تابعنا جميعا لحظات معانقة الأبطال لأمهاتهن على المدرجات في قطر، حين تحقيق الانتصارات. شعور لا يوصف يجتاحنا حين نري الفرحة ترتسم على وجه أم وهي تتابع نجاح ابنها ثم وهو يتحول إلى رمز. لا ينحصر الأمر في مجال من المجالات دون غيره. يتعلق الأمر بروح الأمهات وشعور الأمهات وفرح الأمهات المستحق. أعتذر للآباء، فأنا أبٌ كذلك، لكنني أغامرُ فأقول ألا فرحة تشبه فرحة الأمهات. فرحة يؤثثها الامتنان للحياة وذكريات المخاض ثم ذكريات فترة التربية الأولى ثم ذكريات مرحلة اليفاعة الصعبة ثم فترة الشباب الأول الواعد، ثم عتبة الرجولة المكتملة. وإذا كان لا أحد يستطيع أن يعوض دور الأب في حياة الأبناء، فبالمقابلِ لا يستطيعُ أحدٌ أن يعوضَ دور الأمهات في حياتهم كذلك، مع فارق دقيق. دور الأمهاتِ يتجسدُ بالضبط في دورهن المحدد في بناء الصرحِ الوجداني للأبناء، لأنهن الأقربُ، في أغلب لحظات الحياة، إلى ما هو شعوري وما هو ملموسٌ ومحسوسٌ على حدٍّ سواء في أرواحِ أبنائهن. هن من يدغدغُ وهنَّ من يلمسُ الأجسادَ الصغيرةَ ويعتنينَ بها وهنَّ الأقدرُ على استشفافِ طلباتهم من رضاعةٍ وأكل واستحمام ودثارٍ ونوم واستيقاظ ولعبٍ ولهو. وهن كاتماتُ أسرارهم والمدركاتُ لمواطنِ الضعفِ والقوةِ لديهمْ، والقادراتُ على تحويلِ أي وهنٍ لديهم إلى قوةٍ لا تقهر... هن يستشففن قبل غيرهن ميول أبنائهن وتفضيلاتهم، هن قبل غيرهن من يشعرن بحاجة الأبناء إلى الحماية النفسية والعاطفية وبحاجتهم إلى التشجيع الذي من شأنه أن يطوي المسافات ويحقق ما كان يبدو مستحيل المنال. لكل ذلك وغيره كثير، نقف جميعا على دورهن في هذا المونديال العجيب الذي يخاطب الوجدان عند المغاربة قبل غيره. إذ ليست لعبة الكرة هنا إلا المنبه إلى ما يحركهم أكانوا لاعبين أو مجرد متفرجين. ها نحن نلاحظ كيف أصبحنا نعرف أمهات اللاعبين كما نعرف هؤلاء بالأسماء والمسارات، ونتتبع لحظات عناق أبنائهن وتعبيرهم عن عرفان يتشكل كاعتراف جماعي بأفضالهن، كرسالة يتلقفها الجميع حتى خارج الوطن. إنها إحدى رسائل المونديال غير المنتظرة. هناك رسائل أخرى تنتظر قراءتنا لاحقا، وتتعلق بالنظرة التي يلقيها "الآخر" علينا أو نلقيها عليه من خلال هذا التباري الرياضي الذي يلامس بالضرورة زوايا من التاريخ البعيد أو القريب ومن الثقافة والديبلوماسية والتباري الجيوسياسي في العالم اليوم. وذلك موضوع آخر...