تكون العدالة بطيئة حينما يفوق حجم القضايا المعروضة على المحاكم قدرة هذه الأخيرة على البت فيها داخل أجل معقول بحيث ينتج تراكم للقضايا ومخلف يثقل كاهل العدالة ويعوق سيرها وجودة أدائها. فليس هناك ظلم أشد من عدالة بطيئة، كما عبر عن ذلك الفيلسوف الروماني سينيكا منذ 2000 سنة وهي مقولة تنطبق في الوقت الحاضر على العديد من الأنظمة القضائية التي أصبحت تلهت وراء تحقيق الكم المحكوم عوض أداء رسالتها السامية المتمثلة في حل نزاعات بشرية بطريقة منصفة ومبسطة وفي زمان معقول. فما هي أسباب هذا الداء وماهي سبل مواجهته؟ أسباب بطء العدالة جد معقدة ومتعددة الأبعاد، إلا أنها لا تخرج عن التركيز المبالغ فيه في الشكليات المسطرية التي تقدس القاعدة القانونية وتنزع الصفة الإنسانية عن العاملين في مجال العدالة من جهة ومن جهة أخرى على مخلف القضايا التي لم يتم البت فيها والمؤدية إلى اكتظاظ الملفات. فبالنسبة للجانب الأول فإن الأمر يقتضي ضرورة القطع مع العمل القضائي كمتاهة تضيع فيه العدالة وسط الأوراق أو كشعيرة مقتصرة على نخبة القانونيين بل هي رسالة فضلا عن اعتمادها على تنزيل قواعد قانونية جديدة ووسائل تكنولوجية معقدة وبنية تحتية لائقة فإنها تتطلب أساسا تغييرا نموذجيا في عقليات العاملين في مجال العدالة الذين تقع على عاتقهم مسؤولية القطع النهائي مع البيروقراطية والطقوس العقيمة والاقتناع بأنهم صانعي سلام يخدمون قضايا إنسانية عوض التعامل مع ملفات. وبالنسبة للجانب الثاني المتعلق بالتراكم والمخلف فإنه ناتج على ثقافة التقاضي والانتقام السائدة في المجتمع والتي تستغل كل مناسبة لإنتاج ملفات أمام المحاكم مما يتعين التعامل مع المخلف على كونه أيضا إنسان من لحم ودم متعطش للإنصاف. وبالتالي فلا مناص من إشاعة ثقافة التسامح والقطع مع ثقافة التقاضي والانتقام. وإذا كانت ظاهرة بطء العدالة تقرأ كنتيجة ثقة الناس في القضاء فإن مواجهتها ضرورية لتحسين جودتها عن طريق تبسيط المساطر التي تجعلها أقل كلفة وتفادي الشكليات المبالغ فيها وهي أعطاب دفعت بأغلب الأنظمة المتطورة قضائيا إلى اعتماد أساليب برغماتية تخلت فيها عن مذاهبها القضائية المعتمدة , لنجد أن الأنظمة الأنجلوسكسونية تأخذ عن الأنظمة اللاتينية لحل مشاكلها والعكس صحيح بل إن الانظمة القضائية المتطورة أصبحت تشكل خليطا من المذاهب .فنجد على سبيل المثال أن النظام القضائي الأمريكي وتحت ضغط التراكمات التي عرفها نظامه بداية الستينيات تخلى عن اسلوبه الاتهامي الذي يعتمد حياد القاضي لاعتماد الاسلوب التحقيقي حتى يتأتى للقاضي التدخل لتنشيط المساطر والدفع بالأطراف نحو الحلول البديلة المبنية على التفاوض , كما أن الدول الأوربية بدورها تخلت عن بعض خصائص أنظمتها لتأخد عن المذهب الانجلوسكسوني لإيجاد حلول لمشاكلها كالوساطة مثلا. إن أغلب الاقتراحات التي همت مواجهة التراكمات تصب في اتجاه تشجيع اللجوء إلى الوسائل البديلة لحل المنازعات بتفعيل دور الوساطة كبديل لفظ المنازعات وجعلها الزامية في بعض القضايا وهو منحى محمود من شأنه المساهمة بقدر وفير في مواجهة بطء العدالة وذلك بعدم الاقتصار على الوساطة الاتفاقية المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية المغربي بل يتعين تبني الوساطة القضائية. فقد اثبتت احصائيات قام بها البنك الدولي بأن الوساطة القضائية ساهمت في حل 80% من القضايا وتوفير 75% من نفقات النظام القضائي، ذلك أن نزاعا أمام محاكم الدرجة الاولى بالمحاكم الأوربية بدون طعون واستئناف يدوم 548 يوم وبتكلفة 10499 أورو، فيما إذا تم اللجوء الى الوساطة فإن القضية تستغرق 88 يوم فقط وبتكلفة تقدر ب 2497 يورو. إن الوساطة هي طريقة مثلى لاختزال الوقت والمال، ولا شك أن دور المحامي جد كبير في توجيه زبونه إلى الوساطة وتوجيهه أثناء إجراء مفاوضات مع خصمه وتتبع اطوار الوساطة مع زبونه، ولعل أهمية هذه الوسيلة تكمن في حياد الوسيط والسرية التي تطبع المسطرة. ففي النظام الامريكي يلعب المحامون دورا مهما في سير الدعوى بإجراء الابحاث واستعراض الشهود والحصول على معلومات منتجة والتقصي حول الشهود ووسائل الاثبات الموجودة بحوزة الاطراف. ونتيجة لذلك يتم البث في أغلب الدعاوى المدنية قبل وصولها إلى جلسة الحكم التي لا يصلها من القضايا إلا في حدود 5 الى 10% وبالتالي يكون دور المحامي حاسم فيها أكثر من القاضي، وفي المرحلة الاستئنافية يتم الاقتصار على ما تم تسجيله أثناء المرحلة الابتدائية من محاضر للحسم في القضية في زمن يسير. وأمام التراكمات التي بدأت تعرفها محاكم الاستئناف التجأت هذه الأخيرة إلى: خلق مجموعات عمل قانونية تابعة للمحكمة تعمل مباشرة مع القاضي تكون مهمتها إجراء فرز أولى للاستئنافات وإعداد تقرير عن كل ملف على حدة واقتراح قرار يساعد القاضي على تصفية الملفات (وهي تجربة اعتمدها المجلس الأعلى – محكمة النقض – في إطار تنظيم العمل داخليا في ثمانينيات القرن الماضي وساهمت في تصفية العديد من القضايا رغم الإمكانيات البسيطة آنذاك). اعتماد المساطر السريعة، أي سلوك مساطر مختزلة بالنسبة للاستئنافات التي تعتبر بسيطة ويمكن فيها تجاوز بعض المراحل المسطرية التي لا يترتب عنها الحاق ضرر بالأطراف في حالة عدم احترامها. والجدير بالذكر أن النظام الامريكي احتفظ بخصوصيته المتمثلة في منح الحق للأطراف في المحاكمة من قبل هيئة المحلفين. كما أن دراسة قامت بها مجموعة عمل بطلب من الوزيرة الفرنسية السابقة كريستيان توبيرا في أفق خلق تصور للتقاضي للقرن 21 انتهت إلى خلاصة مفادها أن المتقاضي يدخل الى النزاع دون معرفة افق دعواه وبالتالي فإن تأطيره وجعله ملما بما تنتظره من مساطر يجعله أكثر قابلية للالتجاء إلى الحلول البديلة , واقترحت المجموعة في هذا الصدد إيجاد آليات مسطريه تسمح بالانتقال أثناء الدعوى من المسطرة الكتابية إلى المسطرة الشفوية لتسهيل الوساطة واجراء مفاوضات قصد الوصول إلى حلول متفاوض بشأنها ، وهي وسيلة تهدف إلى استقطاب قضايا أخرى لم يتم فيها الالتجاء الى الوساطة منذ البدء، وقد رأت هذه المجموعة أن أفضل سبيل لجعل المتقاضي محيطا بالمساطر هو خلق نظام المراجع أو الملف النموذجي و الذي يمكن الجميع من معرفة المدى الزمني للبث في كافة مراحل التقاضي و ضبط التعثرات التي يمكن أن تلحق الملف هل هي راجعة للهيئة الحاكمة أم لخلل في التبليغ يعزى للعون القضائي أم لعدم انجاز الخبرة في إبانها يعزى للمتقاضي الذي لم يودع صائر الخبرة أو الخبير وهكذا… و تجدر الإشارة إلى أن محكمة النقض يمكنها أن تلعب دورا مركزيا في مواجهة الظاهرة و ذلك بتطوير عملها الذي يجب أن يتعدى البت في النزاعات إلى الإفتاء قبل رفع المنازعات إلى القضاء بحيث يمكنها أن تضع يدها على نقط قانونية خلافية لتقول كلمتها في حلها القانوني و هو المنحى الذي سلكه القانون الفرنسي رقم 491-91 بتاريخ 15/05/1991 حينما اعترف لمحكمة النقض الفرنسية بحق ابداء الرأي والمشورة La saisine pour avis . ذلك ان محاكم الموضوع وقبل البث في بعض الطلبات المتعلقة بتطبيق بعض النصوص القانونية الجديدة التي تكتنفها بعض الصعوبات في نزاعات متعددة معروضة عليها ، يمكن لها أن تطلب من محكمة النقض بمقتضى قرار غير قابل للطعن الرأي والمشورة ، ويتم البت في الطلب داخل اجل ثلاثة أشهر . ولقد ساهم هذا النص بشكل كبير في اختزال الجهد والوقت لمحكمة النقض الفرنسية ولمحاكم الموضوع على السواء. وما أحوج تشريعنا لمثل هذه التجربة خاصة في بعض القضايا المتشابهة التي تطرح على محكمة النقض بكثرة أو بالنسبة لبعض القضايا الخلافية أمام محاكم الموضوع كما هو الشأن بالنسبة للتضارب الذي عرفه تطبيق قانون 49.16 بشأن التوفيق بين المادتين 8 و26 من القانون المذكور، ذلك أن المادة 8 تعفي المكري من أداء التعويض في حالة عدم أداء الوجيبة الكرائية المستحقة داخل أجل 15 يوم فيما تنص المادة 26 على كل أن كل من يرغب في إفراغ محل مكترى عليه أن يوجه للمكتري إنذارا بالإفراغ يمنحه فيه أجل 3 أشهر و يبين فيه السبب المعتمد. فنجم عن تطبيق المادتين المذكورتين انقسام بين المحاكم التجارية بل حتى بين غرفتين داخل محكمة واحدة بشأن اعتماد إنذار أو إنذارين، و قد حسمت محكمة النقض أخيرا في الاكتفاء بإنذار واحد عوض إنذارين بمقتضى قرارها عدد 649/2 الصادر في 2021.12.02 في الملف عدد 2091/3/2/2019. و قد كان بالإمكان تفادي الانقسام الذي حصل في التطبيق المذكور لو كان هناك نص يسمح باستباق التردد على غرار النص الفرنسي المذكور. كما أن التصدي للدعوى من قبل محكمة النقض – خلاف الأصل الذي يقتضي منها إما قبول النقض مع الاحالة أو رفض الطلب – يهدف الى تفادي بعض الإحالات عندما يكون في متناول محكمة النقض انهاء النزاع بصفة نهائية لتفادي ما اصطلح عليه لدى كبار القضاة بالنقض التعبدي . وقد نص على ذلك الفصل 368 من قانون المسطرة المدنية لسنة 1974 : « إذا نقض المجلس الأعلى الحكم المعروض عليه واعتبر انه يتوفر على جميع العناصر الواقعية التي ثبتت لقضاة الموضوع بحكم سلطتهم تعين عليه اعتبارا لهذه العناصر وحدها التي تبقى قائما في الدعوى التصدي للقضية والبت فورا في موضوع النزاع ، أوفي النقط التي التي استوجبت النقض ». و أعتقد أن الضرورة و الحكمة تستدعيان إعادة تنزيل النص المذكور استعادة النص المذكور الذي لم يكن أي مبرر يدعو إلى إلغائه. و تجدر الإشارة إلى أن محكمة النقض لا يمكنها أداء دور القاطرة للقضاء على بطء العدالة إلا بمراجعة شروط الطعون أمامها , ولعل ما أفرزته تجربة تعديل الفصل 353 من قانون المسطرة المدنية والتي استثنت من اختصاص محكمة النقض الطلبات التي تقل قيمتها عن 20.000 درهم والطلبات المتعلقة باستيفاء واجبات الكراء والتحملات الناتجة عن مراجعة السومة الكرائية ، دليل على مدى نجاعة هذه الوسيلة التي خلصت محكمة النقض من عدة قضايا تثقل كاهل قضاة أعلى هيئة وطنية يفترض فيهم التفرغ لا بداع اجتهادات من شانها سد الثغرات الموجودة في النصوص عوض الانغماس في قضايا يتعين الحسم فيها امام محاكم الموضوع و تغليب هاجس الكم على الكيف فلا يعقل تقييم قاضي بأعلى هيئة قضائية وطنية استنادا الى عدد الملفات التي أنتجها وبالتالي فان الضرورة تقتضي البحث في إيجاد الآليات القانونية لتقليص عدد القضايا المعروضة على محكمة النقض اسوة بالدول الرائدة , واعتقد جازما ان هناك من القضايا ما يتعين استثناؤها اسوة بما اشير إليه في الفصل المذكور. هذه بعض المقترحات لمواجهة بطء عدالتنا ولتحقيق عدالة ناجزة، ونهيب في هذا الصدد بكافة الجهات المختصة أن تأخد بعين الاعتبار أهمية تنزيل قانون المسطرة المدنية، قانون المسطرة الجنائية، القانون الجنائي وغيرها من القوانين المنتظرة سيما وقد مر تنزيل الدستور ما يزيد عن عقد من الزمن وهي وضعية غير مقبولة بالمرة ولا ترقى إلى الطموحات الرامية إلى رفع المعاناة والظلم عن المتقاضين من بطء الإجراءات وهو ما يتطلع إليه رجال القضاء أيضا. * حسن مزوزي .. باحث ومحامي بهيئة المحامين بالقنيطرة