في إطار النقاش الدائر حول توزيع التركة(4) الإرث ونهاية الملكية الفردية بين الإسلام وغيره من الشرائع والقوانين..؟ لقد أثار مقال الأستاذ الدكتور العروي في موضوع النقاش المثار حول أنصبة الورثة بالإضافة إلى الحالة التي استشكلها بعض الناس والتي لم تكن المرة الأولى التي أثيرت فيها، فعندما بدأ الساعون إلى إيجاد منفذ للطعن أو إثارة الشبه حول الشريعة الإسلامية كانت قضية المرأة في المقدمة وليس موضوع أنصبة الإرث وفروضه إلا جزء من كل، فالمرأة ومكانتها في الشريعة الإسلامية أو في الإسلام هي من أوائل ما اتجه إليه هؤلاء المتصيدون للشبه، وذلك أنهم بعدما اتجهوا إلى أصول العقيدة ولم يجدوا إليها منفذا ولا سبيلا للنيل منها، لأنها من حيث ما هو موجود لدى الناس من أديان وعقائد سواء السماوية أو الوضعية كانت العقائد الإسلامية ولا تزال عقائد بسيطة وواضحة ومتجاوبة مع الفطرة والعقل المنسجم مع هذه الفطرة، وليس فيها من الأسرار والطلاسيم المعطلة للعقل ما ألحقه بعض رجال الدين والكهنة بالعقائد الأخرى، إذ الإسلام ورسول الإسلام جاء ليصحح هذه العقائد ويعود بها إلى الأصل الأصيل وهو التوحيد، وقد كفانا القرآن الخوض في هذا الموضوع فمجادلة القرآن لأهل الكتاب ولغيرهم من دعاة «إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر» واضحة الحجة قوية المنطق قاطعة لكل جدال. ويوجد في كل عصر وفي كل وقت من هو على هذه الشاكلة سنة الله في خلقه «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» فلا إكراه ولكن الجدال والصراع بين الإيمان وغيره قائم. وقد اقتنع المنصرون والمستشرقون أنهم في هذا الباب لن يحققوا نجاحا يذكر ويؤبه له ولذلك اتجهوا إلى إثارة الشبه لعلها تلقي بظلال على السلوك لدى الناس في ديار الإسلام، ومن ثم الانزلاق نحو وضع آخر في مجال التشريع والفقه وبالتالي الانحراف عن الأصول والفروع. وإذا كانت المرأة ركنا أساسا في بنية المجتمع إذ هي أس الأسرة فإن أمر التشكيك اتجه إلى هذه الوجهة وكان أمر السفور والبرقع ميدانا خصبا لإشغال الناس منذ بداية القرن وبالأخص منذ خرج على الناس قاسم أمين بكتابيه حول (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة)، وقد احتدم النقاش ولا يزال حول هذا الموضوع وبصفة خاصة عندما عادت المرأة من تلقاء نفسها إلى اختيار لباس الحشمة، والذي تعتبره عن قناعة يناسب ما جاء به الإسلام من نبذ التبرج، ولا حاجة إلى الحديث عن هذا فقد قال فيه الناس ولا يزالون الكثير ولن ينتهي الجدال فيه أو على الأقل لا يظهر أنه ينتهي قريبا وما انتهى الناس من هذا حتى جاءت مسألة الأسرة والطلاق والتعدد والنفقة وغير ذلك مما يثيره الكثيرون مثل شهادة المرأة ودية المرأة وغير ذلك مما هو في الواقع شغل للناس بأمور تجد الحلول لها في سياق الحياة وتطورها وتطور الإنسان في فهم مقاصد الشرع وأهدافه في بناء مجتمع قائم على عقائد واضحة وأسرة متماسكة متضامنة وفق تشريع عادل يعطي لكل ذي حق حقه، فالأسرة التي هي عماد المجتمع إذا لم تكن قواعدها راسخة مرتكزة ليس على القانون فقط لأن القانون يسعى الناس بوسائلهم الخاصة للتحايل عليه، ولكن مع القانون والحرص عليه لابد من وعي مبني على رقابة الضمير المبنية على الحياء من الله للخروج على أحكامه. وإذا كان أمر الإرث ومكانة المرأة فيه في الشريعة الإسلامية من أعدل وأقوى مراعاة للحقوق بالنسبة للمرأة وغيرها، وفي سياق هذا النقاش الذي أثير للانحراف بالمعركة الحقيقية التي يجب أن يتفرغ لها الناس وهي مواجهة التخلف الاقتصادي والاجتماعي، وإيجاد الحلول وابتكار المبادرات جاءت هذه الإثارة لتزيد من قناعة المقتنعين وتقنع من لم يقتنع بنضوب معين المبادرة لدى الكثير من النخب في مغرب العقد الثاني من الألفية الثالثة، وعلى أي حال فإن هذا الحديث تخصصه لمواصلة مناقشة موضوع الإرث من حيث هو والحفاظ على الملكية والتراكم كما ورد في مقال الدكتور العروي: فالثروة لا تتفتت. بهذه الجملة ختم الدكتور العروي تعقيبه على ما نقله الغربيون عن القانون الروماني من إعطاء الثروة كلها لأحد الأبناء أو غيره بناء على وصية الهالك أو المتوفي وقد أوضحنا في الحديث السابق أن هذا النقل ليس على إطلاقه وإنما هو أحد الخيارين في التوريث إما الوصية وإما تطبيق القانون الذي يحدد كيفية توزيع التركة في حالة عدم وجود الوصية، وتحدث الدكتور العروي على ما جاء في المدونة من إصلاح قائلا: مظاهر إيجابية «فإذا كان هذا الإصلاح ضروريا، وهو توريث بنت البنت، حيث أن له مظاهر إيجابية فإن له مظاهره السلبية الواضحة. ولم ينتبه أحد إلى ذلك إلى الآن, حيث إن الواقع اليوم، حسب القانون الجديد الذي أؤكد أنه ضروري وصالح واصفق له، لكن نتيجته أنه في المستقبل إذا كان الإرث يتطلب خمسين سنة لكي يفصل فيه، فالآن سيتطلب مائة وخمسين سنة. لأن أولاد البنت لهم أسماء خارجية ليسوا من داخل العشيرة أو القبيلة، ولهم مصالح مختلفة وبعضهم ربما في كندا أو في سويسرا أو في ألمانيا... وجمع هؤلاء والفصل في الإرث سيصبح غير ممكن» . رد الفعل ويضيف الدكتور بعد ذلك أنه خاطب علال الفاسي في الموضوع حيث قال:«وبما أن الرأسمال مبني على الرأسمال المكون، ففي البلدان التي أخذت القانون الروماني طورته في اتجاه سلطة الفرد بما انه صاحب الحق فيما ملك. وطبعا حينما كنت أقول هذا لعلال الفاسي كان يقول لي لا.. لا..لا. الملكية للجميع وليست للفرد وقد كتب ذلك غير أن علال الفاسي لم ينتبه لهذه القضية، وهي أنك إذا لم تعط حق التصرف في ملكية لمالكها لا يمكن أن تربي رأسمالا ذاتيا يمكنه هو فيما بعد ان يتطور جيلا بعد جيل». اللبرالية وإنتاج الثروة لاشك أن الدكتور في هذه الفقرة يخلص لتوجهه حول ضرورة إنتاج الثروة وتكديسها وتحقيق ليبرالية كاملة وهذا بناء على نظرية معروفة وهي التي ارتكزت عليها الليبرالية والرأسمالية الغربية وهي نظرية من يعرف عند الغربيين بأبي الاقتصاد الحديث (آدم سميث) في كتابه ثروة الأمم. الذي عرف الاقتصاد على أنه «علم الثروة الذي يختص بدراسة وسائل اغتناء الأمم». والملاحظة التي ترد على هذا التعريف أنه ركز على جمع الثروة والغناء وعلى الأسباب المادية التي تعتبر وسائل جمع الثروة دون العناية بحاجات الإنسان المعنوية. تعريف الاقتصاد ولعل هذا ما جعل الاقتصاديون الذين جاءوا من بعد يدخلون الجانب الإنساني واحتياجاته المادية والاجتماعية في الحسبان ولاشك أن الاقتصاديين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ذووا التوجه الاشتراكي أو الاجتماعي والإنساني لا يقرون هذا المنحى وإنما يرونه غير عادل وغير إنساني ولذلك ادخلوا هذه الجوانب في تعريف الاقتصاد. وقد أورد الدكتور صالح حميد العلي في كتابه حول توزيع الدخل تعريفا جاء فيه: «هو العلم الذي يبحث في كيفية إدارة واستغلال الموارد الاقتصادية النادرة لإنتاج امثل ما يمكن إنتاجه من السلع الخدمات لإشباع الحاجات الإنسانية من متطلباتها المادية التي تتسم بالوفرة والتنوع في ظل إطار معين من القيم والتقاليد والتطلعات الحضارية للمجتمع وهو أيضا العلم الذي يبحث في الطريقة التي يوزع بها هذا الناتج الاقتصادي بين المشتركين بصورة مباشرة في ظل الإطار الحضاري نفسه» توزيع الدخل في الاقتصاد الإسلامي والنظم المعاصرة ص:30). ولاشك أن هذا التوجه هو الذي أملى على علال الفاسي موقفه من الملكية وكيفية تدبيرها فكان رده على الدكتور العروي بتلك اللات المتكررة. الاقتصاد والربا لقد كتب علال الفاسي كثيرا من الأبحاث والدراسات في موضوع الملكية ودورها من خلال ما جاء في كتب الفقه الإسلامي، ومن خلال دراساته لما تركه الاقتصاديون في الغرب، ومن نحا نحوهم من الباحثين والدارسين العرب والمسلمين وكتاباته في هذا الباب متنوعة وموزعة على كثير من المؤلفات والدراسات والخطب على امتداد اشتغاله العلمي والوطني، ومن بين ما عالجه في هذا الموضوع الربا وحكم الشريعة الإسلامية في المعاملات الربوية، وإذا رجعنا إلى كتابه (الأم) النقد الذاتي وجدناه في موضوع الملكية العقارية وبصفة خاصة ملكية الأرض كتب باستفاضة في الموضوع وشملت تحليلاته وكتابة في هذا الموضوع أولا: ملكية الأرض في الإسلام وثانيا: ملكية الأرض في الغرب في المغرب وبهذه المناسبة نأتي بنبذة عن هذين الأمرين: الوظيفة الاجتماعية وقبل الإشارة إلى بعض ما كتبه المرحوم علال الفاسي لابد من التذكير أنه: يرى أن الملكية لها دورها ومكانها ووظيفتها الاجتماعية لتحقيق العدل في توزيع الثروة بما يحقق الرخاء والعدل بين الناس وإذا كان الدكتور العروي لا ينفي العدل عن نظام المواريث في الإسلام ويرحب بالإصلاح الذي تحقق فلماذا إذن الإصرار على تقليد الغير من أجل تكديس الثروة واعتبار عدم هذا التكديس معيقا للتحديث وقد تناولنا هذا الجانب في الحديث الماضي ونعود اليوم لبسط موقف علال من الملكية تجاوبا مع ما أشار إليه الدكتور العروي عندما قال: أن علال قال له لا لا لا الثروة للجميع وليست للفرد وقد كتب ذلك إلا أنه لم ينتبه أن التصرف بعد الموت في الثروة يشجع على ضياع الرأسمالية». الوصية والعدل والواقع أن هذا في حد ذاته فيه نظر والتساؤل ما الذي يشجع الإنسان هل هو ترك أبنائه جميعا وورثة في حالة وفاته أو تركهم في حالة عسر وقد أجاب الرسول عليه السلام في هذا الباب ذلك الصحابي الذي سأله هل يوصي بكل ما له فقال لا قال النصف قال لا، قال الثلث، قال الثلث والثلث كثير أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس، أو كما قال: ملكية الأرض في الإسلام كتب علال الفاسي في النقد الذاتي تحت العنوان أعلاه وهو يتحدث عن ملكية العقار في الإسلام. نريد من هذا العرض الموجز أن نقرر أصل الملكية العقارية في الإسلام مبدئيا، وأن العقار من حيث هو يمكن أن يكون ملكا للأفراد أو الطوائف أو للحكومات. ذلك هو الأصل في التشريع الإسلامي على تفاصيل لا محل لذكرها، لأن مرجعها كتب الفقهاء. ولكن ملكية العقار وخاصة الأرض منه حدث لها تطور كبير أثناء الفتوحات الإسلامية، فأصبحت الأرض من حيث هي تقسم بحسب ما يطبق عليها من الأحكام التي تقتضيها مصلحة الدولة أو مصلحة الطائفة الإسلامية». منع التكديس واستعرض باختصار موقف الخلفاء والخلفية التي تحكم ما قرروه في الموضوع. وهو أن لا تكون الملكية أداة لتكديس الثروة في يدفئة معينة من المسلمين وهكذا نرى أنما يدعو إليه الدكتور العروي هو في الأساس مما تأباه النظرية الإسلامية في الملكية وفق اجتهاد الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم من فقهاء المسلمين وولاتهم، ولاشك أن هذا ينسجم مع فكرة محاربة الإقطاع بمعناه الأوروبي ومحاربة استغلال الأرض من لدن فئة يؤدى بها ذلك فيما بعد إلى استغلال المسلمين وفرض التحكم عليهم بسبب الثروة وما ينتج عنها من ترف وبعد ذلك من طغيان وفي هذا يقول: «وقد راعى الخلفاء في هذه الاعتبارات عدم تكتل الأموال والأملاك في يد الطائفة القليلة من المسلمين المنتصرين، فقد روي عن عبد الله بن قيس الهمداني أنه قال: «قدم عمر الجالية فأراد قسم الأرض بين المسلمين فقال له معاذ: والله إذن ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة الواحدة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا وهم لا يجدون شيئا، فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم». مخاطر الثراء الفردي ويعلق علال الفاسي قائلا: ومعنى هذا أن معاذا نصح عمر فاقتنع بنصيحته خوفا من أن تتجمع أراضي الفتوحات كلها في يد أقلية تؤول بعد إلى فرد واحد وأفراد يعدون على الأصابع ويبقى المسلمون فقراء أمامهم، وهي فكرة سديدة في الحيلولة دون تكون الملكية الضخمة التي كانت السبب في كل ما نشأ من عوامل الضعف في العالم اجمع. وقد روى أبو عبيد في كتاب الأموال عن إبراهيم التميمي قال: «لما افتتح المسلمون السواد قالوا لعمر: اقسمه بيننا، قال فأبى وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين!؟». التوجيه القرآني ويعلق علال الفاسي على هذه الفقرة بقوله:مما لاشك فيه أن الأمر هنا واضح من بطرية تدعو إلى تكديس الثروة وأخرى تدعو إلى فتيتها وذلك من أجل عدم الوصول إلى ما وصل إليه الكثير من المجتمعات الإنسانية في عصور مختلفة، وهذا في الواقع يساير النظرية القرآنية إلى المال وأن أصحابه الذين يصيبهم الترف في غالب الأحيان كما ورد في القرآن يؤدي بهم الأمر إلى البطر وقمع الناس وتركهم قرية للفقر والحاجة وهو ما لا يريده الإسلام وما حاول الخلفاء بكثير من التدابير تجنبه. وبعد هذا يتحدث الأستاذ علال الفاسي عن الملكية في العالم الإسلامي فيما بعد وذلك بعد التحليل المستفيضة لتطور الملكية العقارية ووصل إلى الخلاصة التالية: الخلاصة ويستخلص علال الفاسي خلاصة بعد التحليل والعرض كما يلي:«والخلاصة التي نستفيدها من هذا التقسيم هي أن الأرض الموجودة في العالم الإسلامي تنقسم إلى قسمين: أرض مملوكة للأفراد، وأرض مملوكة للطائفة الإسلامية. وهذه الأخيرة تعتبر بمثابة الوقف وهي بذلك لا تقبل التفويت، ويعتبر الإمام أو الحكومة بمثابة الحارس الناظر في شأنها كوقف لا ملك له عليه، ولكنه المسؤول عن تدبير مداخله وصرفها في مصالح المسلمين. وقد بين (الماوردي) في «الأحكام»: أن هذه المداخيل تصرف على المصالح العامة كتقوية الجيش وبناء القناطير والطرق وبناء المساجد والمعاهد. قال الماوردي: «ولا يمكن أن تباع هذه الأرض لئلا تنقطع منفعتها، وإنما يمكن بيع ما عليها كالبناء والأشجار». استنتاج: والحد من الثراء الفاحش «وهكذا يمكننا أن نستنتج كون الخلفاء المسلمين حاولوا بقدر المستطاع أن يحولوا بالوسائل غير الشديدة دون تضخم ملكية الأرض للمسلمين أو غيرهم، وبذلوا كل الجهود لأن تكون مصادر الثروة ذات الموارد العظيمة عائدة النفع على الجماعة الإسلامية كلها دون أن يمنعوا من أصل الملكية الفردية، ولكن الواقع أن ذوي الأمر من بعدهم لم يخلصوا في تطبيق الغايات السامية التي قصدها الأولون حتى اختلطت أنواع الملكيات وامتزج المال الحلال بغيره، ولم تعد هنالك إلا فوضى عامة في نواحي الاقتصاد كما هي في نواحي الحكم والإدارة. وبذلك فإنه لا يمكن الرجوع الحقيقي لأصل الإسلام إلا بإعادة النظر في توزيع الثروة العامة والملكيات على أساس جديد يتفق ومبادئ الدين المحمدي وأصوله التي تمتاز بروح اجتماعية لا نظير لها في الديانات الأخرى». الخروج عن المصلحة وهنا نجد علال الفاسي ينبه بأسلوب قوي على ما حصل فيما بعد ذلك من التلاعب بالملكية من طرف أناس لم يراعوا الأسس التي انبنى عليها في البداية أمر الملكية العقارية لأنهم تأثروا بالأهواء والمصالح الآنية والذاتية وخرجوا بذلك عن المصلحة العامة للإسلام والمسلمين والتي كان يجب أن تكون هي الهدف والغاية والقارئ لهذه الفقرة يدرك مدى حرص الرجل على إصلاح أحوال الأمة عن طريق العودة إلى المبادئ والأصول التي عالج من خلالها الأولون أمور الأمة في مجال الملكية كما في غيرها ومن طبيعة الحال فإن هذا ليس معناه الجمود والوقوف مع ما كان دون مسايرة التطور والتفكير والاستفادة مما جد بين الناس من نظريات وأفكار. الأمر الثاني: ملكية الأرض في المغرب تحت هذا العنوان تساءل علال الفاسي من أي انوان الأرض تعد الأراضي المغربية وأورد بعد ذلك التوجه المالكي في هذا الأمر وهو أن ملكية الأرض في المغرب كلها للدولة ليتساءل بعد ذلك: أول مسح للأرض متى خرج التصرف في هذه الأراضي من يد الدولة؟ وكيف كان ذلك؟ ينص التاريخ على أن (عبد المؤمن بن علي) الموحدي أمر سنة 554ه الموافق 1159م بمسح أملاك الدولة في المغرب وافريقية (تونس). وهكذا وقع قيس المملكة من «بلاد برقية. إلى «وادي نون» طولا وعرضا بحسب الفراسخ، ولم يشذ عن ذلك الا نحو الثلث من الأراضي المليئة بالجبال والأودية والصحاري. وبعد أن تم المسح وقع تقسيم البلاد على القبائل وفرض عليهم الخراج ويقول (ابن أبي زرع): إن ذلك كله كان لأول مرة في المغرب. اجتهاد وعليه ففي القرن السادس الهجري وقع اجتهاد الخليفة في إبقاء الأراضي بيد الأهالي مقابل خراج يؤدونه بمثابة الكراء. وقد استمر الحال على ذلك، ثم وقع انقلاب لاشك بحسب التطورات السياسية والاجتماعية والثورات المتعاقبة واختلاف العائلات المالكة حتى أصبح هذا الخراج عبارة عن ضريبة أو (نايبة) فلم يعد أداؤه مقبولا من طرف الرعية لأنه خرج عن غايته الأولى، ثم وقع تطور في فكرة الملكية وتجوهل الأصل الأول في حيازة هذه الأراضي وعلى كل حال يمكننا أن نجتزئ الآن بالوضعية التي وجدت عليها في المغرب في أخر عهود الاستقلال، وهي أن الملكية تنقسم إلى خمسة أقسام: 1 – ملكية "المخزن" (الدولة). 2 – ملكية الجماعة. 3 – ملكية الجيش. 4 – ملكية الحبس (الوقف). 5 – ملكية الافراد. التعادلية هذه خلاصة لما كتبه الزعيم علال الفاسي حول الملكية العقارية التي أثارت مشكلة ضياعها في نظر الدكتور العروي خوفه من إعاقة التحديث والواقع أن وجهة نظر الدكتور العروي أساسها للبرالي غربي ولا يمكن أن ينسجم مع ما يراه العلماء والاقتصاديون الذين يراعون الجانب الاجتماعي الذي رعاه الإسلام وهو ما ذهب إليه علال الفاسي وأطلق على هذه الأفكار التعادلية الاجتماعية والاقتصاد فهو لا ينظر إلى الاقتصاد منعزلا عن إيجاد الحلول للمشاكل الاجتماعية على عكس الرأسمالية الغربية وهو عندما يحمل وجهة نظر الإسلام في الموضوع يقول: حفظ التوازن رأينا كيف أن الإسلام يحفظ التوازن الاقتصادي بين أفراد الأمة، ويحد بقدر الاستطاعة من أضرار الثروة وطغيان المال، ورأينا كذلك كيف يعمل على توزيع الثروة التي ينجح الفرد في جمعها، وذلك بمنعه من الاحتكار وإبعاده عن التوفير عن طريق الزكاة وغيرها من الأداءات الواجبة على الأموال أو على العروض، ولكن الإسلام يعمل عملا آخر مهما من أجل إتمام التوزيع للثروة الفردية، وذلك هو نظام الميراث الإسلامي. تقليد وليس اجتهاد ويقارن علال الفاسي بين ما جاءت به الشريعة الإسلامية وما اختارته بعض الديانات والأمم وهو اختيار الدكتور العروي فينتقده وبين مزايا النظام الإسلامي مما بين أن الأمر ليس إلا تقليد ولا اجتهاد فيه. فبينما نجد الأنظمة الدينية والمدنية للأمم الأخرى تجعل الميراث من اختصاص الولد الأكبر مثلا استحسانا منها للاحتفاظ بتلك الثروة متجمعة، بل إن (لوبلاي) في إصلاحه الاشتراكي المسيحي اعتبر استمرار الثروة في يد الابن الأكبر ضمانا لبقاء العائلة التي يبني عليها أمله بينما نجد ذلك في الأنظمة الوضعية حتى الديمقراطية منها نجد الإسلام يجعل المتخلف ميراثا للورثة يقتسمون فيما بينهم، وهؤلاء الورثة معينون، فإذا لم يخلف وارثا قريبا أو بعيدا فإن بيت المال يرث ما تركه، وهكذا يؤول المال في النهاية لصندوق الطائفة كلها. وإن الثروة مهما كثرت وعظم مقدارها فإنها بنظام الميراث الإسلامي تتوزع بعد ثلاثة مواريث، وتصبح عامة مقسمة كما كانت قبل اكتسابها. ولم يجعل الشارع للإنسان أن يتبنى أحدا أو يوصي بأكثر من الثلث، فإن وضع أحدا موضع ولده فلن ينال في ذلك شيئا إلا في داخل الثلث مع انه أعطى للإنسان الحق في ان يتبرع بماله كله أثناء حياته إذا نجز تبرعه من غير تعقيب. العدالة الاجتماعية وينتهى علال الفاسي رحمه الله إلى القول: أليس ذلك أعظم دليل على أن الإسلام عمل كل ما يمكن من الوسائل لتحقيق العدالة الاجتماعية دون أن يأتي بالأخطاء التي تحول بين الناس وبين بذل المجهود للاكتساب؟ والإسلام لا يختلف هنا مع القوانين الوضعية في النتيجة فقط، بل هو يختلف حتى في الاعتبار الذي يعطيه للملكية. فبينما نجد القانون الفرنسي يعتبر الملكية حقا مستمرا للمالك أي ليست محدودة بوقت معين، وعلى أساس ذلك فإنه إذا مات ينتقل التصرف فيها إلى من يجعلهم ورثة له أو من يوصي لهم بها –نجد الإسلام يعتبر الملكية حقا غير مستمر، وعليه فالمالك إذا مات ينقطع ملكه بموته، ويحل محل ملكه ملك الورثة الذين تولى الشرع بنفسه تعيينهم. ويترتب على ذلك أن تصرف المريض مردود فيما زاد على الثلث إلا أن يجيزه الورثة فيكون ابتداء عطية منهم. * أستاذ الفكر الإسلامي