في كل مرة يطل وجهه الصبياني من بين أوراق ذاكرتي، ابتسم لوجهه الطفو لي فيبادلني الابتسام، فأنا من النوع الذي لا أنسى من يدخل إلى حياتي، سواء كان مروره عابرا، أو عمر طويلا فيها. وحتى إن أساء إلي، فانا أحتفظ بذكراه في ركن من ذاكرتي ولا أطرده. وكان هو من الأشخاص القلائل الذي دخل إلى حياتي، وترك فيها أثرا طيبا. كان عاملا في مخدع هاتف، وإلى جانب المخدع الهاتفي وجدت صيدلية، كانت تعمل بها صديقتي، جمعنا في البداية الطريق المرعب الذي يفصل بين الصيدلية وبيتنا، فتعودت كلما عدت من عملي أن انتظرها، أو تنتظرني لنأخذ الطريق معا. وإذا صادف ولم أجدها كان هو يقفل المخدع الهاتفي ليرافقني في الطريق، بداية بدأت أحاديثه خجولة وبروتوكولية، وفيما بعد أصبح يحدثني عن كل شيء. حتى أحيانا كان يتخيل إلي أنني أعيش في منزله، أعرف كل ركن وكل زاوية، أعرف الأثاث الذي يضعونه في كل مكان، أعرف شكل والدته وأخواته وأصدقائه وحبيبته، رغم عدم معرفتي بهم... ولا أنسى أبدا ذات يوم قبل أن أصل إلى محل عمله، حين قفز شاب من حي جانبي وحاول أخد حقيبة يدي، وكان قريب لي يسبقني، فقفزت مذعورة إلى داخل محل عمله ولم ألجأ إلى قريبي، كان يجلس مع صديق له وخرجا معا، وأعطوا للص درسا- لا أجزم- ولكنني أعتقد أنني لو كنت في مكانه لتبت عن السرقة، أما قريبي فانصرف إلى حال سبيله ولم يلتفت خلفه... وقتها أصبح له مكان خاص في ذاكرتي، ولا أخفيكم أن الأبطال الذين يتربعون على عرش حياتي هم أشخاص عاديون، جمعتني بهم ظروف الحياة، ربما قد يرى شخص أخر هذا الرجل إنسانا عاديا، ولكن بالنسبة لي يكون هذا هو البطل الحقيقي بحياتي، لذلك قررت الكتابة عنه اليوم. لقد نزل علينا الخبر أنا وصديقتي كالصاعقة، حين أخبرنا أنه سيهاجر إلى أسبانيا، سألته: هل ستعود؟ قال لي عزيزتي أنت مجنونة؟ وهل هناك من وصل إلى هناك وعاد إلى الوطن.... قلت ساخرة: تحسسني أنك أخذت تأشيرة إلى الجنة. فردد: بل تأشيرة لتحقيق كل الأحلام قالت صديقتي: "قطران بلادي ولا عسل بلادات الناس". ردد: "بالنسبة لك أما بالنسبة لي فعسل بلادات الناس ولا قطران بلادي." ورحل سمير وأصبح ذاك المخدع كئيبا موحشا، ليس بالنسبة لي فقط بل بالنسبة لكل الذين عرفوه في تلك المنطقة. وبعد أيام ربما خمسة لمحته من بعيد لا أعرف كيف مشيت كل تلك المسافة بلمحة البصر، لم أحس بنفسي إلا وأنا إلى جانبه، فقلت: ظننت أني لن أراك إلا بعد سنوات. فنظر إلى صديقتي وقال: كما قالت قطران بلادي ولا عسل بلادات الناس، تصوري أحسست بالقنوط منذ أول يوم وصلت فيه إلى هناك. أحسست أني جسد ترك روحه هنا.... لم أتذكر صوت والدتي التي تدخل إلى غرفتي مبكرا لتحسسني أني فاشل "لا وجه السعاية ولا ذراع الخدمة". نسيت صوت أبي الذي لا يضيع فرصة لمقارنتي بشباب الحي الأصغر مني الذين لا يقف في طريقهم حتى الموت لتحقيق ما تريد أسرهم، نسيت أجرتي التي لا آخذها إلا بعد انقضاء الشهر ونصفه، نسيت حبيبتي التي تتمنى ذهابي وإن كان الموت هو مصيري. نسيت ونسيت..... مرت أيام وكان المرور أمام المخدع الهاتفي دون رؤية سمير منكبا على كتيب صغير يسجل فيه. أمر غريب. وحملني الفضول يوما لأساله فقال لي: لقد قررت أن أعيد الكرة. فقلت: هل ستهاجر؟ قال: نعم ولكن هذه المرة أسجل كل شيء سيء يمر بي حتى لا أنسى. وأخذت منه الكتيب وغرقت في الضحك. لقد خصص فصلا عني أيضا. فذات يوم كان واقفا مع أصدقائه، ومررت بجانبه دون إلقاء التحية عليه، لأن صديقتي كانت توقف سيارتها بمكان غير مناسب، وكانت تخشى رجال المرور الذين ينتظرون مثل هذه الفرصة على طبق من ذهب. فأردت أن أبرر فقال أرجوك لا تفعلي أكثر دعيني أذهب دون عودة.... فقالت صديقتي: اذهب إلى الإدارات العمومية وغير العمومية، اكتب عن الموظفين، اكتب عن قاعات الانتظار، اكتب عن ورقة إدارية قيمة طابعها درهمان ستكلفك 50 درهما، اكتب عن مقدم الحي الذي أصبح له قيمة أفضل مني ومنك، لأنه بإمكانه أن يضيع مستقبلك بحرف كتبه زائد أو ناقص سيجعلك تسكن الإدارة لشهور، قد تفقدك مهنتك... اكتب عن أرباب العمل... عن أصحاب هؤلاء السيارات الفارهة الذين ما زالوا يرتدون الجلابيب، ويحملون الأوراق النقدية في البلاستيك الأسود، هؤلاء الذين جعلتهم نباتات طفيلية من أصحاب النفوذ في مدينتي. اكتب واكتب... كتب هو وكتبت أنا بمداد من دم ودموع وحرقة وألم، عنه، عن أخي الأصغر الذي طالما رافقته دعوات أمي ودموعها. يقول لها: إذا لم أعد الليلة فاعلمي أني رحلت أرضي علي سواء وصلت أو جاء إليك أحدهم بنبأ سيء عني... لسنوات عدة كلما جلس أخي بجانبي- قبل رحيله- كنت أتمعن النظر إليه فأتأمله وكأني أراه لآخر مرة بحياتي، لسنوات وأنا أخاله جثة لا حياة فيها يوما ما ستتحلل. تساوت عنده الحياة بلا حياة، فكرهت أمي أسبانيا- الغول الذي اختطف منها شابين، ربما حققا ما طمحا إليه هناك ولكنها ظلت تتحسر على عدم إكمال أخي الأصغر تعليمه، وترك أخي الأكبر لمهنته كمحاسب في إحدى الفنادق الكبرى بمدينة طنجة رغم الأجر الضئيل الذي كان يتقاضاه.... ورحل سمير.... كما رحل أخي. وأخي الأكبر منه.... و.... و... منهم من يصل ومنهم من يستقر تحت عجلات الشاحنات ناقلة السلع، أو يستقر في بطون الأسماك. وظل شقيقي يأتي كل صيف يحل علينا والدموع تملا عينيه، ويرحل والدموع تملا عينيه. فالحياة أصبحت بالنسبة له سفر ورحيل. رحيل إلى غير عودة أو عودة تمنحنا الفرح ثم تنتزعه منا. يحس بالغربة والوحدة خارج الوطن، وأحس بالغربة وأنا مع أسرتي وفي أحضانها. رحل أخي وعرف أن حلمه لم يكن على قدر تضحيته. أصبح حلمه أن يعود إلى الوطن... ولكنه عندما يأتي لا يستقر به المقام إلا أياما وينهار، أمام ما قيده سمير في مذكرته وقيده هو في ذاكرته... رحلوا هم وبت أخاف رحيل والدي ذو الثمانين سنة. أستيقظ كل ليلة قلقة لأستمع إلى أنفاسه حتى إذا اطمأنت إلى أنه يغرق في النوم أعود لأكمل نومي متقطعا قلقا لأستيقظ بعد لحظات أخرى لأطمئن عليه مجددا. أخاف رحيله كما يصعب علي تقبل رحيل أختي الصغرى بعد زواجها للانتقال إلى بيت زوجها، رغم أنه بزواجها قد أضافت نبضا آخرا ودما جديدا وفرحة غابت لسنوات عن سماء أسرتي الصغيرة. وملأ زوجها في قلبي فراغا تركه رحيل شقيقاي.. لقد أصبحت بعد كل هذا أنظر إلى الحياة من منظور أخر. لقد أصبحت الحياة بالنسبة لي عبارة عن رحلات منها الطويلة الأمد ومنها القصيرة ومنها رحلة دون عودة. لقد أصبح مخدع الهاتف منذ رحيل سمير عبارة عن محطة يأتيه عاملون لمدة ويرحلون ليعوضه آخرون. ورغم ما جاء إليه من أشخاص فقد بقي موحشا مقفرا، وزاد من وحشته مغادرة صديقتي الصيدلية بعد زواجها وانتقالها إلى بيت زوجها، ورحيل زميلتها في العمل للعمل بمكان أخر. فأصبح المكان برحيلهم عبارة عن أطلال أمر بجانبه فأبتسم لكل من عرفتهم... وأكمل طريقي في ذاك الطريق الذي كنت فيما مضى أخاف فيه حتى من خشخشة أوراق الأشجار تحت كعب حذائي. أما الآن فلم أعد أخف، أحس دائما بهم إلى جانبي وكثيرا ما تفلت ضحكتي رغما عني إذا تذكرت شيئا قالاه لي حتى إذا رأيت أحدا قادما أحك بسبابتي طرف أنفي محاولة إخفاء ضحكتي. لم يعد سمير للعمل بالمخدع ولكنه عاد إلى الوطن، رأيته يوما يجر عربة طفل صغير تتأبط زوجته ذراعه، ابتسم لي من بعيد وتأكدت مما قاله شكسبير: فما أقوى الحب فهو يجعل من الوحش إنسانا وأحيانا يجعل من الإنسان وحشا. ورفعت قبعتي لهذا البطل احتراما. هذا البطل الذي رمى ذلك الكتاب رغم ما حمله من قروح وصديد، رغم رائحة العفن الخارجة منه. رماه وعاد للعيش مع من أحب، مثله مثل كثيرين، الذين يحبون هذا الوطن ويحنون إليه، لا لغاية ولكن لأنه رغم ما نقول عنه وما نعيشه فيه يظل أحلى وطن في الوجود..