بعد انسحاب الولاياتالمتحدةالأمريكية من الاتفاق النووي الذي أبرم عام 2015م بين إيرانوالولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا في عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما رسميّا، اهتز الاتفاق وصار هشًّا مع عدم إظهار الأوروبيين عزيمة على التمسك ببنوده، ووجدت إيران نفسها مضطرّة إلى تخفيض الالتزام بهذا الاتفاق لتسيير أمورها الاقتصادية بعد العقوبات المجحفة في حق هذا البلد من طرف الولاياتالمتحدةالأمريكية، فأعلنت ذلك متحدّية العقوبات الأمريكية وتخاذل الأوروبيين في إيجاد حلول للمشاكل التي حدثت بعد خروج أمريكا من الاتفاق رسميا، وهي بصدد بدء تخصيب اليورانيوم في حدود 5% غدا السبت وهي نسبة أقل بكثير مما كانت تنتجه قبل الاتفاق وهي 20%. ولعل إيران تتبع سياسة المراحل في تعاملها مع الملف النووي، فلا تريد أن تصدم العالمَ بما تنتجه من اليورانيوم المخصّب ولا تريد أن تصطدم معه في مواجهة لا تعرف مداها وأضرارها على المستويين القريب والبعيد. فكلما تعنّتت أمريكا وعاقبت إيران بعقوبات جديدة ومشدّدة مع تخاذل أوروبا وصمتها المطبق لما يجري لإيران وما حولها خاصة فيما يتعلق بالاتفاق النووي، بادرت إيران إلى فتح الملف من جديد وبدأت تفكّ عُقد الاتفاق الذي لم يعد مقبولا بالنسبة إليها في الوقت الحالي أمام هذا التحدي الأمريكي الكبير والحادّ في الوقت نفسه، ويبدو أن إيران ليست مستعدة للاستسلام للماكينة الأمريكية حتى تدهسها وتقضي عليها نهائيّا بل تواصل نضالها ومقاومتها من أجل تحقيق انتصار حقيقي على الأرض، فلا تستجدي مجلس الأمن أن يتدخل، ولا تطلب من دول عظمى أن تساعدها، لأن لديها من وسائل القوة ما يكفيها لمواجهة الصلف الأمريكي الذي يزداد حدة يوما بعد يوم. وفي هذا التجاذب الإيراني الأمريكي فوائد جمة تدركها إيران جيدا ولا تدركها الدول الأخرى التي تحاربها كإسرائيل والسعودية وحتى أمريكا نفسها، فهي تتمرّن على ضبط النفس وعدم التسرع في الرد بل تتريّث بما فيه الكفاية لتحقيق نجاح دون المساس بأحد، وتتدرب على كيفية امتصاص الغضب الأمريكي المتصاعد دون الصدام المباشر مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، ويبدو أنها نجحت في هذه السياسة إلى حد الآن، خاصة وأن أمريكا في هذا الوقت بالذات تعمل على محاولات عدة لهزّ الشارع الإيراني من الداخل سواء من خلال دعم الجماعات المعارضة أو تضييق الخناق على وجودها في الخارج لتقزيمها وإنهاء تأثيرها على الدول التي تراها أمريكا خطرا على إسرائيل وهي سوريا واليمن ولبنان، بعد أن اطمأنت أن السعودية تغيرت نظرتها كليّا تجاه القضية الفلسطينية التي لم تعد قضيتها الأولى ولا قضية الدول العربية عموما، وعلى هذا الأساس تسعى أمريكا وغيرها إلى تفتيت القوة الإيرانية المتصاعدة أصلا وواقعًا أمام أعين إسرائيل التي باتت تخشى الإمبراطورية الإيرانية وتخاف من تصاعد قوّتها عندما تعلن بثبات أنها ستعمل غدا على تخصيب اليورانيوم بنسبة لا تزيد على 5%. ولعل ما قامت به إيران قد يحرّك أوروبا رغم الردود المحتشمة من الدول التي شاركت في الاتفاق، ولكن يبدو أنها إشارات ضعيفة لا ترقى إلى جعل إيران تتفاوض أو تجلس إلى طاولة الحوار لإيجاد صيغة جديدة لترميم الاتفاق النووي السابق أو السعي إلى اتفاق جديد دون الولاياتالمتحدةالأمريكية أو التأثير المباشر عليها بحكم قوتها ونفوذها في أوروبا والعالم، ويبدو أن الدول الأوروبية تتوجس خيفة أيضا من القوة الإيرانية المتصاعدة لذلك لم تصرّح بإلغاء الاتفاق نهائيا لأنها قد تتضرّر مباشرة ولم تبد رأيا واضحا للوصول إلى اتفاق جديد، وبالتالي تعرف إيران هذه الحقيقة فتضغط عليها مباشرة بتخفيض الالتزام بالاتفاق النووي 2015م رويدا رويدا وببطء وبحركة تجعل أوروبا ترشف من فنجان تخاذلها في إنقاذ ما ينبغي إنقاذه قبل فوات الأوان وقبل أن يهترئ الاتفاق النووي السابق ويضمحل وتعود الأمور إلى نقطة الصفر أو البحث عن اتفاق جديد يحفظ ماء وجهها ويعيد لها هيبتها بعيدا عن أمريكا القطب الأوحد في العالم. وهنا إيران لن تقف مكتوفة الأيدي، فهي دولة تعرف ماذا تفعل، ولديها من الخبراء ما يكفيها لدراسة الأمور بتأنٍّ وجِدّية تامّة، ولديها من الأسلحة الخفيّة ما يُرهب العدوّ، ويجعله يفكّر أكثر من مرة قبل الولوج إلى خطة محاربتها أو مواجهتها، وقد أثبتت فعلا وستثبت للعالم أنها على قدم ثابت وليست على جرف هار، تهوي به أمريكا وإسرائيل حيث تشتهي.