يشكل الفكر الاجتماعي عند علال الفاسي إحدى الأسس الفكرية التي يبني عليها هذا الزعيم والعلامة نظريته في الدولة والمجتمع، إلى جانب الفكر السياسي والفكر الاقتصادي والفكر الديني والفكر الوطني. وسنحاول التركيز على منطلقات وأسس هذا الفكر الاجتماعي في سياق هذه الظروف التي يمر منها العالم والمغرب وهي ظروف جائحة كورونا، والحاجة الملحة لإقرار مراجعات حقيقية فيما يتعلق بالتوجهات والاختيارات المفرطة في الليبرالية على حساب الحاجات الأساسية للمجتمع، كما سنسلط بعض الاضواء على الفكر الاقتصادي عند الزعيم علال الفاسي، باعتبار العلاقة الجدلية والمصيرية التي تربط الاقتصادي بالاجتماعي في فكره. و الفكر الاجتماعي عند علال يركز على ضرورة تحرير النفس من الأنانية و من طغيان المصالح الفردية، وتحرير المجتمع من سيطرة النزعة الفردانية، وبالمقابل يدعو إلى اعتماد روح التكتل والتعاون والتماسك والتضامن الاجتماعي كمنهج في الحياة، والانصهار في بوثقة الروابط والصلات التي تشكل الجماعة و القبيلة والمدينة وبالتالي الدولة، على أن تكون هذه التكتلات الجماعية في خدمة الفرد. ويعتبر تثبيت القيم الوطنية وأخلاق الإسلام في الحياة العامة ، وتقويتهما في المجتمع، عن طريق نشر الوعي بالحقوق والواجبات، و نشر العلم ومحاربة الجهل ، ونبذ التفرقة والولاءات لغير المصلحة العامة وللدولة، والالتزام بالوجدان العالي، وبروح التكتل، و تكوين الحس الوطني والحب القومي، من المحددات الأساسية في المشروع الوطني عند علال الفاسي الذي دعا في هذا السياق إلى القيام بالتجديد الديني، وبالثورة على بعض المعتقدات الخاطئة، وبمحاربة الطرقية والخرافات والشعوذة و بعض العادات والتقاليد التي تكرس التخلف والجهل بحقيقة الدين. فعلال الفاسي دافع عن تبيئة التفكير الاجتماعي الذي يجب ان يستمد عناصره من البيئة الاجتماعية ، على أساس أن يقوم بوظائفه في تفكيك الاختلالات الاجتماعية و إحداث القطائع الضرورية مع أسباب تخلف المجتمع و مع مظاهر الفساد العام، و إبداع الحلول لإصلاح المجتمع والدولة، بعيدا عن الانغلاق على الذات، و الانفتاح على تجارب الآخرين والاقتباس منها ، بما لا يتعارض مع مقومات الأمة المغربية وثوابتها . و التفكير الاجتماعي عند علال الفاسي هو تفكير أخلاقي بالدرجة الأولى بمرتكزاته الدينية ومنطلقاته العقدية، يخضع الظاهرة الاجتماعية للدراسة والتحليل والنقد، انطلاقا من سؤال مقاصد الشريعة ومن الكليات الخمس ، حفظ الدين ، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وهو دائما ينشد المثل الأعلى ، وفي هذا الإطار يقول علال الفاسي في كتابه “احاديث في الفلسفة والتاريخ والاجتماع” : أن “التفكير الاجتماعي ينبغي ان يتخد من العقيدة الاساس والمنطلق لأنها ستكون معيار الحكم على الأشياء” ويضيف في الصفحة 142 “لا نتسطيع تكوين فكر اجتماعي منفرد حول مشكلة ما إلا اذا وضعناها في اطار فكرنا الاجتماعي العام الذي يقوم على عقيدة وعلى خلق”. و يرى علال الفاسي أن البناء الاجتماعي يتطلب الوحدة الاجتماعية الكاملة، التي تتحقق بالاندماج الاجتماعي للأفراد في المجتمع وفي تقوية الروح الوطنية وحس الانتماء للوطن، ويحذر من النزعات القبلية أو السلالية التي من شأن إثارة نعراتها أن تهدد تماسك الدولة والمجتمع، ويركز على دعم وتقوية الهوية الوطنية في مواجهة الاستيلاب وعلى العناصر الموحدة للأمة والتي تشكل الذات والإنسية المغربية، في مواجهة دعوات التفرقة والتمييز. ويعتبر الزعيم علال الفاسي أن الأسرة أو البيت، أو ما كن يصطلح عليه بالوطن الصغير، هو النواة الأساسية للمجتمع والذي ينبغي أن تحظى باهتمام كبير من الدولة، ففي صلاحها يكون صلاح المجتمع وتماسكه، لذلك فقد دعا إلى إصلاح أحوال الأسرة والمجتمع عن طريق محاربة الجهل والتخلف واعتماد تعليم عصري تؤطره القيم والأخلاق الإسلامية مع اعتماد الاجتهاد والعقل و الانفتاح على روح العصر لأنه يعتقد أن أسمى غايات إعمال العقل هو الوصول إلى الحقيقة الإلهية. كما دافع عن حق الأفراد في الخدمات الصحية ذات جودة وجعل ذلك من المسؤوليات الأساسية للدولة، وللتذكير فقد تحدث الزعيم علال الفاسي بإسهاب في كتابه النقد الذاتي ص 394 عن الحجر الصحي وقواعده والآليات الاحترازية من الأوبئة، حيث يقول ” ومقاومة هذه الأمراض والقضاء عليها أو التخفيف منها بمنع انتشار عدواها واجب على الحكومة وعلى كل فرد من أفراد المجتمع، فيلزمهم جميعا Hن يتعاونوا على تحقيق ما تقتضيه القواعد الصحية من تدابير، ومن أهمها حجر المصابين بالأمراض المعدية وعزلهم عن الاتصال بالناس وإيوائهم في مصحات تتوافر فيها شروط الصحة والنظافة وأسباب الراحة، وتعقيم الغرف والأدوات التي يعرض تلوثها بجراثيم المرض المعدي، وتعميم الرش بالمواد المعقمة وقت الوباء في سائر الجهات .. فالمشاكل الاجتماعية عند علال الفاسي مترابطة ومتشابكة مع بعضها البعض وتكون اساب ونتائج لبعضها في نفس الوقت يرى مثلا ان البغاء يجر الى مشكلة الفقر والغنى وهذه تجر لأمر توزيع الثروة وتنظيم الموارد . ويجر ايضا الى قضية الصحة ووسائل العلاج كما يجر الى امر الاسرة والتعليم إلى غير ذلك من القضايا. ويؤكد علال الفاسي على مفهوم دولة الرعاية الاجتماعية التي ينبغي أن توفر الحد الأدنى للخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة مجانا لأفراد الشعب، لضمان العيش الكريم للعمال والفلاحين و وللفقراء والمحتاجين. وفي معالجته لمشكلة الفقر يرى علال الفاسي انه نتاج ظلم المجتمع وسوء توزيع الثروة، وأن ضمان الحد الادنى للعيش الكريم واجب على المجتمع والدولة، ونادى بالحق المعلوم للفقراء في أموال الاغنياء انطلاقا مما تمليه التعاليم الإسلامية والنصوص القرآنية التي تقر بأحد الحقوق الاقتصادية والمالية ، وهو الحق في الزكاة. على أن تؤخد من الأغنياء وترد على الفقراء ويدافع علال الفاسي على هذا الحق لا باعتباره صدقة اختيارية ولكن كركن أساسي من أركان المجتمع الاسلامي . ودعا علال الفاسي إلى إحداث الثورة الفكرية وإلى تطهير المجتمع من المعتقدات الخاطئة التي يتم توارثها، والتحرر الفعلي من خرافات الماضي وأباطيل الحاضر، وإصلاح أحوال المجتمع، وإقامة العدل والمساواة بين أفراده. وكان من المناصرين الأوائل لقضايا المرأة، وتصدى لمختلف أشكال الحيف والتمييز التي كانت تتعرض له، ودعا إلى الاهتمام بالفتاة، وضمان تعليمها وتخليصها من القيود والتقاليد الاجتماعية البائدة ، ودعا الى النهوض بأوضاع المرأة وتمتيعها بجميع الحقوق ،وانخراطها في الحياة العامة إلى جنب الرجل. و أبدع علال الفاسي في صياغة رؤية جديدة في الفكر الاقتصادي والاجتماعي، وهي التعادلية الاقتصادية والاجتماعية، كخيار ثالث لا هي بالشيوعية الشمولية ولا بالليبرالية المتوحشة، في ظل سياق دولي اتسم بالصراع والقطبية بين هاتين الأخيرتين. لقد دافع علال عن حرية التملك والحق في الملكية الخاصة كإحدى الحقوق التي أقرها الإسلام والمواثيق الدولية ” وحصرها في غير ما يتوقف عليه الجميع”، أي أن الملكية الفردية لا ينبغي أن تكون في المسائل العامة ، كما دافع عن القطاع العام وملكية الدولة لوسائل الإنتاج وعن عن الملكية المشتركة ، “فلا ملك لأحد على الماء والكلأ والحطب وكل ما هو موزون وهي المعادن والوقود والسوائل والغابات والمراعي العامة”. ونادى إلى إقرار اقتصاد تعادلي تتكامل فيه أدوار القطاع العام مع أدوار القطاع الخاص، بالإضافة إلى الاقتصاد المختلط. وفي هذا السياق دعا رحمه الله في مؤلفه “المذاهب الاقتصادية” إلى التحرر الاقتصادي والاجتماعي، وإلى الحد من التبعية للخارج، وتحقيق الامن الغدائي والاكتفاء الذاتي، عبر سياسة إصلاح الأراضي الفلاحية ومغربتها، ودعم الفلاح المغربي، وتمكينه من حق استغلال الأرض ومن وسائل الإنتاج. كما دعت التعادلية إلى تقليص الفوارق المجالية والفوارق الطبقية، والعمل على تقوية الطبقة الوسطى، والارتقاء بالإنسان و تمتيعه بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ومحاربة الجهل والتخلف، وإلى ضمان تكافئ الفرص بين أبناء الشعب، و النهوض بالتعليم العمومي ، ودعم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وتقوية التعاونيات لما تتوفر عليه من قيمة كبرى على أساس العمل والجهد المشترك، وعدم رهن الاقتصاد فقط بالرأسمال . و يقف علال الفاسي في كتاباته على قضية محورية على مستوى تقاطع الاقتصادي والاجتماعي، ويعتبرها من أهم مشاكل المجتمع وهي قضية توزيع الثروة و بروز نظام اقتصادي تسيطر فيه طبقة خاصة من الناس على وسائل الانتاج و تقوم بالاحتكار واستعباد الطبقة العاملة من طرف الاغنياء وازدياد الثراء الفاحش وغير المشروع . ويقول الزعيم علال الفاسي ” إن المشكلة الاجتماعية العصرية كلها تتلخص في هذا الاحتكار المشؤوم للثروة في يد أقلية ضئيلة لم تكسب متاعها بالطرق التي شرعها الله وقبلها العقل، …وينبهنا إلى خطر الرأسمالية المتوحشة وآثارها على حرياتنا وعلى استقلالية قرارنا، بفعل جشع الرأسماليين، ومحاولة إغراء المفكرين والقادة والمثقفين وغيرهم بالمال حيث يقول “إن الحرية التي ننشدها لا تبقى لها قيمة إذا كنا عبيدا للمصالح التي يشركنا هؤلاء الماليون في بعض فوائدها إغراء لنا ودوسا علينا حتى نصبح حلفاءهم فيما يقصدون إليه من تعبيد اقتصادي لأمتنا واستغلال خالد لثرواتنا.” ويضيف علال الفاسي أن “الاسلام قرر مبدأ التضامن العام بحيث أوجب مسؤولية كل جماعة مباشرة عمن يقتلهم الجوع وجعل ذلك مسؤولية جنائية”. و ناهض علال الفاسي احتكار الثروة من طرف فئة خاصة، و الربا و تكديس الأموال ووجود فئة خاصة تمتاز بوفرة ثرائها مقابل جماعة اخرى فقيرة .قال تعالى * كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم*. كما دعا إلى مواجهة الاحتكار واعتبره فعلا محرما إلا لضروريات الحياة، والمنافسة غير المشروعة، والتواطئات في البيع وفي تحديد أسعار السوق. لذلك يرى علال الفاسي في كتبه أحاديث في الفلسفة والتاريخ والاجتماع أن القضية تستدعي حصول وعي اجتماعي للمطالبة بالعدل، ثم قيام تعاون بين الحكومة والشعب لإحصاء ممكنات الثروة الوطنية، ووسائل تعميم الاستفادة منها للجميع عن طريق ايجاد العمل وتسهيل وسائله وايجاد التشريعات التي تحمي الصناعة بقدر ما تحمي العمال. ويشكل الوقف أحد المواضيع الأساسية التي يركز عليها علال الفاسي حيث دافع عن نظام الوقف كمكون أساسي من مكونات الاقتصاد الإسلامي، والذي يجعل الموقوف ملكا للطائفة الاسلامية تستغله لفائدة أعمال البر او المعرفة او غيرها مما تقتضيه المصلحة العامة ومما لا يختلف مع مقاصد الواقفين.كما كان يدعو إلى التطوع لإقامة المشاريع ذات المصلحة العامة، على غرار ورش طريق الوحدة. تشكل العدالة الاجتماعية مكونا أساسيا في الرؤية التعادلية، لذلك نجد علال الفاسي ينادي بالتوزيع العادل للثروات ، وبالمساواة في الحقوق والواجبات، وبالإنصاف الاجتماعي والمجالي، وكان يطالب بالقطع مع منطق المغرب النافع والمغرب غير النافع. ويمكن القول أن التعادلية الاقتصادية والاجتماعية تجد مرجعيتها الأساسية في أسس الاقتصاد الإسلامي الذي كان علال الفاسي يعتنق مذهبه ويدافع عن فلسفته في إطار إعمال الاجتهاد و البعد المقاصدي بما لا يحرم حلالا أو يحلل حراما.