"أن تعرف يعني أن تتناقض" هكذا قال الشاعر الفرنسي "شارل بودلير" ذات مرة. حسنا، هل هذا يعني أن المعرفة تزيد من تناقضات الشخص؟ هل يجوز تبرير التناقضات بين ما يؤمن به الانسان وبين ما يقوم به وفقا لكونه في جوهره كائن مركب ومكون من أبعاد ثلاثة وهي العقل والروح والجسد، وبالتالي فهو موزع بين عوالم مختلفة تتجاذب أطرافها العوامل الخارجية للبيئة التي كبر بداخلها؟ ذكرتني هذه الأسئلة بحب معظمنا للفلاسفة رغم اختلافنا أحيانا مع سلوكياتهم وأفكارهم ومعتقداتهم. فلماذا نحب الفلاسفة اذن؟ يميل الفرد غالبا تجاه النقيض هكذا جاءت الطبيعة البشرية (أنثى -ذكر / ذكر-أنثى)، إلا أن موضوع التناقض هذا لا يتوقف عند هذا المستوى، إذ يتعدى ذلك لانجذاب الشخص لعكس ما يروج له أو يدعي إيمانه به. وقد شكل الفلاسفة لمعظمنا عبر اختلاف الأزمنة مصدرا كبيرا للانبهار وللاقتداء. أما لبعضنا الآخر، فقد مثلوا عامل اغراء قوي ودافع لإعادة التفكير في العالم والنظر إليه بنظارتين مختلفتين. ناهيك عن كونهم كانوا مرجعا رئيسيا وقاعدة استشارية يلجأ إليها الحاكم كلما حار في أمره (نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر الفيلسوف "ميكيافيلي" وكتاب الأمير الذي أهداه ل "لوينزو الثاني دي ميديشي" حاكم فلورنسا في النصف الثاني من القرن الخامس عشر). نحب الفلاسفة لأنهم يتجرأون على قول ما لم نستطع قوله. لأنهم يذهبون بخطى ثابتة وواثقة نحو المحظور والمشتهى في حين أننا نكتفي بالنظر من ثقب الباب، عملا بالمثل السائد "كل ممنوع مرغوب". نحب الفلاسفة لأنهم عالم صارخ بالتناقضات التي لا نقوى على الإفصاح عنها حتى وإن كنا نعيشها في الخفاء. نحب الفلاسفة أيضا، لأنهم لا يقيدون أنفسهم بوازع معين ديني أو إيديولوجي حين يرغبون في طرح السؤال فهم يضربون عرض الحائط كل المرجعيات الثقافية والاجتماعية ليختاروا الشك كطريق نحو اليقين. ببساطة نحب الفلاسفة لأنهم في منحى من المناحي يمثلون وجها آخر لهذا العالم. بالمقابل، أتصور أننا نحب الفلاسفة أيضا لأن حياتهم كانت مليئة بالتناقضات. فالفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو" ألف كتابا ضخما بعنوان Émile ou de l'éducation "إيميل أو التربية" تحدث فيه عن أهمية دور الأسرة وتأثيرها في حياة الطفل وقدم شرحا مفصلا أيضا عن أهمية دور التربية داخل الأسرة وفي المجتمع بشكل عام. لكن حين تعلق الأمر بحياته الشخصية لم يكترث لكل ما كتب من أفكار وتنظير، إذ انتهى به الأمر بوضع أبناءه الخمسة بالملجأ! أما صاحب المدينة الفاضلة "أفلاطون"،The Ideal City فقد كان يحلم في ما يحلم بمدينة سعيدة ويبدو أنه وجد سعادته في حبه للغلمان. إضافة لرمز التحرر النسوي الفيلسوفة الفرنسية Siomen De Beauvoir والمدافعة عن حقوق المرأة في بلدها، كانت حسب ما ذكر عنها في عدد من المقالات ترغب في أن تكون امرأة خاضعة للرجل ولشهواته وهذا يناقض بشكل كبير ما كانت تدعو إليه في العلن! كل هذه الأمثلة وغيرها كثير يظهر لنا أن الانسان متناقض بطبعه ولأن منا من يعيش تناقضاته علنا، يحب الآخر الذي لا يجرأ على فعل الأمر عينه الشخص الذي وفقا لقانون الانعكاس يثير بداخله رغبة مستفزة لأنه ببساطة يظهر أمامه ما كان ليرغب في فعله أو التعبير عنه...ببساطة شديدة، إننا لا نكره أحدا بقدر ما نحب فيه ما لا نملك أو ما نجد أنفسنا عاجزين عن القيام به. صدق الكاتب مصطفى محمود حين قال "الكراهية الشديدة أصلها حب كبير".