"قيادة التغيير من الادارة التربوية إلى القيادة التربوية"، ونحن نقرأ هذا العنوان الرائع للباحث المغربي الكبير الدكتور امحمد جبرون، الذي حاول من خلال هذا المؤلف أن يطرق بابا جديدا للبحث. وهو باب "القيادة التربوية"، التي يعتقد بكونها بديلا حقيقيا لل"تدبيرانية" القاتلة للإبداع، والإبتكار. مؤلف يجمع فيه الكاتب بين مفهومين قويين، ويلحق واحدا بالآخر، فيجعل الأول محمولا للثاني، أو حاملا له. في هذا العنوان الذي يثيرك للقراءة ويستدعيك للتنقيب، والفحص والبحث، والغوص في صفحات الكتاب، دون أن تميل لمعرفة بعينها، خاصة وأن مفهوم التغيير الذي سبق أن عرجنا عليه في مقال سابق، يعد واحدا من المفاهيم القوية التي تعنى بها العلوم الاجتماعية والتربوية اليوم، إن لم أبالغ وأقول أنه المفهوم المهيمن في مجالات البحث العلمي عبر العالم، وقد حاول الكاتب وهو يعرض في فصله الأول من الكتاب الذي وشمه، أو عنونه ب"المفاهيم: القيادة، التدبير، والتغيير" أن يتطرق لهذا المفهوم معتبرا أنه" حالة مستدامة وليس حدثا طارئا"، بما معناه أن التغيير حالة مستمرة مع الزمن، ولا يمكنه أن يشكل حدثا لحظيا آنيا، كما اعتبره من المفاهيم الملتبسة التي لا يكفي في تعريفها الاستناد إلى المعاني، والدلالات اللغوية، وحاول أن يحدّه قائلا:" مفهوم التغيير بشكل عام يعني التحول الطبيعي أو غير الطبيعي من حال إلى حال ثان مختلف عنه،" وفي ختام حديثه عن التغيير أكد أنه يتخذ ثلاثة أشكال لخصها في شكل تطور، وشكل انتقال من حالة إلى حالة أخرى، وشكل التحول وهو التغيير المستدام. وحاول أن يجعل الإنتقال من الكائن/ الموجود التدبيرانية إلى الما يجب أن يكون، أو القيادة التربوية، أمرا لابد منه من أجل النهوض بالمنظومة التعليمية ببلادنا، منتقدا الدور الذي رسمته مذكرة وزارية لمهام المجالس التربوية، والتعليمية على اعتبار أن لا صلاحيات لها، وأن المدير دائما رئيسها بالصفة ما يجمد الاجتهاد، والعمل في هذه المجالس، وبعد ذلك خاض في مفهوم القيادة التي أخذت منه الكثير في هذا المؤلف، بل خصّ المفهوم بفصل خاص عن القيادة ذهب فيه لمحاولة تعريف المفهوم، الذي اعتبره أيضا من المفاهيم غير المنضبطة في الدراسات العلمية والفلسفية والسياسية، إذ نجد حسب امحمد جبرون ذاته أزيد من مائتين وثمانين تعريفا في هذا المفهوم، دون أن يخلص العلماء لضبطه وحدّه، ما يجعله مفهوما قويا يميل للقَوْدِ، أي التأثير، ومن أجل الإحاطة بهذا المفهوم نجده يعطينا عصارة كتاب" القيادة في التنظيمات" إذ يعرفه صاحب هذا الكتاب بكونه:" سيرورة التأثير في الآخرين، تستهدف إفهامهم، وكسب موافقتهم بخصوص ما نحتاج إلى فعله، وكيف يجب فعله، وأيضا سيرورة لتيسير الجهود الفردية والجماعية التي تستهدف إنجاز الأهداف المشتركة"، وينتقل الكاتب في معرض حديثه عن القيادة إلى مراحل تطور القيادة من "وظيفة الفرد" إلى "وظيفة الفريق أو الجماعة" حيث نجده يضع للقيادة ثلاثة مراحل أساسية: – المرحلة الأولى من ثلاثنيات القرن الماضي إلى سبعينياته وكانت تهدف لتحقيق نتائج ذات اثر مادي أو اقتصادي، أي أن القيادة الناجحة قيادة قادرة على الربح الوفير. – المرحلة الثانية تبتدئ من سبعينيات القرن الماضي إلى ثمانينياته والتي عرفت تحولا من الجانب المادي للقيادة إلى جانبها الأرقى بحيث كان الغرض حينها صناعة تحول فعّال في التنظيم أو المؤسسة، أي أن القيادة الناجحة هي القيادة القادرة على إحداث التغيير المؤسساتي أو التنظيمي المتلائم مع الظرفية التي تعيشها المؤسسة. – المرحلة الثالثة وتبتدئ من نهاية ثمانينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا وهي جديرة بالقراءة والبحث والفهم لكل القيادات أو أشباه القيادات( متوهمو القيادة) حيث نجد أن المعيار الذي نقيس به نجاح القيادة من عدمه يكمن في تحقيق آداء مؤسساتي ثابت ودائم بمعنى المحافظة على الإستمرارية، الأمر الذي لا نجده في كثير من مؤسساتنا وتنظيماتنا المعاصرة. صاحب هذا التحول على مستوى المفهوم تحولا على مستوى شخصية القائد والتي تعد المنطلق الأساس لبناء قيادة قوية حاول من خلال هذا التحول أن يطرح علينا الكاتب سؤال القائد ومن يستطيع لعب هذا الدور؟ هل شخصية القيادة معطى طبيعي أم مكتسب؟ هل يمكن لأي كان أن يقود؟ وهنا سيغوص الباحث في فصل خاص عنونه ب"نظريات القيادة" الفصل الذي شكّل واحدا من أقوى الفصول في هذا الكتاب حيث نجده في هذا الفصل يتطرق لمميزات الشخصية القيادية، في محاولة لبحث سؤال هل يمكن أن يلعب أي كان هذا الدور؟ وهو سؤال جوهري إذا كنا صراحة أمام سؤال التغيير والانتقال من الإدارة التربوية إلى القيادة التربوية، وقد عرض في هذا الفصل لأبرز النظريات التي اهتمت بالقيادة والشخصية القيادية التي لخّصّها في أربع نظريات جامعة مانعة نذكرها في عجالة: -نظرية السمات: التي تؤكد أن القيادة معطى طبيعي أو فطري، تقتضي هذه النظرية في القائد توفره على مجموعة من الصفات والسمات، التي يقصد بها مجموع الخصائص الفردية ومظاهر الشخصية من قبيل الطباع، والحاجيات، والدوافع، والقيم، التي تتجسد على نحو خاص في السلوك. ويقسم جبرون السمات إلى نوعين اثنين لا ثالث لهما: -سمات مكتسبة يمكن تطويرها وتنميتها، – وسمات فطرية وراثية لا يمكن تنميتها، أو تطويرها، والمهارات التي اعتبرها مجموع القدرات على أداء شيء معين بشكل فعّال. – النظرية الظرفية والسلوكية: التي تجعل لكل ظرف أو وضع خاص سلوكا أو نموذجا خاصا وجب اتباعه من طرف القائد، وهو هنا يجعل معيار نجاح القائد من عدمه ملخص في كون هذا السلوك الذي تبناه القائد أهو سلوك ملائم أو غير ملائم للوضع أو الظرف؟ – النظرية الكاريزماتية: التي تربط القيادة بموهبة ربانية وجب توفرها في القائد ويربطها الكاتب بكون هذا القائد وجب أن يمتلك القدرة على التأثير في الأتباع ويجعلهم يضحون من أجل التنظيم أو المؤسسة، ويقسم فييبر الكاريزمة إلى أربعة أنواع مهمة: – كاريزمة وراثية يمتلكها القائد وراثيا، – كاريزمة القبيلة أي أن القائد يكون قائدا على القبيلة ويمتلك سلطتها، – كاريزمة بيروقراطية بمعنى المكتب هو الذي يعطي للفرد أو الشخص كاريزمته ومكانته، والأخيرة سرقها مني الزمن، إذ كنت قرأت الكتاب أثناء تواجدي بالجامعة. وفي الختام تحدث الكاتب عن نوع آخر من أنواع القيادة والحديث هنا عن نظرية التحول والتبادل التي يربطها الكاتب بمعيار الانجاز وربط هذا الانجاز بالحافز، ينتقل الكاتب في معرض حديثه عن القيادة التربوية إلى تقسيمها لقسمين أساسيين: – قيادة جماعية أو مركزية أو تشاركية تسند فيها المهام لفريق أو مجموعة يكون هنا القائد مبدا لآليات الاشتغال ومنظما لها، – قيادة فردية تسند فيها المهام كلها لفرد واحد أو قائد واحد ويفضل الكاتب في فصله الثالث القيادة الجماعية علىالقيادة الفردية لما لاقتسام الادوار من أهمية في ميدان العمل، خاصة إذا عدنا لفكرة تقسيم العمل التي أعطت أكلها ونتائجها الهامة، إذ يمكن للقائد في القيادة الجماعية أن يسند مهام وأدوار لمن يتقن هذا الدور أو ذاك ويتخصص فيه من أجل مزيد من العطاء. يحاول امحمد جبرون أن يتحدث عن أهمية وضع اسراتيجية للتغيير والانتقال من حال إلى حال، من أجل تحقق هذا الانتقال أو التغيير ونجده يركز على المقاومة التي يعيشها أي تغيير تغيير كيف ما كان نوعه وفي أي مجال كان. هذا العمل الذي حاول خلاله المؤرخ والباحث في علوم التاريخ أن يتطرق لموضوع ذو جدة في مجال العلوم التربوية، يعد سباقا للنبش في خبايا الإدارة التربوية، والتي تشكل واحدا من العوائق التربوية المؤثرة على سير العمل التربوي ببلادنا والنهوض به، أمام حجم المسؤوليات المسندة للمدير، والأدوار التي أنيطت به. في هذا الكتاب يحاول صاحبنا معالجة موضوع حساس جدا في خمسة فصول من الروعة بمكان: – المفاهيم: القيادة، التدبير، والتغيير: الذي حاول خلاله تعريف المفاهيم وحدها، على اعتبار أن أية دراسة كانت، لن تنجح ما لم نتفق في بادئ الأمر على المفاهيم والتعريفات، باعتبارها مدخلات الدراسة وأبوابها، -القيادة التربوية بين الجماعية والفردية: عرّج خلال هذا الفصل الباحث على كثير من الأمور المهمة من قبيل القيادة وتعريفها كما سبق وأن تطرقنا وكذا سماتها وأهم نظرياتها، ليختم الفصل بالتمييز بين القيادة الجماعية، التشاركية والقيادة الفردية، كما رأينا آنفا. – قيادة التغيير:سيرورات التغيير: حيث نجده قد عالج مفهوم التغيير وحاول أن يتحدث عن سيرورات عملية التغيير في شتى المجالات التي اعتبرها محدثة للانتقال من وإلى، هذا الإنتقال يقول صاحبنا لابد يتعرض للمقاومة من أطراف يزعجهم هذا التغيير، هؤلاء هم المستفيدن من الوضع الموجود، رافضون للممكن، ليس من باب العقل، بل من باب الحطة والحذر، من كون هذا الجديد قد يهدم كل ما بنوه، وشيدوه، وعليه فإن رافضوا التغيير ليسوا دائما، عارفيين بما يرفضون، بل محتاطون من التغيير فقط لعدم وجود الثقة في المولود الجديد، وهذا لابد نلاحظه يوميا من قبيل الرافض للتغيير، إذ نجده لا يمتلك أدنى فكرة عن مطالب التغيير، وتجده مدفوع من قبل مصالحه للمحافظة عليها، واعتبر الكاتب أن أي تغيير لابد أن يخضع لبناء استراتيجية التغيير التي تعد بمثابة خارطة الطريق أمام محدثو التغيير. يبقى لهذا المؤلف الذي بين أيدينا اليوم قيمة مضافة، على اعتبار أنه دق ناقوس الخطر لما نعيشه على مستوى الادارات التربوية ببلادنا، ولما للتدبيرانية الاحتكارية من سلبيات، قاتلة للابداع والابتكار خاصة في المجال التربوي. * أستاذ وباحث في علوم التربية.