شهدت العلاقات المغربية الإسبانية تصدعات عنيفة منذ 2018، برزت للعلن مؤخرا عند سماح الحكومة الاشتراكية الإسبانية لزعيم تنظيم البوليساريو العسكري بالدخول لأراضيها للتداوي من اثار الإصابة بفيروس كورونا المستجد. ويمكن القول، أن هذا الجفاء بين الدولتين يمكن فهمه انطلاقا من تواتر عدة أحداث لم تفهم في حينها لغياب مؤشرات دالة على حدوث شرخ كبير في العلاقات الدبلوماسية بين المغرب واسبانيا يعكس مدى سوء الفهم بين الطرفين في قضايا استراتيجية كانت ولا تزال موضوع خلاف قديم بين الجانبين. ويفهم من قرار التأجيل المستمر للاجتماع الرفيع المستوى بين البلدين، والذي تعلق عليه امال كبيرة في علاقة بضبط موضوع الهجرة والأمن ومكافحة الإرهاب. غير هذا الأمر لم يكن لوحده عاملا حاسما لزيادة منسوب التوتر في العلاقات الثنائية بين البلدين، بل تجاوز الأمر ذلك إلى إقدام المملكة المغربية على تحديد مجالها البحري الواقع تحت سيادتها بما في ذلك مياه سواحل الصحراء المغربية حتى الحدود مع موريتانيا. إن هكذا خطوات لم تكن لتمر مرور الكرام أمام الجار الشمالي دون أن يتفاعل بشكل يظهر موقفه الحقيقي من علاقته بالمغرب، البلد الذي أثبت نجاعة سياساته في الكثير من القضايا الدولية ليتبوأ مكانة الشريك الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي. هذا التغيير الجلي في استراتيجية المغرب على المستوى السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والأمني المتعدد الأطراف، خلقت توجسا لدى جاره الشمالي من مغبة إقدام المغرب على خطوة أخرى تنعكس بالسلب على تماسك شبه الجزيرة الإيبيرية الهش، كمطالبته بسبتة ومليلية والجزر الجعفرية السليبة. غير أن تسارع الأحداث في منطقة شمال إفريقيا واستعادة الجزائر لوهجها الاحتجاجي المنادي بتنحية الطغمة العسكرية الحاكمة وفتح الصحراء على العالم عبر فتح قنصليات للعديد من الدول، وتتويج تلك المجهودات باعتراف صريح لحكومة الولاياتالمتحدةالامريكية بمغربية الصحراء وجدية مقترح الحكم الذاتي القاضي بمنح سكان الصحراء حكما ذاتيا لتدبير شؤونهم بأنفسهم، أرخى بظلاله على صانعي القرار بمدريد والجزائر، لما يمكن أن يشكله من انحسار لتطلعاتهم في ضبط تجارة افريقيا وطمعهم الدائم باغتنام خيرات وموارد الصحراء بالعزف على وتر النزاع المفتعل الذي طال امده اكثر من اللازم. ومما لا شك فيه ان قيام الحكومة الاسبانية باستفزاز المغرب من خلال السماح لزعيم تنظيم عسكري مسؤول عن ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان ضد مواطنين مغاربة واسبانيين وموريتانيين وكوريين وغيرهم في حل من المساءلة بفضل تستر دولة الجزائر الحاضنة لمخيمات تندوف، جاء كرد مباشر على كل الأسباب السالفة الذكر التي ساعدت على ترجيح كفة المغرب دوليا وشروعه في لعب دور محوري في العديد من القضايا ذات الطابع الدولي. فمحاولة لي ذراع المغرب باستقبال شخص مطلوب للقضاء الإسباني بتدخل جزائري رفيع المستوى يظهر نية الجار الشمالي المبيتة في الإساءة الى شريكه الجنوبي لنيل تنازلات في قضايا ذات الاهتمام المشترك أعرب المغرب سابقا انه لن يتحمل كلفتها لوحده وأعرب عن استعداد للدخول في مرحلة جديدة من العمل التشاركي لحلحلة الإشكالات ذات الطابع الدولي ونبذه للعب دور الدركي للآخرين. ويمكن الجزم، ان السماح بإدخال إبراهيم غالي، زعيم جبهة البوليساريو الانفصالية، لا يعدو كونه مكيدة مدبرة بليل بين حليف وشقيق، بنية الإضرار بمصالح المغرب الحيوية وتلقينه درسا قاسيا، لئلا يجرأ مرة أخرى على معاكسة الجيران، ومحاولة إرغامه على إعادة حساباته في الكثير من الملفات الحارقة وعلى رأسها نزاع الصحراء المغربية المفتعل. وفي خطوة مفاجئة، صدح المجتمع السياسي غير الحاكم بسلامة موقف المغرب من عبثية قرارات الدبلوماسية الاسبانية بخصوص مطالب المغرب ببسط سيادته على كامل ترابه الصحراوي وبفرض القانون الدولي بخصوص الجرائم المرتكبة بمخيمات تندوف جنوب غربي الجزائر، من قبل قيادات سادية لا تحسن سوى القتل والاختطاف والاختفاء القسري والتعذيب والتمثيل بالجثث واجتثاث مكونات ومجموعات إثنية على أساس عداوات تاريخية والاعتقاد الموغل في ارتكاب ممارسات عنصرية وتمييزية ضد النساء والأطفال والأشخاص المنتمين الى فئة السود الذين ما زالوا يرزحون تحت نظام العبودية البائد. غير أن صلابة الموقف المغربي وصدقية اراءه وردوده على محاولات الجانب الاسباني التقليل من خطورة استقبال زعيم البوليساريو، ووصفه بالإنسانية يقابله تذبذب في مواقف الجار الشمالي بخصوص الازمة الحالية، حيث صرحت الخارجية الاسبانية على سلامة إجراءاتها المتخذة بخصوص استقبال زعيم البوليساريو على أراضيها لدواع إنسانية، ليستتبع ذلك انفراج في الموقف الاسباني في علاقة بنية الجار الشمالي احترام نظامه القضائي إذا فتحت مسطرة للاستماع الى ضيفها غير المرغوب فيه بخصوص المنسوب إليه. بيد أن الساسة الإسبان اعادوا الكرة بالتأكيد أن الأجواء مفتوحة أمام ضيفها بعد تماثله للشفاء وان لها الثقة في إبراهيم غالي للاستجابة لطلبات القضاء الاسباني بعد وصوله للقاعدة الخلفية للجزائر، والتي تعد منطقة عسكرية مغلقة خارج رادار المراقبة الدولية الحقوقية. ففي خضم الانكسارات التي واجهت الحكومة الاشتراكية الاسبانية أمام جبروت وبطش فيروس كورونا المستجد وضعف وفساد النخب السياسية وفشلها في مواجهة الدعوات القومية المنادية بالانفصال عن شبة الجزيرة الإيبيرية، واصلت اقتراف الأخطاء بتعمد استفزاز جار وشريك استراتيجي ذا ثقة في المجتمع الدولي ويرسم مجال تحركه بثبات، ضاربة عرض الحائط التزاماتها الدولية والقارية ذات الصلة بمواضيع الهجرة والامن ومكافحة الإرهاب وبناء السلم والامن الدوليين واحترام حقوق الإنسان كونيا، وهو أمر لن تسلم اسبانيا في المستقبل القريب من عواقبه الوخيمة اعتبارا لرفض المغرب الانصياع لهلوسات استعمارية تبيت من حين لآخر في ذهنية الجار الشمالي إحياءا لماض موسوم بالعار منذ زمن محاكم التفتيش الأليم.