مقدمة لا مراء أن المغرب بدأ يجني ثمار عقود من تكريس التشدد الديني في النفوس، وسنوات من الشحن الفكري الذي ينص على رفض الآخر، ومن غرس فكرة تعالي المتدينين بالإسلام على كل الأقوام، وكونهم خير أمة أخرجت للناس، أما الآخرون فهم كفار فاسدون، يتعين سحلهم وتنحيتهم من الوجود. هذه الأفكار لا يمكن، طبعا، أن تنتج غير إنسانهائج ومسعور ومصاب بالقلق، مستعد لنحر الآخر هنا والانفجار إزاء عرينه هناك، لما يراه في ذلك من “تطهير”، يقيم فكرة: “أمة الخير المطلق”. وما ذبح السائحتين في مراكش إلا ثمرة من ثمار هذا الجهل الذي تم تعميمه أفقيا وعموديا، حتى أصبح يسري في عروق المجتمع المغربي.أمام هذا الواقع القاتم، فقد أصبح تفكيك هذا الفكر ضرورة ملحة، تفاديا للمزيد من المشاهد التراجيدية، التي تنسف أمن بلدنا، وتهدد سلامته. وسنحاول في هذا المقال طرح مقترحات، لعلها تكون بلسما لدائنا. ولكن قبل ذلك نرى أن نشير إلى الدواعي ،التي أدت بالسلطة إلى انتحاء سمت تخدير الشعب بالدين، قاتلة فيه كل القيم الجمالية والروحية. 1- دواعي تعزيز الخطاب الديني من قبل السلطة: بعد الاستقلال عرف المغرب عدة انفلاتات، واجتاحته عدة أزمات، فأخذت السلطة القائمة، تبحث لنفسها عن أدوات للتهدئة والإخضاع، وقد زادت حدة الاضطرابات بعد بروز الفكر اليساري على الساحة، فارضا نفسه كقوة معارضة، مما فرض التكثيف من نشر خطاب نقيض، فبرزت التنظيمات الإسلاموية، لمواجهة اليساريين بشكل مباشر، فيما كثفت الدولة من حملة “التديين” الأفقي عبر مؤسساتها، والنتيجة قيام تنظيمات إسلاموية سياسية ، ذات فكر متشدد، واكتسابها قاعدة جماهيرية مهيئة للاستجابة لخطابها من قبل مؤسسات الدولة، فخلقت علاقات مع تنظيمات إسلاموية عالمية، فاجتاح التشدد بعض مناطق الوطن، وعلت أيقوناته، وأخذت سلطته الرمزية مكانة رمزية المجتمع المألوفة. ربما كانت مقصدياتالسلطة من وراء توسيع دائرة التدين ما يلي: – جعل الشعب أكثر ارتباطا بأمور الآخرة وما بعد الموت، مما يغيب وعيه، ويلهيه عن سياسات النخبة في تدبير شؤون الوطن، وكذلك إلهاؤه عن قضاياه الحقيقية وعدم طرح الأسئلة الثقيلة المتعلقة بالثروة والموارد. – ضبط الشعب وإخضاعه وتدجينه، فبدل اللجوء إلى مؤسسات الضبط الأخرى، التي تتطلب سيولة مالية مضاعفة، استندت السلطة على الدين، كمخدر له مفعول قوي، وغير مكلف. – تعزيز شرعية الحاكم القائمة على الديني، إذ لم يكن ممكنا، في نظر السلطة، حصول شرخ بين المؤسسة العليا وعموم الشعب. – استغلال ورقة الدولة “العربية-الإسلامية” و”الشعب الإسلامي” في عقد الصفقات مع دول الخليج، التي علت أسهمها المالية منذ اكتشاف البترول، فأن يظهر المغرب نفسه كدولة إسلامية مكتملة الأركان، يضاعف من حظوظ الاستفادة من صفقات وهبات و إمدادات دول البترودولار. غير أن السحر سرعان ما انقلب على الساحر، لأن تعزيز التدين، وفر مفعوله مناخا ملائما لتفريخ البكتيريا القادمة من المشرق، إذ أصبح الأفراد ذوي قابلية لاستقبال سمومه. والتحاق العدد الكبير من المغاربة بتنظيم داعش، لحظة بروزه، أكبر دليل على ما قلناه. وقد انتبهت السلطة نفسها إلى هذا الخطر الذي يداهمها، غير أنها لم تستوعب الدرس، إذ إنها مستمرة في ديدنها، معززة إياه باليات أخرى، يمكن حصرها فيما يلي: -آلية التسفيه: لعل المتتبع لوسائل الإعلام، التي تشكل لسان السلطة، يلاحظ حجم البرامج التافهة، التي يتم بثها. كما أنه تم بعث ما يمكن أن نطلق عليه ” رسل التسفيه”، وهم المغنون، والممثلون، والمنشطون… الذين يعملون على تعميم السفه والبلادة في صفوف المجتمع. أما رسل التربية والقيم فهم محاصرون، مكانتهم ممسوخة، فصاروا مهانين بدون أي تأثير. -آلية الانفصام: تزاوج السلطة بين فكرين لا يلتقيان، فمن جهة تحاول ممارسة فكر حداثي عقلاني- وإن كان مشروطا- يتمثل في الاعتراف بجوانب منه، من قبيل حقوق المرأة، وحقوق الطفل، وتحديث البنيات…إلخ. ومن جهة ثانية، ترفع من قيمة الخرافي، والديني. وتقوي من سلطته الرمزية، وكمثال على ذلك، إطلاق اسم ” البراق” – بكل حمولته الثقافية،على قطار “تي جي في”. هذا الازدواج، يراهن عليه لخلق إنسان تائه فاقد للبوصلة والوجهة. – آلية الإهانة: التخفيف من الرش الديني، يفرض إيجاد آلية ضبط بديلة، لذلك نرى الدولة تتمادى في إهانة المواطنين، فتعامل شكاياتهم بالرفس، واحتجاجاتهم بالاعتقال، ومطالبهم بالإهمال. المواطن المغربي إذن كائن مهان، مما يجعله ظاهرا يبدي نوعا من الهدوء و اليأس والرضوخ، أما باطنا، فيغلي كجبل بركاني، على أهبة الاستعداد للانفجار في أية لحظة. يبدو أن السلطة لا تريد أن تتخلص من استغلال الدين، لأن ذلك يشكل تهديدا لحصونها، وارتجاجا في شرعيتها، وضربا في قداستها المزعومة، وثورة ضد التزاماتها أمام دول الخليج، حتى لا تنقطع إمداداتها وهباتها. وفي مقابل ذلك تسعى للتخفيف من سطوته وخطورته، فهي متيقنة أنها تلعب بالنار، خصوصا بعد أن تقوت الجماعاتالإسلاموية عالميا. لذلك تحاول الدولة الاستعانة باليات أخرى، يبدو أنها غير قادرة على ململة مكانة الديني في النفوس. لقد كان رهان الدولة على القوى الإسلاموية لمواجهة اليسار رهانا خاسرا لأنها، بعد أن تمكنت وتقوت، خرجت من وصايتها، فباتت تمارس خطابها المتشدد بكل أريحية. مستفزة الوطن وأمنه، في حالة أي إزعاج من السلطة، ولعل ردود فعل رواد البيجيدي حول قضية حامي الدين لأكبر دليل. 2- مداخل التداوي من العنف والتطرف: من خلال ما سبق، يمكن القول إن السلطة هي المسؤولة عن كل هذا الذعر والرهاب الذي يعيشه بلدنا، لأنها في استنادها على الديني واستثمارها فيه تخلق أجيالا ذات قابلية للتطرف، حتى أصبح المغرب بلدا لإمداد الجماعات الإرهابية بالمقاتلين، كما أن تسفيهها للشعب زاد من حدة هيجانه وعنفه، وما نراه في الشوارع والمقابلات الرياضية لأكبر دليل. نقترح إذن هذه المداخل كإسهام لبناء خطط يمكنها انتشال بلدنا من المستنقع الذي وصل إليه: – مدخل التعليم: يحتاج المغرب إلى نموذج تربوي يسع عموم الشعب، يربي على القيم الإنسانية، المبنية على التسامح والتعايش واحترام الاخر، ويشرب المتعلمين روح النقد، ويغذيهم بآليات الحصانة من برمجة الخطابات والإيديولوجيات. هذا النموذج التربوي الذي يسرب فلسفة التنوير، بدل الاحتفاء بالنكوصية، وتمجيد الأوهام، وإضفاء القداسة على الجرائم التاريخية باسم الدين، ولكن ذلك رهين باقتناع السلطة بان مستقبلها مبني على الإنسان الواعي المتنور القادر على أداء واجباته وتحصين حقوقه. – مدخل التنمية: يعيش المغاربة في أوضاع اقتصادية قاهرة، بسبب قلة فرص الشغل، وضعف أجور المشغلين، ووضع صحي كارثي، وفي المقابل تواصل الدولة تماديها في القهر، عبر قراراتها الساذجة، وسياساتها الفاسدة،التي تمرغ كرامة المغاربة في الأرض،كل هذه المظاهر لا يمكن لها إلا أن تولد مواطنين حاقدينومندفعين، ويسيطر عليهم القلق، مما يجعلهم عرضة للوقوع في مكائد صناع الأوهام، وإغراءات الماورئيات. وعليه، فإن اتزان الشعب وهدوءه يفرضان تحسين أوضاعه الاقتصادية، حتى يعيش بكرامة، تشعره بإنسانيته. – مدخل التنوير: عبر نشر ثقافة العقلانية، والقطع مع الأوهام والخرافات. يتعين تعميم ثقافة متنورة، بدل ثقافة الزوايا والأضرحة، ذات التقاليد الهمجية القائمة على تعذيب الذات، والتطبيع مع الدماء، والشعوذة والسحر. نحتاج ثقافة تحفل بروائع الفكر الإنساني، وأن نعيد مفهمة فضائنا العام، عبر إعادة تسمية مؤسساتنا، فالأحرى بها أن تحمل أسماء مبدعين، بدل أسماء الغزاة، والقتلة والسفاحين. – مدخل التربية الجمالية:من وصفات التداوي من التطرف والعنف تعميم الجمال، وأن يكون الفضاء العام مرشوشا بالفن الحق، تقود ذلك جمعيات تهدف إلى التثقيف الجمالي، وليس جمعيات سلفية، تقتل الإقبال على الحياة. وهنا أشير إلى نعمة الثقافة الأمازيغية التي ورثها المغاربة، فهي ثقافة الفرح والبهجة، مبعث السعادة، مربد القيم الإنسانية والمثل الكونية، فعودة الأمازيغية بعد عقود من الإزاحة الممنهجة، هي تحصين للمغاربة من خطابات التزمت، خطابات الإفلاس الجمالي والغليان النفسي. خاتمة: إن كل العنف الذي نعيشه في وطننا، هو نتاج سيرورة ، ومخاض تدخلات السلطة، فمن أجل الضبط والإخضاع وخلق القبول والإجماع، اشتغلت على تكريس “الديني” في مؤسساتها الرسمية، وسمحت لجماعات متزمتة بممارسة أنشطتها، تحت ضغط مهندسي هذه الجماعات الأصليين، وعلى ما يبدو فإن هذه الجماعات، قد استفادت من عمل السلطة، فحققت لنفسها قاعدة جماهيرية، ثم خرجت من السيطرة ووصاية الدولة، فباتت تشكل خطرا حقيقيا يداهم أمن بلدنا. لقد وقعت السلطة بين واقعين: أولا، أن تحسم مع الديني، فتخسر قدرته الرهيبة في التخدير، ثم زعزعة علاقتها بدول الخليج. ثانيا، أن تستمر في استغلال الديني، فتربح مفعوله في الإخضاع، إلا أن ذلك قد يزيد تهييج المواطنين، ويضاعف قوة الجماعات المتشددة، فما كان لها إلا أن توظف الديني باحتراز، محاولة تخفيف وقعه باليات التسفيه، والتشظي والانفصام، والإهانة. وهذا المزج زاد من فوران الشعب وعنفه وطواعيته لمعانقة التشدد والتطرف، مما يفرض التعجيل بالإصلاح، والبحث عن وصفات التداوي، لعل مداخلها، التعليم، والتنمية، والتنوير، والتربية الجمالية.