كأني تركت ينبوع دموعي بدون إغلاق. فما زالت دموعي تنهمر بلا سبب. تكفي غيمة في السماء، تكفي كلمة، تكفي صورة، تكفي زغرودة، تكفي نوتة موسيقية من نافذة، تكفي رسالة تهنئة، يكفي مطلع أغنية، تكفي أم تمر في الشارع الخلفي، تكفي يد تربت على يد، يكفي شعار في فيديو متداول، يكفي «ايسيميس» من صديق بعيد، لكي تنهمر الدموع، تسبق الفرحة بل تُعرِّفها وتعطيها المعنى الدقيق… تحتاج دموعي إلى فرح يوضحها. هذا الدمع دليل عطشي وعطش الملايين في العالم ....إلى المغرب.. . ماء الأرض الزلال! وبلا تفكير يذهب عقلي وقلبي إلى الأمهات، هن صانعات هذا الكل المشرق من وراء الدموع. كنت أومن بأن الجنة تحت أقدامهن، أقدام الأمهات. كنت أومن مثل ملايير المسلمين بأن لله يكرمنا حتى ترحل الأمهات.. والآن أرى أن ....كأس العالم بدوره عند أقدامهن. ويبدأ الطريق إليه من رؤوسهن. أرى الركراكي يوصينا بالأم أرى حكيمي يقبل رأس الأم أرى بوفال يراقص والدته بالحب ويغمرها بالعناق وأرى الآخرين يتوافدون على رؤوس الأمهات.. وأزداد يقينا أن السر المغربي هناك عند رأس الوالدة الملفع بقطعة ثوب بهية بسيطة غنية.. وأرى ما يجدي في البكاء. من حسن الحظ أنهن كن، وكن وكن. ورافقن المدرب واللاعبين إلى الميدان. ومن حسن الحظ أن «الكود» المغربي للحنان يمر عبر الأمهات. يا عالم إذا كان لله قد جعل الجنة تحت أقدامهن لماذا لا تضع كأسك عندهن وبالقرب من رؤوسهن! هن أخرجن الفلسطينيات في باب العامود بالقدس وفي غزة والنساء في أطراف العالم، بما مَحًضْنَهُ من رضى لأولادهن. عندنا في المغرب وحده نقول لمن نحبه ونثق فيه: مرضي الوالدين. ولطالما أحببت نقابيا مجيدا، لأنه يحدث كل من يصادفه بمرضي الوالدين، حتى صارت كنيته في الوسط. ولطالما كانت الأمومة قرصا لكل أنواع المرض واليأس والمحن وتقلبات الظهر.. حتى كانت سنة 2022 وتحول رضى الوالدين إلى تكتيك في الكرة وخطة في المونديال.. هن الأمهات أنفسهن اللواتي يجدن القرابة المنطقية والبدائية بين دعواتهن لأبنائهن في الميدان ودعواتهن لوطنهن في كل محنة. لكم رأينا أمهاتنا يتضرعن إلى العلي القدير بالدعوات المغربية المشفوعة بصوفية نادرة لكي يحمي البلاد ويحمي ملك البلاد .. وهن يتضرعن بين كل دعائين لله أن يحمي الموغريب، يتضرعن له أن يرفع العلم ويتضرعن له بأن يحفظ ملكه ومن أمَّرهُ على بلاده وعباده.. هن يجدن هذه الكيمياء العميقة في العلاقة بين الوطن وبين الضراعة. ويجدن هذه الوصفة الساحرة بين البلد وملك البلد وعلم البلد وصورة البلد ودموع البلد. كلنا سمعنا أمهاتنا في خلوتهن البسيطة والفقيرة إلى رحمة لله يهمسن بالدعاء، ليحفظ لله البلد، ويحفظ لله الملك ويحفظ لله نحن، وكنا بالرغم من الحب نأتي بعد البلاد وملكها منذ محمد الخامس طيب لله ثراه..هذه الكيمياء هي التي تجعل الفريق الوطني يقاتل من أجل أهله، كانوا في الحكم أو في البيت أو في الجوار بالحي والقرية… البكاء اليوم من الفرح هو الاعتراف بأنهن أخذن الجنة من تحت أقدامهن ووضعنها، استعاريا، في خطى أقدام فلذات أكبادهن لنفرح … ليست لدي الآن نظرية في التخطيط الكروي ولا فلسفة رياضية، لدي الآن أحاسيس مبللة بدموعي¡ وأنا مدين بها إلى الأمهات..والأمومة هي البراءة المغربية التي نقتسمها في أي مكان من المغرب: انت الاولى اميمتي، يقولها المغربي لكل امرأة يرى فيها أمه، زيدي أميمتي طلعي أميمتي، دعي معايا اميمتي، في كل أم يرى المغربي أمه..شيء ينفرد به القلب الأسري المغربي، تماما كما ننفرد بالنية، ومول النية يغلب، تماما كما ننفرد بالمعقول، ولا نجد له أي مقابل في أية لغة من لغات العالم.. الأمهات هن الجواب عن كل أسئلة الذين يرددون بغير قليل من الاستنكار: أين نجد المدرب الكفء واللاعبين الأكفاء؟ الجواب هو: من رحمهن يخرج الجواب، تخرج الأجوبة، وهن الدليل إلى المشيمة، حبل الصرة الذي يربط المغاربة أينما كانوا ببلادهم. هن الدليل أيضا أن الجواب في أن يكون الفريق كله لوطنه الأم.. بلا زبونية ولا محسوبية ولا تأهيل انتهازي.. هن الجواب لأنهن لا ينخدعن بالأسئلة المضللة!