أصاب فايز السراج بالقول المفيد أننا وضعنا مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وحرصنا على تجنب سفك الدماء، كما أصاب الجنرال خليفة حفتر عندما احتكم إلى سلطة العقل والتاريخ المشترك بين مكونات الشعب الليبي بالقول أن الجيش الوطني سيلتزم بالمسار الديمقراطي، وذلك من خلال حماية الهيئة التأسيسية لحماية الدستور، واستكمال الترتيبات من أجل الوحدة الشاملة، والاستعداد لانتخابات 24 ديسمبر 2021 والإعلان عن ميلاد ليبيا الجديدة بسواعد أبنائها، هنا سيسجل التاريخ كل من ساهم في عملية البناء ، من كان سببا في صد التدخلات الأجنبية، ومن اقنع الأطراف بالاحتياط لما يحاك ضد ليبيا ومستقبلها، لمن جمع الليبيين على كلمة واحدة دون تقسيمها إلى دويلات في الشرق والغرب والجنوب، كيانات تمزقها الحروب، وتصبح فريسة للكل لما تتوفر عليه من خيرات طبيعية، التفاف كل الفرقاء والخصوم على المبدأ، حكومة الوفاق في طرابلس والبرلمان المنتخب شرق ليبيا بطبرق، دولة مشتتة بين رؤى متباينة، وبرلمان هنا وهناك، فلا معنى للمؤسسات الضامنة للوحدة إلا باجتماع جميع الأطراف، وبذلك وجب وضع خارطة طريق تكون بمثابة نقطة أساسية ومرجعية في العبور بليبيا نحو الأمان والاستقرار، ليبيا كما يريدها الراغبون في مستقبل واعد أن تكون حرة ومستقلة، القوة لا تؤسس للحق، والانقسام والتشرذم في المواقف ليست من شيم الليبيين الذين اعتادوا العيش في صحراء شاسعة، المكان رمز للألفة والمحبة، للترحال والاستقرار، إذن مستقبل ليبيا بيد الليبيين ومسألة حضور الآخر العابر من أمكنة مختلفة لا فائدة منه ، القوات التركية والقوات التابعة لشركة "فاغنر"الروسية، وباقي الميلشيات الموالية لأطراف الصراع. اتفاقيات "الصخيرات" النقطة المضيئة في إحلال السلام وتقاسم السلطة، نوايا المغرب واضحة في لم شتات الليبيين إدراكا من المغاربة أن ليبيا تستحق ذلك، وعملا بما يفيد استقرار المنطقة، وسد الثغرات التي تفضي إلى تقسيم ليبيا بين القوى الأجنبية، وأصحاب المطامع التاريخية، وذوي المصالح الآنية، من الذين يسيل لعابهم على خيرات ليبيا في سوائلها الباطنية، جسور الثقة مهمة بين كل الأطراف، والمصلحة العليا للوطن أهم من الأشخاص، وليبيا الحاضر أعلى شأنا من ليبيا الماضي ، وميلاد تجربة ديمقراطية لا يعني أن ليبيا ليست مستعدة لذلك، ولا يعني أن الليبيون لا يريدون العيش طبقا للقانون والمؤسسات، كما لا يعني ذلك خلو ليبيا من الطاقات والنخب المتمرسة في العمل السياسي، من الذين يتوفرون على كفاءة وقدرة في تدبير وتسيير أمور الدولة، شخصيات سيذكرها التاريخ بالفعل، الذين أخطئوا التقدير وقراءة الوقائع على الأرض، من الذين ارتكنوا للقوى الخارجية بدعوى الحماية، وتأمين الهيمنة على السلطة، لاشك في الأمر هناك صراعات مغلفة بأيديولوجيات، فخاخ ودسائس يتم تجريبها على الأرض الليبية، عندما فكر الفرقاء مليا استشعروا المخاطر فبدأت نواياهم تتبدل من جديد، هؤلاء يساهمون الآن في صياغة مستقبل البلد، الذين يقدمون أنفسهم للتفاوض على صيغة البناء في العبور نحو دولة المؤسسات، أولئك الذين يتمركزون في الميدان . عملية سياسية تقودها حكومة وحدة وطنية، وعملية مباركة من الجيش الليبي في نزع سلاح المليشيات، جلسات التفاوض التي تجري بين الإخوة في الوطن عبارة عن مشاورات وإجراءات، ضرورة التنازل والتراضي، وتطبيق ما جاء في بنود اتفاقية الصخيرات، وما صدر عن مؤتمر برلين، وما تقدمه باقي الأطراف من اقتراحات ومبادرات لإرساء السلم، أما انهيار اتفاقية الصخيرات وبشكل رسمي وتولي الجنرال حفتر قيادة البلاد بتفويض من الشعب فهذا الأمر أشبه بالبارحة، لا يغير من ليبيا أي شيء في مجال الانتقال الديمقراطي . تركة العقيد معمر القدافي أصبحت من الماضي، والانقسام في الرؤى والأهداف كذلك أضحى من الماضي ، ليبيا وحتمية الالتفاف مع القيادة المركزية، عند تثبيت الدولة بأسسها لا يبقى للمرتزقة والطامعين في خيرات البلد سوى الانسحاب الفوري، أما الدول الداعمة لذلك فعليها ضح أموالها والعبور نحو ليبيا من أجل الاستثمار في البنية التحتية، لم يعد هناك هواجس وترقب للخوف المتبادل بين الطرفين، لا خوف من اقتحام طرابلس من قبل الجيش الوطني، دوره في المراحل القادمة نزع سلاح الميلشيات، ومراقبة السير الطبيعي للمؤسسات وحماية الديمقراطية في تجربة جنينية، قيادة الجيش ليست تابعة لأي أطراف سوى للدولة المركزية، تفاهمات بوزنيقة تشير إلى التقارب الكبير بين الطرفين، إرادة الكل في توزيع المناصب السيادية كخطوة أولى نحو التراضي الشامل بين القوى المتصارعة، تلك المناصب المنصوص عليها في المادة 15 من الاتفاق السياسي الموقع في دجنبر 2015 بالصخيرات، توزيع هذه المناصب السيادية بين الأقاليم الليبية، وبما يرضي مكونات هذا الشعب، وحتى في ظل اعتراض المجلس الأعلى للقضاء لما يراه القائمون على هذه السلطة في التقليل من أدوارها وما يتعلق بالمحاصصة المناطقية، كان ينبغي العودة لاستلهام النماذج الغربية في عملية الانتقال الديمقراطي من السلطة المطلقة إلى السلطة المقيدة، واعتبار السلطة التشريعية كما قال جون لوك أعلى وأقوى السلط في التشريع، لكن ليبيا وبسبب تركيبة الشعب والمستوى الثقافي والفكري تحتاج للزمن في ترسيخ البناء الديمقراطي، يمكن اعتبار هذه التفاهمات، وحزمة من القرارات الصادرة عن اتفاقية الصخيرات بناءة في الحل، وقد نص هذا الاتفاق التاريخي على 67 مادة أساسية تنص في مضامينها، ما يتعلق بالمؤسسات والرئاسة، والحكومة الموحدة، وتأسيس المجلس الأعلى للدولة، ومجلس أعلى للإدارة المحلية، ومجلس الدفاع، ومجلس النواب كأعلى هيئة تشريعية، وكل التدابير الأمنية، وصلاحيات رئيس الوزراء وغيرها من البنود، واعتبر هذا الاتفاق الإطار الفعلي للاعتراف بالوضع برعاية الأممالمتحدة. يجب أن يدرك الليبيون كفاعلين في مجالات مختلفة أن تجربة العبور نحو دولة المؤسسات يعتبر مكسبا كبيرا لهذا الشعب الذي عاني من الاستعمار الايطالي والوجود العثماني، وعانى من الحكم الفردي، ليبيا ليست كغيرها من البلدان، فهناك احتياط هائل من النفط، تهافت البلدان تغذيه أهداف أيديولوجية، واستقطاب للمحاور ، لا تفيد الشعب الليبي في أي شيء، الصحراء الشاسعة، ظلت فضاء للتعايش وطرد الغرباء من ذوي النوايا السيئة، يسكننا المكان ولا نسكنه كما قال إبراهيم الكوني، المكان الضائع في عجزنا عن كشف كنوزه المادية واللامادية، للمكان سحر خاص، قانون الصحراء مكتوب بلغة أهل الصحراء، قيمته في الألفة والمحبة، ومن الصعب أن يخترقنا الغريب إلا بإرادة الناس ونيته الحسنة في البقاء والاندماج ، الوطن قيمة وليس غنيمة، ما يسيء للأوطان هي تلك الأيديولوجيات، مهما كان نوعها دينية أو قومية أو ليبرالية، ضد الطبيعة الإنسانية في تلمس معنى الصحراء، روح الصحراء ممزوجة بأرواح الناس، ناموسها تلك المبادئ والقناعات الراسخة والمثبتة في التفكير، المبدأ الأصيل في الروح والتي تعني أن الإنسان الليبي الذي خبر المكان، لا يحتاج للوصايا والإرغام، الآخر العابر من الحدود، والقوى المتربصة بالمكان، لا يمكنها تغيير معالم الروح، وكل ما ارتسم عن المكان من قيم جماعية وفردية، أما الغرباء من المرتزقة نصيبهم الفرار أو الاستسلام وتأمين عودتهم لأوطانهم، لا يمكنك مقاومة انطباع الناس عن المكان إلا إذا كانت روحك قابعة فيه، صلة الوصل بين المرئي واللامرئي، المكان الذي يلتف فيه الإنسان الليبي، يغادر الناس ويعودون من جديد، هناك وشائج عميقة لا يمكنها أن تكون سببا في التشرذم والانفصال، لا بد أن يصير النقيض إلى الوحدة والتكامل، هذا يعني أن سبب الخلاف يتعلق بالرؤية السياسية، وليست للدوافع الأخلاقية والاجتماعية، لأن ليبيا تدين بدين واحد، وأهلها فسيفساء من العرب والأمازيغ ومكونات أخرى عبرت الأمكنة واستقرت هنا، وجدت ملاذا للعيش الرغيد، وجدت جماعة متراصة ومتماسكة فانجذبت للثقافة والمكان معا. حارب الشيخ عمر المختار الغزو الايطالي بشراسة ودفع ثمنا لذلك، لم يكن يعتقد أنه سيدخل التاريخ، ويصير محترما في كل الأوطان العاشقة للحرية والكرامة، لم يكن قائدا عسكريا، ولا خريج المعاهد العسكرية، بل رجل من الشعب امن بالوطن والحرية، فُرضت عليه الحرب، وكان أهلا لها بأدواته البسيطة وقناعته في إقناع الليبيين بالمقاومة السبيل الوحيد لصد العدو الخارجي، ما نفهمه الآن أن الشخصيات التي تفاوض والتي قادت ثورة 17 فبراير مجرد أدوات مهمة في خدمة التاريخ وبناء ليبيا المستقبل، بعد مخاض شاق في ولادة تجربة أفضل، ويبدو أن المشهد الليبي انزلق نحو مسارات غير محسومة، حيث تدخلت مجموعة من القوى الخارجية التي حرضت وقدمت مساعدة لطرف على حساب آخر، فكان بالأخرى أن يكون الحل مغاربيا في إطار إجماع الدول المغاربية في الالتفاف مع هذا الشعب الأصيل، ومحاولة التقريب بين الأطراف المتنازعة، بل أكثر من ذلك، الانقسام الذي كان حاضرا بين القوى بخصوص "الربيع العربي" يسهل تذويبه في بناء دولة المؤسسات، بين الدول الداعمة للإخوان المسلمين من قطر وتركيا، والقوى المناهضة لها من الإمارات والسعودية ومصر، وبين دول محايدة ترغب في الاستثمار الاقتصادي . مع تقدم الأيام وجد الليبيون في المبادرة المغربية نوايا طيبة بدون خلفيات سوى ما يرغب فيه المغاربة من استقرار أمني محلي وإقليمي، وسلام شامل ورخاء للشعب الليبي من باب الأخوة والعلاقة التاريخية المتينة، لذلك استضاف المغرب المفاوضات منذ 2015 بالصخيرات، ومؤخرا مفاوضات جديدة بمدينة بوزنيقة، فلازال المغرب يرحب بكل الأطراف، ومختلف الشخصيات الفاعلة في حل الأزمة الليبية، وأعتقد أن الوساطة الناجحة من المغرب كفيلة بتقريب وجهات النظر من خلال قناعة واحدة أن مستقبل ليبيا يحدده الليبيون بأنفسهم، وليس بيد القوى الخارجية، بالطبع الاتفاقيات موثقة ومدعمة من قبل الأممالمتحدة. ليبيا ليست دولة عثمانية وليست مستعمرة ايطالية، ولا تعني العودة للحكم العسكري، نحن في زمن استقلالية الدول، وكل كيان مستقل بذاته، سيادته على خيراته، واحتيار هويته ليست قابلة للتفاوض، والخلاف على الجزئيات والتفاصيل الدقيقة لا يؤسس للحق والعدالة، هناك أشياء تحتاج في صيغتها والعمل بها للتدرج، وأشياء أخرى تستدعي تفاهمات قابلة للتجاوز، أما فكرة الانجرار للقوة أو الاستنجاد بالآخر القريب أو البعيد، فلن يضيف أي شيء للشعب الليبي الحر، وبالتالي ما ينقص هذا الشعب، الوحدة والتكتل ضد الأطماع الخارجية، ليبيا المستقبل حرة ومستقلة، مبادئ وقناعات لا تأتي دفعة واحدة إلا بالتنازل والتراضي، والبناء المتين للدولة المدنية بكل مضامينها.