منذ شهور وأنا أراود نصا لكنه لا يريد أن ينكتب، كلما فتحت صفحة وورد شرد الذهن هناك حيث لا كتابة، ولا شيء غير الأوجاع اليومية التي تجعل منك إنسانا عاديا كباقي الناس يأكل ويشرب وينام ويغتاب ويفعل تلك الأشياء الأخرى... اليوم كنت في الحمام (...، الله يعطيك الصحة)... وكلما توجهت إلى حمام عمومي أيقنت أكثر أن هذا الوطن وسخ وفي حاجة إلى حمام، ولعله مجنوب في حاجة إلى طهارة كبرى إن كان قد بلغ الحلم. في الحمام كثير من الدروس التي نتعلمها أو نعلمها.. فأنت في حاجة إلى عزيمة الرجال أو عزيمة النساء "المعروضات لعرس" كي تلعن شيطان "العكز" وتذهب إلى الحمام. وأمام باب الحمام تحسد رجلا لا تعرفه ولا يفضلك بشيء إلا أنه لعن شيطان "العكز" قبلك وذهب إلى الحمام، وها هو يخرج وقد احمرت وجنتاه وغطس رأسه في طربوش وأحاط عنقه بمنديل كبير.. تقف أمام شباك صغير داخله امرأة أو رجل أنهكه العمر والملل لتعطيه دراهم مقابل وريقة ولوج، وفي رأسك "واش بحال دخول الحمام بحال خروجو"؟ نعم ليس سواء فقد تغير الكثير وأصبح المثل منسوخا، لأن دخول الحمام أصعب من الخروج منه وليس العكس، وقد ولى زمان يؤدي الناس فيه الثمن بعد الخروج وليس قبله. داخل الحمام؛ الناس عراة إلا من تبان يتفاوت طوله وتخلتف صفاقته، لكن بالمجمل فالرجال يعرضون بطونهم المتراخية، وكم هم بشعون ! وأكثرهم يعاني البدانة، وما تبقى يعاني هزالا حتى لا يكاد يغرق في مصرف المياه، وعلى النساء أن يتوقفن عن الحلم بجسد رجل رياضي.. ومع ذلك أغلب الرجال يملك لسانا طويلا، ويتخيل نفسه "عنترة" يمكن أن يصرع صناديد الحي الخطير ليحمي عبلاه، وتلك الغبية تصدقه، وها هو "منتشر" في حمام عمومي لا يقدر على الحركة.. تعالي لتري حبيبك كالدجاج الأبيض الذي ينام فوق الميزان ويسلم عنقه بسهولة. تمسك سطولا وتبحث عن مكان لترمي فيه كتلتك اللحمية، وأمَلُك أن تجد مكانا لا يجاورك فيه أولئك الذين ينتشرون "هبرة" كحلزون لا يحمل داره، يعرضون الكثير مما يجب أن يستر، ويحجزون مكانا شاسعا، يبنون له سورا بسطول كثيرة متوجسين دائما من أن ينقطع الماء مع أنهم يفعلون ذلك منذ عشرين سنة ولم ينقطع الماء يوما. بمرور الدقائق يرتخي جسمك أيضا، وتكاد تتحول إلى دجاج أبيض ينام فوق الميزان، وقبل ذلك يشير إليك رجل أبيض من هناك أن "شكرا، ..." تفهم من الإشارة أن المسألة تبادل تجاري لتعفيه من تكاليف "الكسال" ويعفيك، فعليه أن وعليك أن... يسلمك ظهره. واسمحوا لي أن أقول لكم إنه سيء أن تكون أبيض ناصعا طريا كالقشدة.. فقد أسلمني هذا الرجل ظهره، ويا ليتكم رأيتم ما فعلت به فقد جعلت "وداديا" رغم أنفه، ولم أجد ما أقول له فقد احمر ظهره وسال بعض دمه، وأنا والله لم أقصد غير إزالة درنه لكني أزلت أيضا بعض جلده، وكم سيشتمني عندما يعود إلى بيته، ولأنه لا يعرفني فسيصفني ب"واحد اللوين مفلس". ينتهي ذاك البدين المنتشر، ويغادر تاركا سطوله كأطلال سقط اللوى تنتظر رجلا متعبا يقضي يومه في الحمام مقابل قروش ليحملها... كما يترك له الكثير من الأجلاف بقايا صابونهم وزغبهم ليجمعه بعدما يحلقون وجوههم و... ومع أنهم يبذرون الكثير الكثير من الماء فنادرا ما يترك أحد منهم مكانه نظيفا، وكيف يتركه وعندنا مثل يلعن "اللي يخلي بلاصتو نقية". أنا أترك مكاني نظيفا نعم أتركه "وحق الله"، ولعلي الوحيد في هذا الحمام الذي يجمع سطوله ويعيدها إلى صاحبها بعد الانتهاء، وأيضا فأنا لطيف أقتصد الماء ما أمكن وأحكم إغلاق الصنبور وأجمع زغبي، وأملأ الماء لشيخ كبير... أرأيتكم لقد كدت أن أكون مواطنا صالحا لولا الجريمة التي ارتكبتها في حق ظهر ذلك الرجل الأبيض..