افتتح مصطفى فارس الرئيس الأول لمحكمة النقض للمملكة المغربية صباح اليوم الثلاثاء 22 يناير الجاري السنة القضائية الجديدة، في احتفالية خاصة بمقر المحكمة بالرباط بحضور وزير العدل والحريات مصطفى الرميد وشخصيات وزارية سابقة ونساء ورجال القضاء بالمغرب. وقال فارس الذي ينوب عن عاهل البلاد الملك محمد السادس في افتتاحية هذا التقليد القضائي السنوي، “أن العالم يواجه تحديات حقوقية كبرى ذات أبعاد سياسية وقانونية واقتصادية واجتماعية وثقافية، تسائل الجميع وعلى رأسهم المؤسسة القضائية وتستدعي حلولا واقعية ومقاربات واضحة وفعالة وحكامة قضائية جيدة ورؤية خلاقة بعيدا عن التردد والانتظارية”. وذكر في ذات الجلسة أن “محكمة النقض بالنظر لموقعها القانوني ومكانتها الاعتبارية على رأس الهرم القضائي المغربي بادرت إلى تنزيل عددا من المضامين الحقوقية وتفعيل الالتزامات الدستورية الكبرى نصا وروحا، مبنىً ومعنى وذلك بالسهر على مراقبة قضاء محاكم الموضوع وتوحيد عملها واجتهادها بالشكل الذي يجعله يستهدف حماية الحقوق والحريات وتعزيز المساواة وإقرار المناصفة وتخليق الحياة العامة عن طريق ربط المسؤولية بالمحاسبة والتطبيق العادل للقانون وتوفير شروط المحاكمة العادلة داخل أجل معقول والسهر على التزام الجميع أفراداً ومؤسسات باحترام الأحكام القضائية وتنفيذها إذ لا خير في حكم لا نفاذ له كما جاء في رسالة القضاء الخالدة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه”. واستعرض الرئيس الاول لمحكمة النقض الخطوط الكبرى لحصيلة عمل المحكمة طيلة السنة القضائية 2012 وانشغلاتها للفترة القادمة. من جهته قال مصطفى مداح الوكيل العام للملك بمحكمة النقض أن عدد القضايا المسجلة العام الماضي 2012 عرفت ارتفاعا مقارنة مع الثلاث سنوات الماضية إذ بلغت 31595 قضية مقابل 26531 عام 2012 اي بزيادة 19%. وأضاف مداح في الجلسة الافتتاحية أن إحصائيات عام 2012 أظهرت أن عدد القضايا المحكومة بلغ 29442 قضية ، والمخلف 18314 قضية، اي بأن معدل المحكوم سجل نسة 93% من القضايا المسجلة. وقال أن محكمة النقض عازمة على ألا تعمر الملفات مستقبلا أكثر من ستة أشهر، إذ لم يبقى من مجموع المخلف بالأساس عن سنتي 2010 و 2012 حيث لم يتبقى عن سنة 2011 سوى نسبة 11% من مجموع الرائج، والتي سيتم تصفيتها في الشهور الأولى من العام الجاري 2013. واستدرك الوكيل العام للملك أن هناك قضايا يتم البث فيها في شهر أو شهرين لكن الوقت الأقصى هو سنة بمعدل 52% . المحاور الأساسية لكلمة مصطفى فارس تعيد نشرها أون مغاربية بتصرف لكل غاية مفيدة: 1. تطوير آليات الإدارة القضائية. 2. الانفتاح على المحيط العام. 3. ضمان الانسجام القضائي وتأمين الجودة. 4. إعداد رؤية وخطة استراتيجية للسنوات الخمس المقبلة. 1 - تطوير آليات الإدارة القضائية لقد وضعنا هذه السنة تحديا أساسيا، وهو تركيز عمل الإدارة القضائية لتحقيق مجموعة من الأهداف المسطرية ذات الأولوية، وقد وصلنا بعون الله وتوفيقه إلى إنجازها أذكر منها: - حوسبة المساطر القضائية وتسيير الملفات منذ تسجليها بمكتب الضبط إلى غاية صدور القرار، وإحالته على المحكمة المصدرة للقرار مرورا بتعيين الغرفة المختصة والمستشار المقرر وبتبليغ كافة الإجراءات. - حوسبة مكتب الضبط سواء بالرئاسة الأولى أو بالنيابة العامة. - حوسبة شعب الشكايات والمساطر القضائية الخاصة بالنيابة العامة. - حوسبة مداخيل ومصاريف صندوق محكمة النقض. العمل من خلال قسم الشؤون القضائية على خلق فضاء هام للإنصات والإرشاد ومقياسا لجودة الخدمات القضائية والإدارية حيث تلقى هذه السنة عددا من الشكايات أحيلت عليه من جهات ومؤسسات مختلفة إضافة إلى المتقاضين والمحامين الذين تم استقبالهم إما بصفة مباشرة أو عبر البريد العادي أو البريد الالكتروني. وقد وصل عددها هذه السنة حوالي ( 2149 ) شكاية، اتخذ بشأنها الإجراء المناسب إضافة إلى حوالي ( 10000) متوافد على مكتب الاستقبال. وفي هذا السياق لا بد من التذكير بأننا منكبون حاليا على إعداد " ميثاق المتقاضي" الذي نعتبره تعاقدا يحدد حقوقه والتزاماته في علاقته بالمؤسسة مما سيضفي المزيد من الشفافية ويدعم منهج التخليق ويجسد تفعيلا واضحا للمقاربة الحقوقية التي جاء بها الدستور الجديد. هذا دون إغفال الهيكلة الجديدة لقسم التعاون الدولي، الذي وزع إلى أربعة مصالح، وكذا قسم التوثيق والدراسات والبحث العلمي الذي كلف بالعديد من المهام الجديدة، وتمت إعادة هيكلته أيضا ليواكب المستجدات والتطلعات المستقبلية. كما تم خلق قسم جديد هو قسم التنسيق والعلاقات العامة، الذي يعمل على تحقيق التعاون مع جميع مكونات المجتمع المدني والمؤسسات العمومية. 2 - الانفتاح على المحيط العام لقد أكدت محكمة النقض طيلة هذه السنة على خيار التواصل والانفتاح كمنهج لإعادة الثقة والمساهمة في الحراك القانوني والقضائي والحقوقي بكل فعالية وجدية سواء دوليا أو وطنيا، إيمانا منا بأن العدالة ليس شأنا خاصا بالقضاة وحدهم وأن المقاربة التشاركية عماد لأي استراتيجية أو خطة عمل وفي هذا السياق سأقف بإيجاز على مستويين اثنين أساسيين: v أولهما المستوى الدولي: وسأركز فيه على ثلاثة محطات بارزة أولها اللقاء القضائي المغربي الإسباني السادس الذي احتضنته العاصمة مدريد نهاية شهر يناير من السنة الماضية إذ شكل فرصة مواتية أكدنا من خلالها أهمية الدبلوماسية القضائية ودورها في التعريف بالمنجزات الإصلاحية الكبرى التي عرفتها بلادنا في مجالات مختلفة حيث لقيت هذه المشاركة إشادة رسمية وإعلامية واسعة لدى جيراننا الإسبان، هذا بالإضافة طبعا إلى ما أسفر عنه هذا اللقاء من توصيات هامة وآليات عملية لتدعيم عملنا المشترك في مجال التعاون القضائي وبخصوص قضايا ذات أهمية كبرى خاصة بالنسبة لأفراد جاليتنا بالمهجر كالقضايا الأسرية مثلا. أما ثاني هذه المحطات فهي الزيارة التي قمنا بها للمحكمة العليا الشرعية لدولة باكستان شهر أبريل المنصرم في إطار الإعداد لاتفاقية تعاون بيننا بعدما سبق لنا دعوته في سابقة هي من نوعها كضيف شرف بالمؤتمر الثاني للمحاكم العليا العربية بالدار البيضاء سنة 2011 وقد عرفت هذه الزيارة بدورها اهتماما كبيرا وعناية فائقة من أعلى المستويات وتغطية إعلامية كبرى، وقد عملنا من خلالها أيضا على التعريف بالوضع المتقدم لبلادنا وأهم التطورات التي عرفتها الساحة القضائية والقانونية كما قمنا بتحديد المجالات التي يمكننا الاستفادة فيها من تجربة دولة إسلامية آسيوية كبرى رائدة ومتقدمة كدولة الباكستان الشقيقة. أما المحطة الثالثة فهي المشاركة الفاعلة لوفد محكمة النقض في أشغال المؤتمر الثالث لرؤساء المحاكم العليا العربية بالعاصمة السودانية الخرطوم أواخر شهر شتنبر الماضي والتي أكدنا من خلالها على البعد العربي والإفريقي كخيار استراتيجي للمملكة والتزام دستوري واجب التفعيل والتنزيل، وقد تم تتويج هذه الزيارة بالتوقيع على اتفاقية توأمة وتعاون مع المحكمة العليا والسلطة القضائية السودانية تعتبر هي الثانية من نوعها على الصعيد العربي بعد اتفاقية التعاون مع محكمة النقض المصرية. أما على المستوى الوطني: فهنا أيضا أكتفي بالوقوف على أربعة محطات بارزة: أولها: الندوة الوطنية الكبرى بشراكة مع الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية يومي 27 و28 أبريل 2012 بمراكش تحت شعار " التحفيظ العقاري في خدمة التنمية: قراءة في مستجدات القانون رقم 1407 " وقد كانت فرصة لتحسيس المهنيين بهذه المستجدات القانونية والإشكاليات والصعوبات التي ستطرحها الممارسة كما تميزت بتوصيات هامة أسفر عنها نقاش بين عدد وازن من الفاعلين في الشأن القضائي والمحافظة العقارية، يمكن للمشرع أخذها بعين الاعتبار والاستفادة منها لتحقيق الأمن العقاري المنشود. أما ثانيها: فقد كانت حدثا غير مسبوق على الساحة القضائية والإعلامية وتمثل في مبادرة هذه المحكمة إلى توفير تكوين قانوني لفائدة ممثلي مجموعة من وسائل الإعلام على اختلاف مشاربها ودعامتها ( سمعية/ بصرية/ ورقية والكترونية، عمومية وخاصة) من خلال لقاء تواصلي يومي 28 و29 يونيو بمراكش تحت شعار "القضاء والإعلام شريكان في خدمة المواطن " وعيا منا أن التكوين يشكل فرصة لتقريب وجهات النظر بخصوص القضايا ذات الحساسية الكبرى، ومدخلا أساسيا لتفعيل الحق في المعلومة المنصوص عليه دستوريا. وقد برمجنا هذه السنة إنشاء الله الدورتين التكوينيتين الثانية والثالثة كما قمنا بتعيين قاض مكلف بالتواصل والإعلام ونناقش حاليا مشروع مذكرة تعاون مع الرابطة المغربية للصحافة الالكترونية بالمغرب في مجال التكوين القانوني التي سبق وأن ساهمنا في أشغال مؤتمرها الأول شتنبر الماضي إضافة إلى مشاركتنا في العديد من البرامج الإذاعية والتلفزية بخصوص مواضيع ذات راهنية وأهمية بالنسبة للمواطن. أما المحطة الثالثة فهي الندوة الوطنية الكبرى التي عقدناها بشراكة مع الغرفة الوطنية للتوثيق العصري يومي 2 و3 نونبر تحت شعار: " آفاق مهنة التوثيق على ضوء قانون 09-32 والعمل القضائي " والتي عرفت بدورها مشاركة متميزة لنخبة من قضاة وموثقي المملكة مستهدفة التحسيس بمقتضيات القانون الجديد الذي دخل حيز التنفيذ وتقريب وجهات نظر المهنيين وتقديم اقتراحات للمشرع قصد أخذها بعين الاعتبار وهو بصدد إعداد النصوص التنظيمية هدفنا من كل هذا خلق فضاءات للحوار وتكريس الأمن التعاقدي الذي هو جزء من الأمن القضائي والاهتمام بالأوضاع المهنية لعضو هام في أسرة العدالة ألا وهو الموثقون العصريون. أما المحطة الرابعة: فهي اللقاء التواصلي الهام الذي عقدته محكمة النقض يوم 17 دجنبر مع السادة أعضاء الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة قصد عرض تجربتها في مجال تحديث الإدارة القضائية، وقد شكل استجابة تلقائية للمضامين السامية للخطاب الملكي ليوم 08 ماي 2012 بمناسبة تنصيب أعضاء هذه الهيئة الموقرة حيث اعتبر جلالته الانخراط في هذا الورش الإصلاحي مسؤولية وطنية. 3 –ضمان الانسجام القضائي وتأمين الجودة فقد عملنا على تحقيقهما من خلال مجموعة من الآليات والميكانيزمات أوجز بعضها كالآتي: أولا: آلية الاجتماعات الدورية المنتظمة مع كل غرفة من غرف المحكمة على حدة وهي تشكل تجسيدا واضحا للمقاربة التشاركية في التدبير المؤسساتي وإطاراً مناسبا لمناقشة كافة الإشكالات المرتبطة بالعمل القضائي، حيث تمكننا من خلال المناقشات الموضوعية والشفافة رصد الاختلالات وتداركها بشكل مبكر. وقد بلغ عددها هذه السنة 84 اجتماعا. ثانيا: يقوم كل قسم من أقسام غرفة محكمة النقض بإنجاز تقارير دورية وفق منهج واضح ومحاور محددة متفق عليها مسبقا، مما يمكننا من الوقوف على حجم النشاط والجهد المبذول والملاحظات المثارة والثغرات المرصودة والتطبيقات القضائية غير الملائمة والقرارات والأحكام الهامة. وقد تجاوب كل الأقسام مع هذه الآلية الاقتراحية التشاركية الهامة حيث وصل عدد هذه التقارير سنة 2012 108 تقريرا. ثالثا: لقد حرصنا هذه السنة على التدبير المعقلن والتفعيل الإيجابي لآلية قانونية هامة وهي تقنية البت بغرفتين أو بغرف محكمة النقض مجتمعة مما يوفر ضمانات أكثر لتوحيد الاجتهاد وضمان الأمن القضائي. وقد بلغ مجموع الملفات التي خضعت لهذه الآلية سنة 2012 69 ملفا. رابعا: سهرنا على أن تستمر وثيرة إصدار نشرات القرارات المتخصصة التي تهم كل غرفة على حدى مما شكل بدوره قيمة مضافة في مجال توحيد العمل القضائي وضمان انسجامه ليس فقط بالنسبة لغرف محكمة النقض وإنما أيضا لكافة محاكم الموضوع في اختصاصاتها المختلفة. وهنا لابد من الإشارة إلى أن هذه الآليات تفرز وثائق مرجعية هامة يمكن للمشرع أن يرجع إليها لمعرفة الثغرات التي أفرزتها التطبيقات العملية للنصوص القانونية قصد تلافيها أو تداركها. وفي هذا السياق فقد قدمنا في تقريرنا السنوي على غرار السنوات الماضية مجموعة من الاقتراحات لتعديل مجموعة من الفصول القانونية لتكون أكثر ملائمة لواقعها وأكثر ضمانا لحقوق وحريات الأفراد والجماعات، كما أحدثنا خلية للتشريع مهمتها دراسة مجمل القوانين الفرعية ذات الصلة بمساطر واختصاصات محكمة النقض إيمانا منا بأن فصل السلط يقتضي تعاونها وتوازنها كما جاء في الفصل الأول من الوثيقة الدستورية. وهنا لابد أن أجدد دعوتي للمشرع بضرورة إرجاع نظام التصدي وإيقاف التنفيذ لمحكمة النقض وهي دعوة سبق أن ركزنا عليها خلال افتتاح السنة االقضائية 2011 لما ستحققه من نتائج هامة على مستوى الأمن القضائي والنجاعة القضائية. خامسا: فقد عملنا على دعم أنشطة مرصد الاجتهاد القضائي الذي شرع في عمله سنة 2011 باعتباره وسيلة هامة لرصد تطور الاجتهاد القضائي وآلية لليقظة القانونية وللتنسيق بين الغرف والأقسام ودعم التواصل بينها. كل هذه الآليات نعمل الآن في إطار الرؤية الجديدة لمحكمة النقض وإستراتيجيتها المستقبلية تطويرها ودعمها من خلال إنشاء وتأسيس مكتب فني على غرار المحاكم العليا العريقة، حيث شرعنا في إنجاز أرضيته وتطويرها من خلال فهرسة معلوماتية لأنواع المنازعات تستغل قبليا في ميدان توجيه الملفات إلى الغرف بدءاً من مكتب الضبط وبعديا في ميدان النشر وكذا إعداد نماذج معلوماتية للقرارات وهو ما سيخولنا إنشاء الله ضمانات أكثر لتحقيق الانسجام والأمن القضائي الذي يقع على عاتقنا تحقيقه. سادسا: فإن إصرارنا على تقديم أجود الخدمات للمتعاملين مع المؤسسة فرض علينا مواصلة العمل في مجال تأهيل العنصر البشري من خلال دعم عمل مصلحة التكوين لتوفر مسارات متنوعة للتكوين الأساسي والمستمر لفائدة قضاة وموظفي المحكمة وتطوير كفاءاتهم ومؤهلاتهم في مجالات مختلفة حيث تتوفر على فضاء متميز ومجهز ومؤهل للقيام بهذه المهمة، وقد وصل عدد المستفيدين هذه السنة من التكوين في اللغات والمعلوميات حوالي (100) فرد. كل هذه التدابير والآليات والمناهج وخطط العمل والأهداف التي ذكرت لكم بإيجاز بعض تفاصيلها، والتي لا يمكن أن تترجم كافة الجهود المبذولة من طرف قضاة وموظفي وأعوان محكمة النقض، فإنها أثمرت هذه السنة بتوفيق من الله وعونه نتائج متميزة سواء على المستوى الإحصائي الرقمي أو المستوى النوعي. فعلى المستوى الإحصائي: فقد أفرزت الأرقام والجداول البيانية نتائج أثلجت صدورنا سواء على مستوى القضاء على المتخلف أو على مستوى أمد البت في الملفات حيث شكلت تجسيدا ملموسا لوفائنا بالتزامنا الدستوري بإصدار أحكام داخل آجال معقولة وهو ما يعزز ثقتنا في المستقبل ويجعلنا بكل موضوعية في مصاف المحاكم العليا الرائدة عالميا. أما على المستوى النوعي: فإن رصد مجموعة من القرارات والتوجهات المبدئية التي كرستها غرف وأقسام هذه المؤسسة العتيدة هذه السنة سيتضح من خلالها بالملموس المقاربة الإصلاحية والنفحة الحقوقية والروح الدستورية التي تستهدف صون الحقوق والحريات وتكريس الثقة في المؤسسة القضائية وضمان الأمن القضائي. وفي إطار تحديد المسؤوليات وربطها بالمحاسبة أكدت محكمة النقض اتجاهها القاضي بأن عقل الأموال المنقولة المملوكة لعموم المرتفقين وفرض مبلغ مالي على أصحابها لقاء رفع أو فك هذا العقل أو الحجز هو عمل يدخل في إطار ضبط الأمن العام وهو من ضمن الصلاحيات المملوكة إلى الشخص العام والتي لا يجوز لهذا الأخير تفويضها أو الاتفاق على تدبير شؤونها من طرف أشخاص القانون الخاص. وفي مجال حماية الحقوق المالية للأفراد في مواجهة الإدارة الضريبية اعتبرت محكمة النقض أن تقديم الشكاية وإيداع الضمانة المنصوص عليهما في المادة 117 و118 من مدونة التحصيل ليس إلزاميا في الحالة التي ينازع فيها الفرد في مشروعية الضريبة نفسها. وبالمقابل وحماية للأموال العامة والمصلحة العامة، أكدت محكمة النقض موقفها الذي يعتبر أن حصول المتضرر على تعويض عن فقده لملكية عقاره في إطار الاعتداء المادي يجب أن تقابله الاستجابة لطلب الدولة بالحكم لفائدتها بنقل ملكية هذا العقار وإلا اعتبر ذلك التعويض إثراء بلا سبب. وحماية للموظفين العموميين مما قد يستهدفهم بمناسبة قيامهم بمهامهم فإن محكمة النقض أيدت في قرارها الاتجاه القاضي بضرورة تعويض ذوي حقوق رئيس كتابة الضبط الذي قتل من طرف متقاض بسبب عدم استجابته لإجراء ينقصه الرسم القضائي استناداً إلى أنه لا يشترط أن يكون الاعتداء داخل مقر العمل وإنما يكفي أن يكون بسببه ولا يشترط خطأ الإدارة للقول بمسؤوليتها عن أداء هذا التعويض. وفي إطار مقاربة اقتصادية ذات أبعاد اجتماعية كبرى توجهت محكمة النقض إلى تفضيل عرض تفويت مقاولة في حالة تسوية قضائية بدل الحكم بتصفيتها، إذا كان ذلك العرض يضمن استمرار عقود الشغل لأكبر عدد من العمال ويبقي على نشاط المقاولة، ولو كان التفويت لا يغطي معظم خصومها ما دامت استمراريتها ستضخ أموالا إضافية في رأسمالها لتوسيع نشاطها وقدرتها الاستيعابية لاستقطاب أيدي عاملة جديدة. وفي نفس السياق ذهب اجتهاد محكمة النقض إلى أن الإمكانية الممنوحة للمحاكم لحل الشركات عندما تكون هناك خلافات خطيرة بين الشركاء، لا يجوز الركون إليها حفاظا على المصالح الخاصة للشركة وعلى المصلحة العامة المتمثلة في الحفاظ على مناصب الشغل وضمان استمراريته في العملية التجارية والاقتصادية. ومن أجل ضمان بيئة استثمارية آمنة فإن محكمة النقض اعتبرت الإدارة مسؤولة عن الأضرار التي نجمت عن تغيير مسار الطريق السيار حيث أصبح الولوج إلى أحد المؤسسات الفندقية صعبا وأضعف قدرتها التنافسية وأخل بالعناصر التي كانت تعول عليها عند إقامة مشروعها. وضمانا لحقوق الأجراء واعتباراً للبعد المعيشي للأجور، فقد أكدت محكمة النقض مرة أخرى بطلان أي اتفاق يرمي إلى تخفيض الأجور إلى ما دون الحد الأدنى المقرر قانونا، وخولت للأجير حق المطالبة برفعه. وحماية للسلم وضمانا للاستقرار داخل المؤسسات التشغيلية وإنهاء للنزاعات الكيدية، فقد اعتبرت محكمة النقض الصلح المبرم بين الأجير والمؤاجر أمام مفتش الشغل والذي تسلم بمقتضاه الأجير مبلغا ماليا كتعويض عن حقوقه يعتبر منهيا للنزاع ولا يقبل أي طعن أمام القضاء. كما كيفت محكمة النقض رفض الأجير القيام بالمهام المسندة إليه بصفة مؤقتة في انتظار القيام بإصلاحات في المشروع، على أنه مغادرة تلقائية من طرفه ولا يعد تغييراً في عقد العمل من طرف المشغل. وتكريسا للضوابط الأخلاقية داخل مقرات العمل، فقد اعتبرت محكمة النقض شجار العامل داخل مقر العمل بصرف النظر عن صفته كمعتدي أو معتدى عليه، وكذا السب الموجه من طرفه سواء لرب العمل أو لغيره مخالفة وإخلالا بضوابط الشغل وأخلاقياته وخطأ يبرر فصله دون تعويض. وفي إطار النقاش الفقهي والقضائي الوطني والدولي حول حماية براءات الاختراع وحقوق المؤلفين، فقد استقر عمل محكمة النقض على أن الاختراع الجدير بالحماية هو الذي يأتي بحل جديد لمعضلة تقنية لم تهتد الاختراعات السابقة لفك إشكالاتها، ونقضت بذلك القرار الذي لم يراع هذه الشروط واكتفى برأي مكتب حماية الملكية الصناعية الذي اعتبر المنتوج المعروض عليه اختراعا دون أن يتأكد من توفره على هذه المواصفات المذكورة. ولارتباط المغرب بالعديد من الاتفاقيات الدولية وباعتباره قبلة للعديد من المؤسسات الاستثمارية التي تنهي في الغالب نزاعاتها عبر وسائل التحكيم أو الوساطة، فإن محكمة النقض وسعيا منها لإعطاء مصداقية وثبات ومرونة للمقررات التحكيمية الأجنبية فقد استقر عملها على أن القاضي الوطني يتعين عليه عند منحه للصيغة التنفيذية الاكتفاء بمراقبة كمال أهلية أطراف الاتفاق وصحة اتفاقهم وسلامة إجراءات التبليغ ويتأكد من أن التحكيم انصب على مادة تحكيمية وفي نزاع وارد باتفاق التحكيم وليس به ما يخالف النظام العام في بلد التنفيذ، ودون أن تمتد مراقبة القاضي الوطني لما بت فيه المحكم من نقط خلافية أو كيفية بته فيها. وفي نفس السياق وتفعيلا لنص الدستور الجديد وروحه فقد اعتبرت محكمة النقض أن الاتفاقيات الدولية الثنائية الخاصة بالتذييل في حال وجودها تقدم على القانون الوطني، لكن في نفس الآن وفي إطار السيادة الوطنية أجازت محكمة النقض لمحاكم الموضوع التعامل بالمثل في حالة امتناع الدولة الأخرى عن إعطاء الصيغة التنفيذية للأحكام المتوافرة على الشروط الصادرة عن المحاكم المغربية. كما قررت محكمة النقض في مجال التشغيل ضرورة مراعاة مقتضيات الاتفاقيات الدولية إن وجدت ورتبت على ذلك إمكانية تشغيل أجانب حتى دون تأشيرة وزارة التشغيل ما دامت توجد اتفاقية دولية تم التصديق عليها ومنشورة بالجريدة الرسمية تخول هذه الإمكانية. واعتباراً للإشكاليات التي تثيرها قواعد الإسناد في القانون الدولي الخاص وحماية للحقوق المالية للأجانب فقد أكدت محكمة النقض على ضرورة تطبيق قواعد قانون الأحوال الشخصية الخاص بالأجنبي عندما يكون المصاب في حادثة السير من جنسية أجنبية تطبيقا للمادة 4 من ظهير 2 أكتوبر 1984. وفي إطار القراءة المقاصدية لنصوص مدونة الأسرة ومراعاة لخصوصيات الأسر المغربية وطبيعة علاقتها المبنية على الثقة فإن محكمة النقض أيدت القرار الذي قضى باقتسام عقار مسجل بالصك العقاري باسم أحد الزوجين عندما ثبت لها من خلال مجموعة من الوثائق والأبحاث والشهود أن الزوج الآخر قد ساهم بدوره في تنمية أموال الأسرة وشارك في اقتناء ذلك العقار. وحماية للحق في النسب وضمانا لاستقرار الأسرة وصيانة أعراضها فقد قررت محكمة النقض عدم جواز الأمر بالخبرة الجينية لنفي النسب إلا إذا أدلى الزوج بدلائل قوية على إدعائه. وفي إطار تطبيق القانون العبري فقد أكدت محكمة النقض على أن الواهب إذا وهب وهو قاصر ولم يبطلها قبل بلوغه سن العشرين تصبح كاملة صحيحة وقانونية لا يمكن الرجوع فيها لاحقا. وسعيا منا إلى تكريس قواعد المحاكمة العادلة التي تقتضي احترام الإجراءات المسطرية وبناء القناعة على أدلة يقينية نوقشت أمام الهيئة مصدرة الحكم فإن محكمة النقض قررت عندما يتم إبطال القرار ونقضه ضرورة الاستماع إلى الشهود من جديد ومناقشة شهادتهم حضوريا لتكون المحكمة قناعتها بثبوت الجريمة من عدمها. وتعزيزا لضمانات حقوق الدفاع حسمت محكمة النقض في طبيعة إجراءات تنفيذ الخبرات القضائية التي يأمر بها قاضي التحقيق وأكدت على أنها تتم تحت مراقبته وإشرافه المباشرين مع ما يترتب عن ذلك من آثار قانونية. وحماية لحق الملكية وضمانا للأمن العقاري الذي هو أساس كل مشروع تنموي فقد عملت محكمة النقض على وضع حد للاستعمال التعسفي لبعض المساطر القانونية حيث قررت عدم جواز إجراء حجز تحفظي عقاري إلا بموجب دين ثابت أو له على الأقل ما يرجع ثبوته وجديته. كما منعت محكمة النقض المحافظ العقاري من التشطيب على ما ضمن بالرسم العقاري من تقييد إلا إذا أدلي له بعقد أو حكم مكتسب لقوة الشيء المقضي به في مواجهة صاحب الحق المقيد المراد التشطيب عليه. وحماية للملك الغابوي من النهب والتطاول فقد اعتبرت محكمة النقض أن كل قطعة أرض بها أشجار طبيعية النبت هي غابة مخزنية وقرينة قانونية لا يمكن دحضها إلا بحجة أقوى. وفي مجال حماية الصحة العامة وتخليق مجال الممارسة بها خولت محكمة النقض الصفة لأي شخص بما فيهم الأطباء ليقدموا شكاية أمام الهيئة الوطنية للأطباء ضد زملائهم في المهنة في حال إخلال أحدهم بواجباتهم وذلك أ استناداً على مقتضيات الفصل 46 من الظهير المنظم لهذه المهنة. وضمانا للحق في العلاج وفق المقتضيات العلمية الحديثة ولأصول مهنة الطب فإن محكمة النقض حملت الدولة المسؤولية عن تعويض الأضرار الناتجة عن أخطاء مستخدميها عند إخلالهم بواجب تقديم العناية اللازمة للمريض وفق ما تقتضيه ظروفه الصحية. وفي نفس السياق وحماية للمستهلك فإن محكمة النقض قررت عدم جواز استفادة الشخص المدان جنائيا بأداء غرامة لعدم إشهاره لائحة الأثمان من ظروف التخفيف بل تطبق في حقه العقوبة المحددة بمقتضى القانون. وضمانا لمبدأ مساواة الجميع أمام القانون فقد اعتبرت محكمة النقض أن رئيس المجلس البلدي قد أخل بهذا المبدأ عندما رخص لبعض المالكين على الشياع بالبناء ورفض الاستجابة للبعض الآخر. لم يكن بإمكاننا أن نقنع بما وصلنا إليه من نتائج، وليس بوسع الأرقام والأهداف المحققة أن تحجب عنا حقيقة أن المسار طويل والدرب شاق والانتظارات كبرى في ظل ظروف اقتصادية عالمية صعبة ودينامية تشريعية متزايدة ستعقد من عمل محكمة النقض، فكان لزاما علينا أن نؤسس لوثيقة استراتيجية تعبر مكوناتها عن خطة عمل محكمة النقض على مدار الخمس السنوات المقبلة بحول الله. خطة مبنية على قيم الانفتاح والولوجية والمسؤولية والعمل بروح الفريق والحيادية رؤيتنا في كل ذلك اضطلاع هذه المحكمة بدورها الأساسي في توحيد تطبيق القانون وتقديم خدمات متطورة ومتميزة بمواصفات أفضل الممارسات العالمية وفي زمن قياسي مما سيمكننا من تحقيق رسالتنا في إرساء قضاء متطور فعال يكفل تعزيز ثقة المتقاضين، معتمدين في هذه الخطة على نقاط قوة متعددة وفرص متاحة على رأسها الدستور الجديد والأوراش الإصلاحية الكبرى في مختلف المجالات، خاصة منها الرقمية والتحديثية. ورغم وعينا التام بكافة الإكراهات التي تعترض سبيلنا لوجيستيكيا وبشريا وماديا وقانونيا، فإننا شرعنا في العمل على وضع أسس مشروع طموح يعتبر الآن هو قطب الرحى ألا وهو محكمة النقض الرقمية سالكين في ذلك أحدث مناهج التخطيط الاستراتيجي حيث اعتمدنا على تقنية التفكيك المنطقي للمشروع وتجزيئه إلى مجموعة مشاريع يمكن إنجازها باستقلالية تامة مع استغلال نفس البنية التحتية التقنية وهذه المشاريع الأساسية الجزئية هي كالتالي: - ورش المداولة الرقمية والتي أصبحت الآن واقعا معاشا يمارسه مجموعة من الأقسام بكل سلاسة ونعمل الآن على تأهيل باقي الأقسام لتعم هذه التجربة جميع غرف المحكمة في غضون الخمس السنوات المقبلة. - مشروع التقاضي عن بعد. - ورش رقمنة القرارات القضائية. - مشروع نظام الأرشيف الالكتروني ذو القيمة القانونية. - مشروع الإدارة القضائية الرقمية. - مشروع بنك المعطيات والخبرات القانونية والقضائية. كما أننا عازمون بإذن الله على تطوير إمكانات متحف حفظ الذاكرة القضائية الذي نتوفر عليه وتفعيل المتحف الافتراضي على مستوى الموقع الالكتروني وخلق مؤسسة للتراث القضائي والفقهي بإشراك أكبر عدد من المؤسسات التي يمكنها أن تساهم في هذا العمل التوثيقي الهام ومنها المكتبة الوطنية التي سنوقع معها قريبا اتفاقية تعاون تشمل العديد من هذه الجوانب إيمانا منا بأن الأمة التي لا تاريخ لها لا مستقبل لها. لا شك أنكم تتفقون معنا بأن هذه الأوراش والمناهج والمشاريع الجريئة والطموحة تلزمها بنية تحتية مؤهلة تليق أولا بالقيمة الاعتبارية الرمزية لمؤسسة كبرى وصرح عتيد ومحكمة عليا كمحكمة النقض وتليق ثانيا برؤساء غرف ومستشارين هم من نخبة قضاة المغرب الأفذاذ تجربة ومهنية وأخلاقا والذين يشتغلون الآن للأسف الشديد في مكاتب لا تتناسب أبدا ووضعهم المهني والاجتماعي ولا المكانة الدستورية التي تحتلها المؤسسة القضائية في المغرب. من غير المنطقي أو المعقول أن يشتغل ثلاثة من رؤساء الغرف في مكتب واحد ونطالبهم بكل ما سمعتموه من التزامات وأعمال ومشاريع قضائية وإدارية وتقنية. لهذا فإننا نؤكد من خلال هذه الجلسة الطيبة واللقاء المبارك والنيات الصادقة على ضرورة التعجيل بأشغال بناء مشروع توسعة محكمة النقض الذي وضع تصميمه الهندسي منذ مدة طويلة ولم ير النور بعد. إن صيانة حرمة القضاء وهيبته لن يكون دون ضمان حرمة القضاة وهيبتهم، وهذه المخططات الاستراتيجية لن تحقق أهدافها إذا لم توفر لها الإمكانات المادية والبنية التحتية الملائمة. ورجاءنا كبير أن تشكل هذه السنة القضائية الجديدة انطلاقة حقيقية لمحكمة نقض رقمية بمقر جديد يليق ببلد رائد عريق نفخر بالانتماء إليه وهو المغرب.