في قرية ” سلمة ” بالقرب من يافا، ارض البحر الممتد من خاصرة الوقت والزمن، لخاصرة النصر والشهادة، في تلك القرية العابقة بروائح الحنون والزعتر، انبثقت نجمة أضاءت الكون وأرهقت الشمس، نجمة غطت أفاق الأرض والبحر، وانتشرت في عروق البرتقال والزيتون، نجمة كانت على موعد مع النور والضياء، في تلك القرية الوادعة الرائعة، ولدت رجاء أبو عماشة، لتكون أول شهيدة فلسطينية، وأول الروائح المضمخة للتاريخ النضالي والجهادي. يحكي الناس عن ميلادها، وميلاد الأبطال يوسم دائما بروائع القصص والأخبار، فهو ميلاد غير عادي، يمر بمخاض غير عادي، ليشق الجنين حجب الظلمات بطريقة غير معهودة، يحكى انه في ذات الليلة التي كان المخاض يصارع لحظاته الأخيرة من اجل ميلاد رجاء، تدلت من السماء إشعاعات شديدة الوهج، قوية النور، بهية الألوان، رائعة الانتشار، ومن بين تلك الإشعاعات كانت تمر مخلوقات كونية بيضاء، تشد خيوط الضياء نحو الأرض، وتمعن في تثبيت النور نحو يافا، لتكدسه في قرية صغيرة مغمورة تدعى ” سلمة “، وحين استطاعت تلك المخلوقات الكونية أن تحزم نور الأرض حزمة واحدة نحو بيت تصارع فيه الأم آلام المخاض، جاءت رجاء ملفعة بنور السماء الوهاج. وتكبر رجاء، لتجد نفسها وأهلها تحت وطأة استعمار لا يرحم، فتبدأ بتحسس الأرض والزهر، تبدأ بمحادثة البراعم والعصافير، فتعرف كيف يكون العذاب، وتعرف معنى وجع الغصن الساكن في أعماق الطيور المرتحلة من غصن في سلمة إلى غصن في حيفا، تنفتح مساماتها أمام دموع الأمهات والآباء، وينفطر قلبها حين ترى حمائم الوطن مرهونة في أفق محدود بالسواد. وهجرت كما هجر أهل قريتها، تركت مكان الميلاد مفتوحا إلى أمد غير محدود، وذاقت كغيرها مرارة الترحال من موطئ القدم ومسقط الرأس، إلى مخيمات اللجوء والعذاب، فأضحت كما أضحى الكثير رقما من أرقام أمم متحدة من اجل تدميرنا وتهجيرنا وصلبنا على لوائح قوانينها العقيمة، وأقامت مع أهلها على حدود الأرض، أقامت في أريحا، حيث لا زهر ولا برتقال ولا حنون. ولكنها أحبت أريحا، بنفس القدر الذي أحبت فيه قريتها، فهذه رقعة من الوطن كما تلك رقعة من الوطن، وهذه مرفأ القلب والفؤاد كما كانت سلمة مرفأ الطفولة والميلاد. هناك، في أريحا، أدركت رجاء فداحة الرزء، وأيقنت أنها تحمل بين جنباتها عذابات المشردين والمهجرين، فارتفعت قامتها، وعرضت جبهتها، وتحركت حزمة النور المخزونة بداخلها منذ يوم الميلاد، فانطلقت كشعاع من نور تكافح وتنافح، وحلم العودة إلى سلمة، إلى موطن النور والألق يراود نفسها الصاخبة الضاجة بالنشاط والحيوية، فالتحقت بالعمل النضالي، وعرفت بين رفاقها مناضلة تزخر بالجرأة والإقدام، تفيض بالصلابة والمتانة، فكانت من مؤسسي اتحاد طلبة فلسطين في عام 1955. وتنقلت من موقع نضالي إلى موقع جهادي، دون كلل أو ملل، فكانت كالوقود للحركة الطلابية والحركة الشعبية، حتى عرف الناس اسمها في زمن يعز فيه معرفة اسم أنثى، وكانت على موعد دائم مع حزمة ضياء ميلادها، تلك الحزمة التي رفضت العودة للسماء بدون رجاء. وعلى أثر حلف بغداد، عمت المظاهرات والمسيرات مدن وقرى ومخيمات فلسطين، فسقطت رجاء شهيدة، سقطت وهي تحاول بكل عزمها وإصرارها إنزال العلم البريطاني عن السفارة البريطانية في القدس لترفع مكانه علم الأرض والتراب، علم فلسطين، سقطت بعد أن مزق رصاص الغدر جسدها الرائع المطرز بياسمين الأرض وحبق التراب، سقطت وفرح الشهادة يرقص على أساريرها الوضاءة، سقطت وعينيها تتجهان نحو كروم سلمة وشقائقها. غادرت رجاء بجسدها، فارتفع صوت الحق والنضال ” رجاء استشهدت، لكننا سنكون بمثل عطاءها “، وانتشرت هذه المقولة انتشار الرؤى في الروح بين طلبة المدارس والجامعات، بين الفلاحين والعمال، بين الأغنياء والفقراء، وخرج الآلاف يودعون أول شهيدة في فلسطين. هناك، وعلى سفح ربوة من روابي فلسطين، دفنت رجاء، ويحكي الناس أنهم وقت الدفن شاهدوا حزمة من ضياء خلاب تدخل القبر لتخرج في الليالي لتظلل التراب الندى بطلل نسائم الوطن. خميلة منسية أنت يا رجاء، غدير يمنح الحياة للوجود دون أن يأبه للثمن، فيض من الذكرى في ملامح الوطن، نبض من البراءة والشموخ في عروق الزيتون والصنوبر، هديل يغنيه الحمام، وصداحا تردده العنادل، وغناء تسكبه البلابل، نرجسة بيضاء وسط جبال فلسطين الأبية الخشنة، وطريق معبد لكل من يذكر اسمك فيقرأ على روحك الطاهرة المنيرة، قول الخالق جل شانه: ” إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ “111 * فلسطين- مخيم طول كرم