اعتدتُ كطبيب استعمال مقاربة التشخيص والعلاج في حياتي المهنية، ومع مرور السنينانْتَقَلَت هاته المقاربة لتكتسح حياتي اليومية في كل مجالاتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ولقد وجدتها مقاربة علمية صالحة في الحياة العامة كما تصلح في الميدان الطبي. عند ظهور أعراض مرضية، يكون الهاجس الرئيسي هو تشخيص المرض أو الخلل، ولهذا الأمر آليات محددة يستعملها أهل الاختصاص بمعايير دقيقة قد تأخذ وقتا وجهدا وقد يتعاون ويتشارك فيها عدة أشخاص أو فِرقُ عملٍ تستشير فيما بينها للوصول إلى التشخيص الدقيق للداء. ثم تبدأ مرحلة وضع البرنامج العلاجي الذي يتطلب كذلك تعاون المختصين المتمرسين، فيبدأ تطبيقه تدريجيا وبصرامة ودقة مع المراقبة المستمرة وتقييم النتائج، وقد يحتاج الأمر إلى مراجعة بعض القرارات أو إضافات معينة حتى نصل إلى النتيجة المرجوة. عرضت عليكم السيناريو الأمثل الذي يُفترض أن يتَّبِعه العاقلون المتزنون في التعامل مع الإشكاليات طبيةكانت أو غير ذلك، لكننا في الحياة الاعتيادية نرى أن هذا المنهاج لا يُتَّبع دائما في التشخيص الذي يكون حتما خاطئا فيُبنى عليه برنامج علاجي يؤدي إلى نتيجة سلبية، أو عدم اتباعه في مرحلة العلاج، فنضع إستراتيجية مختلة رغم علمنا بالمرض الحقيقي وتكون النتيجة كذلك سلبية بسبب سلوكنا الطريقَ الخطأ. والطامة الكبرى أننا نجد حالات نخطئ التشخيص والعلاج معا فتكون النتائج كارثية بكل المقاييس. إن المتتبع للشأن العام في المغرب في العقود الماضية يلاحظ جدلا مستمرا متعلقا بالمنظومة التربوية والتعليمية وما يعتريها من نقائص واعتلالات والحصيلة الهزيلة بعد أكثر من نصف قرن على الاستقلال، وهو ما تؤكده المراتب المتأخرة التي يحتلها المغرب في السلم التعليمي والتربوي والبحث العلمي مقارنة بباقي دول العالم رغم المحاولات المتتالية للإصلاح عبر العديد من البرامج إما عادية أو استعجالية،ومن بين المحطات والتحولات المهمة في مسار التعليم، مبادرة تعريب العلوم في المراحل الإعدادية والثانوية في الثمانينات من القرن الماضي، والتي كان يفترض أن تكون بداية لبرنامج متكامل تدريجي يشمل الجامعات والمعاهد العليا لكنه توقف ولم يَكتمل. كذلك، انتشار التعليم الخصوصي في ربوع المملكة وإعطائه أهمية خاصة أثرت على التعليم العمومي، فانتقل بعد ذلك من الابتدائي والثانوي إلى الجامعات والمعاهد العليا. ويستمر الجدل قائما حول هاته المنظومة بسلبياتها وإيجابياتهاإلى أن ظهرت في الآونة الأخيرة بشكل حاد إشكالية إعادة فرنسة المواد العلمية في الإعدادي والثانوي وإلغاء برنامج تعريبها بحجة فشل التجربة وعدم ملائمة اللغة العربية للمواد العلمية والبحث العلمي والاستجابة لسوق الشغل المغربية. لا أدعي الاختصاص في مجال التربية والتكوين لأنه بعيد عن مجال اشتغالي، لكنني وددت أن أعطي بعض الإشارات في الموضوع بناء على المقدمة التي أوردتها في مجال التشخيص والعلاج: 1- إن الخلل في المنظومة التربوية والتعليمية في المغرب واضح وأكيد لوجود الأعراض المرضية المرتبطة به، وليس المجال لتفصيلها في هذا المقال. 2- إن تشخيص الخلل في منظومة بحجم تعقيدات التربية والتعليم يقتضي إعطاؤه أولوية قصوى لا يتقدمها أي مجال آخر مهما كانت أهميته لأن الأمم والشعوب لا ترتقي وتتقدم إلا بالتربية والتعليم،ولنا في الماضي والحاضر أمثلة حية تبرهن على ذلك، فالتشخيص إذن يتطلب العكوف عليه من طرف نخبة من المختصين المغاربة من أساتذةوجامعيينوأكاديميين ومربين وعلماء اجتماعوعلماء نفس وكل من له صلة مباشرة أو غير مباشرة بالموضوع،وإعطائهم الوسائل والإمكانيات اللازمة والوقت الكافي للخروج بتقرير شامل عن المنظومة وتقييمها من كل المناحي والمجالات الصغيرة والكبيرة للوصول إلى التشخيص الصائب الدقيق. 3- بناء على هذا العمل الجبار ينبغي العكوف على وضع إستراتيجية عمل متكامل وإمدادها بكل ظروف ووسائل النجاح مع سقف زمني محدد للارتقاء بالمنظومة إلى مراتب الدول المتقدمة مع الاستعانة بالتجارب العديدة للدول التي سلكت نفس الطريق فانتقلت في زمن قياسي من دول متخلفة إلى دولة صاعدة أو متقدمة. 4- عدم اختزال هذا الموضع المعقد الكبير في الوصفة السحرية الغريبة التي تقول:إن الحل يكمن في إلغاء تعريب العلوم في التعليم الإعدادي والثانوي وإعادة فرنستها. وتعليقا على الموضوع أقول: إن من المسَلمات على الصعيد العالمي والتي لا يجادل فيها عاقل أن تقدم الشعوب في منظومة تعليمها لا يكون إلا بلغاتها الوطنية، ويكفي لذلك أن نسرد دولا متقدمة لا تتعدى لغاتها حدودها الجغرافية ومع ذلك تدرس كل موادها العلمية في جميع أسلاكها بلغاتها الوطنية، فواقع الحال يغني عن الأدلة والبراهين فمثلا: البرتغال، إيطاليا، تركيا، ألمانيا،رومانيا، كوريا الجنوبية، اليابان، ماليزيا، أيسلندا، روسيا، أوكرانيا، السويد، الدانمارك، والأمثلة كثيرة جدا. فهل يعقل أن كل هاته اللغات تتفوق على اللغة العربية من ناحية الكم اللغوي أو قابلية الترجمة والاشتقاق،والعكس هو الصحيح بشهادة علماء اللغة غير العرب، والغريب في الأمر أن هؤلاء الأجانب يحترمون اللغة العربية ويُقدِّرونها بليعكفون على دراستها ويتساءلون لماذا يحتقرها أهلها، وللتذكير فإن اللغة العربية تعتبرها الأممالمتحدة من بين اللغات الدولية الستة المعتمدة لديها. إن الجدل القائم حاليا في بلادنا والسرعة الغريبة المريبة للحسم في الموضوع رغم أهميته وحيويته، والضغط القوي من قبل فئات وتيارات معينة لإعادة فرنسة التعليم واختزال معضلة التعليم في التعريب يجعلنا نطرح تساؤلات كبيرة وعميقة حول السبب والهدف الحقيقيين من وراء هذا الحراك المحموم، وهل فعلا هو مرتبط بدافع الإصلاح التعليمي والتربوي أم له مآرب أخرى لا نعلمها،ولنا الحق كمواطنين مغاربة أن نتساءل حولها ونطالب بالإجابات والتوضيحات. إننا نشجع أصدقائنا الفرنسيين على الاهتمام والتشبث بلغتهم التي نحترمها،وجزء من مجتمعنا يتكلمُهاويتقنُها،وأن يدرسوا بها ويفتخروا بها لأنها لغة جميلة، كما نشجع جميع شعوب الأرض أن يستعملوا لغاتهم الوطنية في كل المجالات إلى أبعد المستويات،وكذلك نطالب أن نمارس هذا الحق الطبيعي الفطري المشروع كباقي الشعوب والأجناس في أن يستعمل أبناؤناوأحفادنا لغتهم الوطنية في تعليمهم بجميع مراحله مع انفتاحهم على تعلم ما استطاعوا من اللغات. إن اختزال عِلل المنظومة التربوية والتعليمية المغربية في المسألة اللغوية وجعل استعمال اللغة العربية مكمن الداء والفرنسة أساس الدواء يعتبر استهتاراً صارخاً بعقول المغاربة وإساءة لتاريخهم وحضارتهم وهويتهم وأجدادهم وأسلافهم على مر العصور، ولعباً خطيراً بمستقبل أجيالهم. إننا في طموحنا كمغاربة نحو مستقبل أفضل لأبنائنا وأجيالنا يجب أن نتحلى بالموضوعية والجدية، ونستشعر عظم المسؤولية في البحث عن الحلول لمشاكلنا وفي وضع استراتيجيات العمل والتخطيط للمستقبل مستعملين الأدوات الحديثة والإمكانيات اللازمة، واضعين نصب أعيننا من قبل ومن بعد المصلحة العليا للوطن بعيدا عن المزايدات السياسية والاصطفافات الإيديولوجية التي لن تزيد الوضع إلا تعقيدا وتفاقما وسوءاً، مجتهدين في كل الأحوال وتحت جميع الظروف على التشخيص الدقيق للداء ووضع الوصفة المناسبة للدواء فاستعمال اللغة الوطنية جزء لا يتجزأ من الدواء والفرنسة لن تزيد الداء إلا تفاقماً واستفحالاً وتَعَفناً. * الحبيب بنعدية، طبيب اختصاصي / عضو مكتب الجمعية المغربية للتواصل الصحي