراغ في الحياة... حاول أن تفكر في الأجر الشهري الذي تستحقه هذه المرأة... إنك لا تستطيع أن تخصص لها أجرا ولا أبوك فعل ذلك، وهي لم تطلب أجرا.. يكفي أن تحضنها بقلبك وتفخر بها وتقدسها، وإن سئلت عن مهنتها فقل مرفوع الرأس وبعزة نفس "أمي ربة بيت".