الطيب الروداني، عالم وقاضي من تارودانت، يعتبر أول من أدخل المطبعة الحجرية إلى المغرب عام 1864، وأصبحت في ملكية الدولة، فنقلت إلى مكناس، وسميت ب"المطبعة السعيدة" أو "المطبعة المحمدية"، وكان أول إصداراتها كتاب "الشمائل المحمدية". ثم أصبح مقرها في فاس، وظلت خاضعة لإشراف الدولة إلى حدود عام 1871، قبل أن تنتقل إلى الخواص باسم "المطبعة الفاسية" و"المطبعة العامرة". وتوفي الروداني، – الذي يعد من أشهر رجالات الأسرة التملية التي ارتكز بها القضاء أواخر القرن 13ه-، قبل أن يرى إنتاج مطبعته التي جلبها من مصر، وعليها طبعت أولى العناوين النادرة لأقدم المطبوعات في المغرب. وكانت نواة لغيرها من المطابع التي تدرب عمالها بمطبعة الروداني، حتى نهايتها في فترة الحماية الفرنسية. ويُقدَّر عدد العناوين الصادرة عن مجموع المطابع المغربية الحجرية، منذ بدايتها عام 1865 إلى 1944، ب 685 عنوانا، صدرت من طرف 471 مؤلفا. نشأة الروداني ولد الطيب بن محمد بن أحمد السوسي التملي الروداني (لا تشير المصادر إلى مكان ولادته)، في أسرة عريقة، تنتسب إلى قبيلة أملن، شرق مدينة تزنيت في اتجاه تافراوات، ولا يعرف تاريخ استقرارها في تارودانت. ورد اسمه في المصادر التاريخية باسم الطيب، وباسم محمد الطيب، الذي أورده محمد المنوني في كتابه "مظاهر يقظة المغرب الحديث"، وأوردت كثير من الأدلة أن اسمه الصحيح هو الطيب. قال عنه المختار السوسي بأنه كان "أدمث أهله خلقا وألينهم عريكة"، وسماه البشير بن محمد بوحدو السلاوي في "بكرة الافتضاض في بغية الانقضاض"، قاضي سوس الحاج الطيب بن محمد يمل (كتاب موجود ضمن مخطوطات الخزانة العامة). وقال عنه، أنه بذل مجهودا في حفر عين الماء العذب وأجراه في تارودانت، وعم النفع بها في المساجد والحمامات والمطاهر والسقايات. ورثاه الحاج أحمد بن عبد الرحمن الجشتيمي: إمام الهدى و العلم والحلم سيد الرضا الطيب المشهور كالروض بالزهر لم يذكر من ذريته، سوى ابنته خديجة وكانت زوجة القاضي محمد بن عبد الرحمن بن اليزيد، وبنت أخرى تدعى أمينة كانت زوجة لعلي بن مولاي الشريف الروداني. وتوفي الطيب الروداني عام 1865، حسب رواية الباحث فوزي عبد الرزاق في كتابه "مملكة الكتاب". تكوينه العلمي والمهني نشأ الطيب، في كنف أسرة عالمة في تارودانت، ارتكز القضاء في بيتهم قبل عام 1255، بتولي جده القضاء، وكان فقيها متمكنا وبارعا. تلقى تعليمه الأولي في تارودانت، ثم تابع دراسته في سوس، وانتقل إلى مدينة فاس لاستكمال تكوينه على عادة أبناء الأسر العلمية آنذاك، ودرس على يد شيخه أبي عيسى المهدي بن سودة. بعد عودته من فاس، توجه إلى تدريس العلوم العربية والإسلامية، كما كان ينوب عن والده في القضاء في وجدة، تم عاد إلى مسقط رأسه في تارودانت، وتولى بها القضاء بعد وفاة والده. صاحب المطبعة تفيد المصادر التاريخية، أن القاضي الطيب الروداني قصد الحج عام 1864، وفي طريق العودة مر بمصر، رأى الطباعة الحجرية فأعجبته، ولأنه كان متعودا على مطالعة الكتب الخطية وتدريسها، رأى في آلتها انتقالا طبيعيا من الكتب الخطية إلى المطبوعة دون تضحية بالخط المغربي ومميزاته. كما أنها تتطلب طابعا واحدا يمكنه القيام بجميع الأعمال من نسح وتصحيح وطبع وتوزيع، والمواد اللازمة للطباعة، يمكن تصنيعها محليا أو جلبها من بلد إسلامي كمصر مثلا. لذلك فضل الروداني اقتناء المطبعة الحجرية، وتعاقد مع فني مصري يدعى محمد القباني للعمل فيها، وألزم نفسه بتحمل نفقات إقامته في المغرب لمدة عام، مع أجرة شهرية بمقدار مائتي قرش مصري، كما نص العقد المبرم بينهما بتاريخ 17غشت من العام نفسه. ونقل المطبعة في شعبان 1281ه/ شتنبر 1864، من ميناء الإسكندرية إلى مرسى الصويرة، و أظهرت بنود العقد، أنه كان يرغب بالمطبعة لنفسه، ولا شك أنه من خلال تجربته التعليمية، كان يروم أن يساهم في حل توفير الكتب المدرسية والدينية في تارودانت. لم يتمكن الروداني من تحقيق مشروعه، بعد حادث مصادرة مطبعته في مدينة الصويرة، وأشير عليه بأن يهديها إلى السلطان محمد بن عبد الرحمن (محمد الرابع)، فنقلت إلى مكناس حيث كان يقيم آنذاك. مطبعة السلطان دخلت مطبعة الروداني تحت سلطة المخزن من 1865 إلى أواخر1871، وكان محلها بمنطقة الهديم في مكناس، باسم "المطبعة السعيدة" أو المطبعة المحمدية"، نسبة إلى السلطان محمد بن عبد الرحمن، وتعاون على نفقاتها الخزينة العامة والأحباس. في 25 يونيو 1865، كان كتاب "الشمائل المحمدية" لأبي عيسى الترمذي، باكورة مطبوعاتها، طبع 105 نسخة في مدة خمسة أشهر، واعتبر أول كتاب طبع في المغرب. بعد عام، نقل موقع المطبعة إلى دار للكراء في فاس بزنقة (كزا برقوقة)، لقربه من حي مخفية الذي يقطنه جل علماء فاس، وذلك بعد أن أشير على السلطان بأن "الأليق بالمطبعة هو فاس لكثرة علمائها وكتبها"، وتكلفت أحباس القرويين بالمصاريف، والخزينة العامة بنفقات وأجر الطابع المصري. وتم توظيف عشرين معاونا، تم اختيارهم من بين المتعلمين المنتمين لأسر الأعيان، وتم تدريبهم على فن الطباعة, وكان من أشهرهم محمد الطيب الأزرق. استمر عمل المطبعة في هذه المرحلة ست سنوات، تم خلالها طباعة ستة عناوين، أشرف الحسن الأول (ولي العهد آنداك) على تسويقها في دكان خاص أو في أماكن أخرى في مراكش، وإضافة إلى كتاب الشمائل، هي: – شرح المقدمة الآجرومية للأزهري، في 180 نسخة – مختصر الدر الثمين أو المورد المعين في شرح المرشد المعين لمحمد ميارة الفاسي، طبع في301 نسخة – حلي المعاصم لبنت فكر ابن عاصم لمحمد التاودي ابن سودة في 300 نسخة – شرح على مختصر خليل لمحمد بن عبد الله الخرشي المصري طبع في ستة أجزاء في 600 نسخة، وكان من أكثر الكتب الفقهية تداولا بالمغرب – قصيدة في المولد النبوي لمحمد بن أحمد الرفاعي المدني، وكانت آخر ما طبع خلال هذه المرحلة. وفاق مجموع نسخ هذه المطبوعات 1500 نسخة، وهي كلها كتب تعليمية دراسية مهمة في التعليم التقليدي المغربي. مطبعة الروداني في يد الخواص بعد توقف المطبعة عن العمل لمدة عام بسبب العبء المالي الذي كانت تشكله في تلك الفترة، قرر المخزن عام 1871، تفويتها إلى الخواص في شخص الطيب الأزرق الفاسي، والذي كان من أول العاملين بالمطبعة، ونال إجازة خولته الانتقال من صفة متعلم الى معلم بإمكانه إدارة المطابع. تحمل الأزرق إدارة المطبعة، مقابل تقديمه عشر المنتوج المطبعي للسلطة المخزنية، وأصبح اسم المطبعة منذ ذلك التاريخ، المطبعة الفاسية أو العامرة، وظهر ذلك الاسم في كتاب دلائل الخيرات للإمام الجزولي، أول كتاب نشر بتاريخ 19 أبريل 1872 . ونجح الأزرق في إدارة المطبعة بنجاح بعد أن وجد في تاجر فاسي -الحسين الدباغ- شريكا ماليا، واستطاع إصدار سبعة وعشرين عملا، منها : المعيار للمهدي الوزاني، نوازل العلمي، المنهج الفائق للونشريسي، وإتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين للمرتضى الزبيدي، والذي اعتبر من أطول المطبوعات في المطبعة الحجرية، حيث تم طبعه في 13 جزءا، وكان ذلك بأمر من السلطان المولى الحسن وبإشراف منه. ولأول مرة في تاريخ المغرب، أقدم الأزرق على طبع القرآن عام 1879، وحقق نجاحا كبيرا وقوبل بالرضى خاصة من العلماء التقليديين. كما تمكن أخوه -العربي الأزرق-، من نشر أزيد من مائة عنوان في الفترة 1876 و 1914. وبعد ذلك، ظهرت مطبعة ثانية للطيب الأزرق بدرب الحمام، وظهر طابعون آخرون أمثال العربي الأزرق، وأحمد بن عبد المولى اليملاحي، والمكي ابن ادريس، وعبد السلام الذويب، وأحمد ابن الطيب الأزرق، ومحمد بن قاسم البادسي، وأحمد القادري، وغيرهم. مآل المطبعة الرودانية بهدف تقنين وتنظيم الطباعة، أصدر مولاي عبد العزيز ظهيرا عام 1897 تضمن بالأساس، تفعيل الرقابة على المطبوعات الحجرية. وأعاد المولى عبد الحفيظ سيطرة المخزن على المطبعة الرودانية، التي كانت رمز صيانة الخط المغربي، وأنشأ دار للطباعة الطبوغرافية كان مقرها القصر السلطاني، وظهرت مطابع أخرى على يد الخواص، فساهمت هذه المرحلة في تقليل الاعتماد على المطابع الحجرية ومنها المطبعة الرودانية. وفي عام 1946، قامت السلطات الفرنسية في فترة الحماية، بتحطيم آخر آلة للطباعة الحجرية في المغرب، وبذلك طويت مرحلة مهمة في تاريخ الثقافة المغربية. وحسب ما سجله خالد بن الصغير في مقدمة ترجمة كتاب "مملكة الكتاب"، فإن أكبر مجموعة من محتويات المجموعة الكاملة للمطبوعات الحجرية المغربية التي نشرت ما بين 1865 إلى 1912، بالمطبعة الفاسية، موجودة اليوم بخزانة جامعة هارفارد الأمريكية. ____________________ ملاحظة : تم تحرير المقال بالاستعانة بعدة مراجع ومنها على الخصوص: – كتاب " الطباعة والنشر بالمغرب (1282-1956) ، تأليف لطيفة الكندوز، طبعة 2014 – مقال عن كتاب أحمد يزيد الكنساني في كتابه الأخير "الحياة العلمية و الأدبية و أعلامها بتارودانت خلال خمس قرون (10 ه – 14 ه ) (16 م – 20 م) الصادر ضمن منشورات منتدى الأدب لمبدعي الجنوب رقم 15 – مقال للدكتور مصطفى بن عمر المسلوتي، بعنوان "القاضي الطيب بن محمد التملي الروداني ودخول المطبعة إلى المغرب، نشره بمجلة " دراسات " عدد 16 صفحات 147 الى 174 – مقال للأستاذ محمد أحمد شابو ، جوانب من الاهتمامات الفكرية في حياة السلطان الحسن الأول، نشره بدورية كان التاريخية، السنة الرابعة عشر، العدد 52، عام 2021 – حوار مع الأستاذ خالد الصغير بن الصغير بمناسبة صدور ترجمة كتاب تاريخ الطباعة في المغرب، مجلة آفاق الثقافة والتراث، السنة الخامسة، العدد التاسع عشر، 1997. – البدايات الأولى للطباعة في المغرب، قراءة في كتاب "مملكة الكتاب: تاريخ الطباعة في المغرب"، تأليف: فوزي عبد الرزاق، تعريب، خالد بن الصغير – المطبوعات الحجرية في المغرب، فهرس مع مقدمة تاريخية، جمع وتقديم فوزي عبد الرزاق