يحس الكثير من الأولاد أنهم لم يأخذوا حظهم الكافي مما يستحقونه من اهتمام ومشاعر من لدن والديهم وخاصة من لدن الآباء وذلك أثناء مرحلة الطفولة والتي يكون فيها الولد أحوج إلى والديه. ولاغرابة أن تجد الكثيرين -ورغم تجاوزهم مرحلة الطفولة ومنهم ربما من أصبح أبا أو أما- لا زال يحمل هذا الشعور تجاه أبيه متهما إياه إظهارا أو إضمارا بالتقصير في حقه. قد يحمل الأولاد نفس الشعور تجاه الأم أيضا، ولكن بدرجات أقل بالمقارنة مع الآباء، نظرا للعوامل الاجتماعية والثقافية ولاختلاف طبيعة الرجل عن المرأة التي تجعل فرص التفريط من جهة الآباء أكبر منها من جهة الأمهات. ولهذا سأركز من خلال هذه المقالة على جانب الأب. هذا الشعور إذا لم تتم معالجته بشكل صحيح قد يؤثر بالسلب على علاقة الولد بوالده. نعم، قد تحول التربية الدينية والتقاليد دون إظهار الولد مشاعر السخط تجاه أبيه، ولكن هذا لا يمنع أن يبقى ثمة شيء في النفس من عدم الرضا يحمله الولد تجاه أبيه، يختلف من شخص لآخر حسب مستوى تفريط الأب وحسب قدرة الولد على التماس الأعذار لوالده والتجاوز عما قد يراه تقصيرا في حقه. من خلال هذه المقالة، سأحاول أن أحيط ببعض ظروف وملابسات الأب المتهَم بالتقصير لعل الولد المتهِم يستحضر هذه الظروف والملابسات المحتملة فيجد فيها ما يفهم من خلاله موقف الأب وربما يبرره ولا يقسو في الحكم عليه. وسيكون من الأفضل بالطبع لو أن كل أب قام بهذا بنفسه وفاتح أولاده في الموضوع ليشرح ما يستوجب الشرح ويعتذر -إن اقتضى الأمر- عما يستوجب الاعتذار. فالمبتغى في النهاية أن تكون العلاقة بين الوالد وولده كما يجب في الأصل أن تكون، ملؤها الصفاء والحب والحنان، الوالد أعز وأغلى إنسان بالنسبة لولده والولد أعز وأغلى إنسان بالنسبة لوالده. رغم ما قد تحمله مرحلة الأبوة من تحديات وما تفرضه من مسؤوليات على الآباء، إلا أن لهذه المرحلة طعمها الخاص ومزاياها المتعددة. في الوضع الطبيعي السليم، فإن كونك أبا يلزم منه أنك تأخذ أشياء وتعطي أشياء أخرى، تعطي لأولادك –مثلا- الحب والحنان والتربية والعناية وكل ما يحتاجونه منك بصفتك أبا. وفي المقابل، تأخذ أنت أيضا من أولادك الكثير، حيث تستمتع بوجودهم إلى جنبك وتراهم يكبرون أمام عينيك، يؤنسون حياتك ويسعدونها وتجد فيهم ثمار القلب وعماد الظهر واستمرار النسل… هذا الأخذ والعطاء يختلف من أب لأب وقد يختلف بالنسبة لنفس الأب من ولو لولد آخر، حسب ظروف الناس وطبائعهم وطرائقهم في التفكير وأساليبهم الحياة. فإذا كان الكثيرون يحمدون الله على نعمة الولد مثلا، فمنهم من لم تزده مرحلة الأبوة إلا هما وغما وربما تمنى أن لو لم يكن له ولد قط. كما أن نفس الأب قد يكون أحد أولاده مصدر سعادته بينما يكون الآخر مصدر شقائه. ورغم أن الأب مطالب بالعدل بين أولاده سواء في العطاء المادي أوالمعنوي، إلا أن الواقع بتحدياته وظروفه وتغيراته يجعل الأب في الكثير من الأحيان يعطي بعض أولاده أكثر مما يعطي الآخرين. طبعا، إذا كان هذا الإيثار بسبب تفضيل بعض الأولاد على بعض فإنه مرفوض، بل ومحرم في دين الله، لأن فيه ظلما للأولاد الذين أخذوا أقل من إخوانهم وأخواتهم. وقد يكون هذا الإيثار أيضا مدعاة للتحاسد والتباغض بين الأولاد وقد يؤدي إلى حقد المتضررين والمحرومين من الأولاد على أبيهم وربما السعي إلى الانتقام. ولا شك أن الأب حينئذ يتحمل مسؤوليته في هذا كله. لكن، قد يكون هذا التفاوت في الأخذ والعطاء المتبادل بين الأب وأولاده ناتجا أيضا عن أمور أخرى لا علاقة لها بتفضيل بعض الأولاد على بعض وليس بسبق إصرار وترصد من الأب. فقد يكون الأب –مثلا- معسرا من الناحية المادية في فترة من فترات حياته ثم تتيسر أموره بعد ذلك وقد يكون العكس. وقد تحتم ظروف الحياة وحِكم الأقدار النافذة على الأب أن يعيش بعيدا عن بعض أولاده قريبا من البعض الآخر، كما أن مستوى الراحة النفسية والوعي والنضج الذي تمر به حياة الأب قد يكون له أثر في تفاوت عطائه لأولاده. فأن تكون أبا وأنت في بداية العشرينات من العمر ليس كأن تكون أبا وأنت في الأربعينات أو الخمسينات مثلا. فكلما تقدم الإنسان في السن زاد نضجه وجاشت مشاعره –في الغالب- تجاه أولاده بشكل أكبر. هذا بالإضافة إلى أن الأب -ومع مرور السنين وتوالي الأولاد- سيستفيد لامحالة من تجاربه الخاصة وسيهذب من سلوكياته ويحسّن من عطائه تجاه أولاده. وربما لو عاد الزمن أدراجه وتغيرت الظروف لأعاد الأب النظر في منسوب عطائه. أمر آخر يجب أن لا نغفل عنه في الحقيقة، وهو أن أي جفاف أو ضعف في المشاعر والعطاء المتبادل بين الأب والأولاد وخاصة عندما يكونون في سن الطفولة، ليس الأولاد وحدهم المتضررين منه، بل حتى الأب نفسه يتضرر من هذا الحرمان! فإذا كان الأب بفعل البعد أو بفعل ظروف أخرى لم يعط لأولاده أو لبعضهم ما يكفي أثناء طفولتهم، فإنه بالمقابل لم يأخذ أيضا من طفولتهم ما يكفي. ولنأخذ على سبيل المثال أبا شاءت الأقدار أن يكون غائبا أثناء ولادة طفله أو كان غيابه طويلا ومتكررا أثناء مرحلة طفولة ولده، بالتأكيد سيترك هذا الغياب أثرا على الطفل لأن الفراغ الذي يسببه غياب الأب في هذه المرحلة لا يستطيع أحد غيره أن يملأه. وكلما نما إدراك الطفل نما معه هذا الإحساس واشتد أثره. لكن، هل فكرنا في أثر هذا الغياب على الأب أيضا؟ أي حرمان أكبر من أن يولد للأب ولد في غيبته، فيحرم من سماع صرخاته الأولى في الدنيا ويحرم أيضا من حمله بين ذراعيه وإلزاقه بجسده، يحس حرارته ويشم أنفاسه ويتلمس جسده الذي هو جزء منه ويتقاسم فرحة ولادته مع أمه وأقاربه. أي حرمان أكبر من أن تغيب الظروف والأقدار الأب عن متابعة نمو ولده أمام عينيه لحظة بلحظة، فيرى ابتسامته الأولى في الدنيا ليراه بعد ذلك يضحك ويقهقه ويسمعه وهو يتلفظ بالحروف لأول مرة ثم يتدرب على النطق بالكلمات بلكنة الطفولة المعهودة، هو يقول ووطفله يردد… يراه وهو يتعلم الجلوس ثم الحبو ثم الوقوف والمشي..إ إن بكى حاول إسكاته وإن غضب حاول إرضاءه وإن لعب وفرح لعب وفرح معه، لتمتلئ حياة الأب قوة وسعادة ونشاطا وحيوية. قد يظن البعض أن الأب الذي له أكثر من ولد ربما لا يحس بهذا الحرمان لأن ما يأخذه من بعض ولده قد يعوضه عما يفقده في ولده الآخر، وهذا غير صحيح بالمرة، فمادام الأب سويا في فطرته سليما في عقله فهو في حاجة إلى أن يأخذ من كل أولاده ويستمتع بطفولتهم ويعطيهم جميعهم أيضا من حبه واهتمامه وحنانه ولن يستغني عن بعضهم ببعض ولن يستغني عنهم بغيرهم أبدا. ولا أتصور أبا سويا يعيش حياة طبيعية في غياب علاقة طبيعية مع أولاده. إن هذه الذكريات مع الأولاد وخاصة في مرحلة الطفولة منها تتشكل نظرتنا لما مر من الحياة وكلما كثرت هذه الذكريات الجميلة فتحت معها أبوابا ومحطات للراحة النفسية و للسعادة بالنسبة للأب، فتذكار اللحظات السعيدة لا شك يجلب السعادة ويريح المزاج! وشتان بين أب يحتفظ بعشرات الذكريات من طفولة ولده ويستطيع استحضار شريط الطفولة كاملة بتفاصيله وبين أب لا يذكر شيئا من طفولة ولده ولا يستحضر شيئا من ماضيه المشترك معه أثناء هذه المرحلة وكأنه ما تعرف عليه إلأ بعدما تجاوز مرحلة الطفولة! إن سعادة الأول بولده تفوق سعادة هذا الأخير بكثير. من هنا تعلم أيها الولد أنما تحسه من تقصير أبيك في حقك هو في الحقيقة تقصير في حق نفسه، لأنه إن كان حرمك من معيته في طفولتك بشكل كلي أو جزئي فقد حرم نفسه أيضا من معية طفله –الذي هو أنت- بنفس الشكل ورما قاسى من هذا الحرمان ما لم تقاسه أنت. هذا بالإضافة إلى أن هذا التقصير قد تكون له ظروف وملابسات أملته خارجة عن إرادة واختيار الأب، فلا تكن قاسيا على أبيك!