دعونا نتفق بداية أنه ليس من الإنصاف والموضوعية إنكار تأثر التلاميذ بإضرابات الأساتذة، فلا يعقل أن لا يتأثر المتعلمون بهذه الحصص الضائعة، وهذه الانطلاقة المحتقنة للموسم الدراسي، ودعونا نتفق أيضا أن مصلحة التلميذ ليست مرتبطة فقط بحضور أستاذه أو إضرابه أو غيابه وإنما بجوانب أخرى كثيرة لا صلة لها بالأستاذ.. ولو أن المسؤولين تهمهم مصلحة التلميذ بالقوة والفعل لأخذوا مشاكل التلميذ وأستاذه مأخذ الجد بدل الاكتفاء بتهييج الرأي العام ضد الأستاذ. ودعونا ثالثا نرصد بعضا من الجوانب التي ضاعت فيها مصلحة التلميذ دون أن يكون للأستاذ يد فيها لعل المدافعين صدقا يضعون اليد على موطن الداء الحقيقي: • في بداية الموسم الدراسي يضيع أسبوعان على الأقل بسبب عدم حضور التلاميذ إما لأنهم غير مسجلين أو لم يتوفر النقل المدرسي أو لم تفتح الداخليات أبوابها بعد، أو بسبب عدم جاهزية جداول الحصص وتغييرها كل مرة بالتفييض والتكليف وضم الأقسام وإعادة التوجيه وتوزيع الكتب والدفاتر المرتبطة بميادرة مليون محفظة... يأتي الأستاذ دون أن يحضر التلاميذ.. طبعا لا أحد يتحدث عن مسؤولية مَن ما دام الموسم الدراسي قد انطلق فعليا في نشرة الأخبار الرئيسية. • ظروف الإقامة في بعض الداخليات ودور الطالب كارثية بكل ما تحمله الكلمة من معنى يتجرعها التلاميذ بمرارة ويتمنون زيارة مسؤول أو وسيلة إعلام ليتم تزيين موائدهم بشكل يجعل أساتذتهم يتمنون لو أنهم تلاميذ في هذه الداخليات... فهل مصلحة التلميذ هنا له علاقة بإضراب الأساتذة. • يكفي أن تنظر إلى ظروف النقل المدرسي والوقت الذي ينتظره التلاميذ ذهابا وإيابا، وكيف يكدسون عددا قد يصل أربعين تلميذا ذكورا وإناثا في سيارة النقل المدرسي.. وكيف يفرض على التميذ الذي عنده حصة على الساعة العاشرة أن يخرج في "النبوري" مع أصحاب الثامنة لينتظر بعدها ساعتين لا ندري أن يقضيها ولا ما يفعل فيها... فما ذنب الأستاذ هنا في شرود التلميذ أو نومه خلال الحصة الدراسية؟ • يحمل التلاميذ محافظ تفوق وزنهم أحيانا مليئة بدفاتر وكتب كثير منها منتهي الصلاحية، ولا تثير فيهم أي فضول للتعلم ولا تساير متغيرات العصر، فلا زالت نصوص التكنولوجيا مثلا تتحدث عن حواسيب التسعينات وبداية الألفية مع أن ثورة الهواتف والحواسيب اليوم تتغير إمكانياتها من شهر إلى آخر والتلاميذ في هذا يطيرون مع الطيور بينما بقيت المقررات جامدة لعشرين سنة... فبأي ذنب يتهم الأستاذ بالإضرار بمصلحة التلميذ؟ • يدخل التلاميذ أقساما خربة مظلمة مخيفة ويجلس بعضهم على مقاعد الثمانينات رقعت مرارا حتى تحولت إلى تحفة تراثية تليق أن تكون في "بازار" وليس في مؤسسة تعليمية، ويدرسون في سبورة مهترئة وأستاذهم من يشتري أقلام الكتابة وينسخ فروضهم ويستعمل حاسوبه إن وجد مقبسا (prise) في القاعة وإن وجد جهاز عرض (data show). وبعض المؤسسات بلا مراحيض أو بمراحيض مقرفة أو بلا ماء. أما المختبرات فقد خلت من موادها فكأنها لم تعد جزءا أساسيا من المواد العلمية، فيدرس الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة والأرض كأنها مواد أدبية، فقد حصل تلاميذ على البكالوريا دون أن يتابعوا تجربة حية واحدة في مسارهم... وهلم جرا مما لا يدخل في مصلحة التلميذ ما دام المتهم فيه ليس أستاذا. • يتم تكليف أساتذة بعيدا عن مؤسساتهم وأحيانا خارج تخصصهم، ويتم الجمع بين أكثر من مستوى في السلك الابتدائي، وفي المدن الكبير أقسام مكتظة يستحيل أن يتوفر فيها جو التعليم... وفي كل الأحوال فالهدف هنا أن يكون التلاميذ داخل القسم لا أن يتعلموا، ودور الأستاذ أمني أكثر مما هو تربوي ولذلك لا أحد يتحدث عن مصلحة التلميذ هنا ومدى ملاءمة هذه الفضاء للتعلم، ومدى أهلية الأستاذ بتدريس مادة خارج تخصصه أو أن يدرس "سمطة" من المستويات. • التقارير الرسمية تقول إن النسبة الكبيرة من المتعلمين لا تتحقق فيها الكفايات المتوخاة، والأساتذة المشتغلون في الأقسام يعرفون هذا بلا حاجة إلى تقارير ولا روائز فالكثير من التلاميذ يعانون تعثرا في القراءة والكتابة والحساب حتى في السلك الإعدادي والثانوي فكيف سيفهمون المقرر الدراسي وينتجون ويبدعون ويستوعبون الفلسفة والبلاغة... أما مواد الفرنسية والرياضيات والفيزياء فأهلها يحدثون أنفسهم أحيانا ويكتبون لأنفسهم ولا يسايرهم إلا الاستثناء... فما حدود مسؤولية الأستاذ هنا؟ • عكس الواقع والتقارير تأتي نتائج البكالوريا مشرقة كقوس قزح بعد مطر طال انتظاره فتتجاوز نسبة النجاح 80 في المائة، وإذا نزلت عن 40 في المائة بعثوا لجنة تستفسر عن السبب وهم يعرفون السبب بل إنهم السبب لو صدقوا، مما يجعل بعض العاملين في الميدان يترجمون مضمون الرسالة "افهموا أنفسكم وأطلقوا العنان لأيديكم في النقط وتساهلوا مع الغش وقولوا مع القائلين "العام زين"".. • وأنت في سفر انتبه على يمينك أو يسارك سترى مؤسسات تعليمية أو أقسام وضعت في خلاء وقفار أو في قمة جبل حيث لا أحد وكأنها سجن تزمامارت.. لا حياة فيها، بعيدة عن كل شيء وضعت هناك لحسابات انتخابية ولصراعات بين الدواوير والقبائل يساق إليها التلاميذ والأساتذة كمن قرر أن يعذبهم جماعيا.. حلم التلاميذ أن يغادروها وحلم الأساتذة أن ينتقلوا منها. فمن يدافع عن مصلحة التلميذ وأستاذه هنا؟ • هل الأستاذ مسؤول عن الفقر والهشاشة وإدمان بعض المتعلمين والظروف العائلية القاسية لبعضهم وبعد المسافة بين السكن والمدرسة وغياب العدة المدرسية ونقص الموارد البشرية في الإدارة، وتكليف البعض خارج تخصص وإسناد مهمة التدريس إلى بعض الأساتذة ممن يعانون أمراضا تمنعهم من مزاولة التدريس داخل الفصل...؟ إن كان كذلك فيجب أن تحملوه أيضا مسؤولية ثقب الأزون والزلازل وحرب أوكرانيا وتدمير غزة وقتل أهلها ! • إن المستفيد الأول من حل مشاكل الأستاذ وتجويد ظروف العمل بالمؤسسات التعليمية هو التلميذ، ولذلك لا تحسبوا هذه الاحتجاجات شرا لكم بل في فيها خير كثير لكم وللأجيال القادمة ولمدرستنا ومستقبل وطننا. يا سادة يا كرام تحملوا مسؤولياتكم، وعالجوا أسباب إضرابات أسياد القسم، اسمعوا صوتهم واستجيبوا لمطالبهم، وقدّروا قيمتهم في المجتمع بتحسين وضعهم المادي وتوفير شروط العمل، ودافعوا عنهم رفعا لشأنهم ولجلال الخدمة التي يسدونها لهذا الوطن، وأبعدوا عنهم عقوباتكم واقتطاعاتكم والمتهكمين المسلطين من إعلاميّيكم... واطمئنوا فرغم سوء تدبيركم وما سببتموه من أذى للمدرسين والمدرسات فإنهم لا يردون الإساءة بمثلها بل سيظلون يعلمون أبناء المغرب كيف يحبون وطنهم ويتغنون بأمجاده ويدافعون عنه ويرفعون رايته خفاقة في المحافل... وأعدكم أن الأساتذة والأستاذات لن يبخلوا أبدا على تلاميذهم بالجهد والحب، وسيعملون على تدارك ما فاتهم من حصص، وبذل كل الجهد الممكن وفوق الممكن أحيانا مما لا تتصورن لإنهاء الدروس المقررة وتهييئهم للامتحانات المحلية والإقليمية والجهوية والوطنية. فهل يمكنكم أن تعدوني بتحقيق مطالبهم ولو من أجل مصلحة التلميذ -كما تدعون- من باب المثل المغربي "الله يجيب لينا الوجه فاش ندوزو"؟