الأحداث الإرهابية التي روعت العالم العربي وأوروبا والولايات المتحدةالأمريكية في السنوات الأخيرة، والتي ذهب ضحيتها آلاف الضحايا الأبرياء، أخرجت مصطلح "التطرف الديني" من عزلته القاموسية، إلى الفضاءات الأمنية والقانونية والإعلامية والسياسية الواسعة والشاسعة في كل أرجاء العالم ، ليحتل موقع الصدارة في كافة القراءات التي تمت لهذه الأحداث، وليصبح مصطلح "الإرهاب" الأكثر شيوعيا في " الخطابات" السياسية، كما في الإعلام والقضاء والقضايا الأمنية بالفضاء العالمي. ولقد تبين للمصالح الأمنية والسياسية والقضائية بالمغرب، ولكافة المحققين والمراقبين في العالم، إن مرجعية الأحداث الإرهابية المؤسفة والمؤلمة التي يعرفها العالم العربي في الزمن الراهن، تعود إلى "التطرف الديني" بالدرجة الأولى، وأن "الفاعلين" الأساسيين في هذه الأحداث هم "قادة" الجماعات التي جعلت من "التطرف" الديني، إيديولوجية عنيفة، قائمة على القتل والدم، وهي نفسها الإيديولوجية، التي دفعت بمجموعة من "الموردين" الضعفاء إلى تكوين جيوش من المقاتلين والمنتحرين والتكفيريين الذين خرجوا حتى الآن، العديد من الأنظمة العربية والإسلامية. وقد نبهت أحداث العنف المتعدد الصفات، النخب العربية والإسلامية، إلى صورة العنف الأصولي الذي ضرب وما يزال في جهات عديدة من الكون الإنساني، والى خطورة هذا العنف، تجاه مطامح الإنسانية في الحرية والسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان وجعلت هذه النخب. في الإعلام والسياسة، تولي أهمية خاصة لهذا المصطلح، فهو يستحق من الجميع التوقف عنده وتأمله، ليس لأنه يعبر عن ظاهرة غريبة في المجتمع الإنساني الحديث، ولكن لخطورة ظاهرته على الفرد والمجتمع والدولة، ولارتباطه عن خطأ عمد بالدين الإسلامي الحنيف. هذه "الإضاءة" تحاول القيام بعملية مسح مبدئية لمصطلح "التطرف" في مفاهيمه المختلفة، في اللغة والشريعة والإعلام والسياسة، وغيرها في محاولة لوضعه في موقعه اللغوي / السياسي / التاريخي الراهن والكشف عن علاقته بالإرهاب ومفاهيمه وأهدافه في الزمن الراهن. 1/- التطرف في مفاهيم اللغة التطرف في المعنى اللغوي، هو الابتعاد عن نقطة الوسط، سواء من اليمين أم من اليسار. والمتطرف هو الذي لا يقبل بالوسطية والاعتدال، ويتجه باستمرار نحو الخروج عن المألوف. والسير نحو أقصى اليمين أو أقصى اليسار، ونحو التعصب لأفكاره وآرائه ومواقفه. والتطرف أيضا هو الشدة أو الإفراط في شيء أو في موقف معين، وهو أقصى الاتجاه أو النهاية أو الحد الأقصى، وإجراء المتطرف يعني، أن يكون في أبعد حد. وهو المتعارف عليه بالغلو، والتعصب / هو أب المبالغة القصوى في الفكر أو الموقف أو الفعل، وتجاوز حد الاعتدال. والتعصب الذي يقابل التطرف، يعني في اللغة العربية، عدم قبول الحق عند ظهور الدليل، بناء على ميل إلى جهة / جماعة / مذهب / طائفة / فكر سياسي. والتعصب من العصبية، وهي ارتباط المتعصب / المتطرف بفكر أو جماعة، والانغلاق في أفكارها ومواقفها ومبادئها. والتعصب / التطرف، قد يكون دينيا أو مذهبيا أو سياسيا أو طائفيا أو عنصريا، وهو سلوك يؤدي دائما وباستمرار إلى العنف. ولعل أخطر أنواع التعصب الديني، ويتبعه القومي، وهما معا يعتمدان على الجماعات المتطرفة، أو على الأنظمة الديكتاتورية، وهما معا يعيشان بدولة إسرائيل الاستعمارية، خارج القوانين والالتزامات الدولية، وخلافا لقيم الديانات السماوية. وأن واحدة من دلائل التطرف الإسرائيلي، تعصب المتطرف لرأيه، تعصبا لا يعترف معه للآخرين بوجود، وجمود المتطرف على فهمه جمودا لا يسمح له برؤية واضحة لمصالح الخلق، ولا لمقاصد الشرع، ولا لظروف العصر، فهو لا يفتح نافذة للحوار، ولا يرقى إلى ذلك بعصبية وتعصب. 2/- في مفاهيم علم النفس ويؤكد علماء النفس، أن التطرف مرض عقلي ونفسي، يمثل مجموعة من الأفكار القاهرة والمسيطرة على عقلية المتطرف. وفي رأي العديد من علماء النفس أن " مرض التطرف" نابع من خلل في التركيبة العقلية أو النفسية للمتطرف : يمثل مجموعة من الأفكار القاهرة والمسيطرة على عقليته / يكشف عن ترسبات اجتماعية أو ثقافية أو دينية، وعن أفكار افتراضية، غالبا ما تكون موغلة في ذات صاحبها " المتطرف". والمتطرف في الطب النفسي، شخصية مريضة، تميل إلى العزلة والعدوانية، تمس بدونية الآخرين، تستجيب بسرعة إلى رد الفعل المعاكس، كنتيجة طبيعية لتوقف عقله عن التفكير وعن الاجتهاد المتبصر. 3/- في المفاهيم الاجتماعية ومن الوجهة الاجتماعية، يشكل التطرف كل فعل يمس المصالح الجوهرية للمجتمع، فهو انحراف عما اصطلح عليه المجتمع من قدر مشترك من السلوكات، لأجل ذلك يتخذ أكثر من صفة، فهو تطرف عنصري، وقومي وسياسي، وإجرامي، وديني ، وإباحي. وخطر التطرف الاجتماعي لا يتجلى فقط في زعزعة الوحدة الاجتماعية، على حساب كل ما هو مشروع ومقبول فيه، ولكن خطره يتجلى أكثر في إبعاد المجتمع عن همه المعاش، وقضاياه المصيرية، وتهميشه الجوهر والإنتاج، وإغراقه في الشكليات والجزئيات، التي غالبا ما تكون هي جوهر التطرف وأصله. 4/- في المفاهيم الدينية ومن الوجهة الدينية، التطرف ليس حكرا على دين بعينه، أو إيديولوجية محددة، أو على مذهب معين، ففي اليهودية والنصرانية والإسلام والبوذية، كما في الشيوعية والرأسمالية والعلمانية، فئات من المتطرفين المتشددين، الذين يرفضون "الوسطية" وكل ما ينتج عنها من أفكار وسلوكات وقيم. وبالنسبة للعديد من الباحثين : لا تعود مرجعية التطرف في بعض الجهات، إلى الفقر أو الجهل فقط، ولكنها تعود أيضا إلى العقيدة المتشددة، والى الفلسفة الخاطئة، سواء في الدين أو في المذاهب المادية. والتطرف من الوجهة الإسلامية، فعل لا يقره الدين، فهو الغلو والتشدد وتجاوز حد الاعتدال والتوسط والركون إلى أقصى الأطراف، وهو ما يتعارض مع مبادئ الوسطية والاعتدال والتوازن والتسامح التي جاء بها الإسلام الحنيف. عند الفقهاء وعلماء الدين الإسلامي، التطرف هو الغلو في الدين والتصلب والتشدد، كأن يتشدد شخص على نفسه في أمور ليست من الدين كالعزوف عن الزواج، أو الانقطاع عن الحياة والناس والعمل، أو أن يكفر كل من يخالفه في رأيه حتى ولو كانت مسألة فقهية فرعية، حيث يعادي الجميع ويكفر المجتمع، بل ويصل ذلك إلى إيصال الأذى للآخرين أو أن يحاربهم أو يعاديهم بسبب ما يعتقده (1). وحسب شهادات العديد من المؤرخين القدماء، فإن " التطرف الديني بدأ إسلاميا بالفتنة التي أدت بحياة الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومازالت فتنة هذا التطرف، متواصلة مع تاريخ الأمة الإسلامية، حتى ظهور جماعة الوهابية وجماعة الإخوان المسلمين، وجماعة القاعدة، وجماعة داعش (الدولة الإسلامية) في العصر الحديث. ومداخل التطرف الديني في رأي الفقهاء والباحثين، متعددة ومتنوعة، ولها مكونات مختلفة، فكرية وسياسية واجتماعية، إلا أن هذه المكونات، غالبا ما تتفاعل بنسب مختلفة، باختلاف الظروف الشخصية والموضوعية التي تحيط بالفرد والمجتمع على السواء. في نظر المفكر الإسلامي خالد محمد خالد(2) التطرف الديني هو مجاوزة الاعتدال في السلوك الديني فكرا وعملا، وأنه الخروج عن مسالك السلف في فهم الدين وفي العمل به، بل إنه تحد لسماحة الإسلام وعظمته. وفي نظره أيضا : التطرف الديني ينشأ من فراغ في النفس، أو كرد فعل من التطرف الآخر الذي ينتقص من نفوذ الإسلام، أو ائتمار خبيث تقوده قوى غامضة لتقويض الدين وهدمه. لذلك تقول المرجعيات الإسلامية، أن لا وجود للتطرف بمعناه الغربي، في الإسلام. في المصطلحات الإسلامية يعني، الغلو، الذي يقابله التقصير... ويعني الإفراط الذي يقابله التفريط...ولا يعني رفض الآخر.أو محاربته بالسلاح والنار، والغلو، بالنسبة للعلماء المسلمين، هو الزيادة عن الحد في فهم أمور الدين، وهو ما حدث في بعض فترات التاريخ الإسلامي عندما تم ظهور الخوارج / المعتزلة / الوهابيين / التكفير والهجرة...السلفية الجهادية...الخ. 5/- تطرف الحركات الأصولية وكما سبقت الإشارة إلى ذلك فإن للأصولية، ارتباط عميق بالتطرف الديني، وبمرتكزاته العصبية، إذ بات التطرف الأصولي مستقرا في نسج مجتمعات عربية وإسلامية عديدة، واستطاع أن يمد خيوط شباكه وخلاياه إلى مجتمعات أخرى غربية وشرقية. وتسعى الحركة الأصولية، سواء في المجتمع الإسلامي، أو في المجتمعات الدينية الأخرى / اليهودية والمسيحية. إلى استعادة الأصل والتطابق معه. في فكرها وخطابها وأفعالها، وحتى في إرهابها، إنها محكومة بالماضي، بنماذجه وصوره وأحكامه وقوانينه. وهي في تنظيرها لا ترى في الحاضر سوى الكفر والفساد والفسوق والتكفير والردة والشر والإثم... وهي في فعلها تعتقد أنها هي الحق، وهي الصدق، وهي التي تملك مفاتيح الجنة. وبدور الفكر الأصولي في كل المجتمعات متشابهة، جميعها تدعى أن تكفيرها ومنهجها وسلوكها هو المؤهل نقلا وعقلا وقدرا ونظرة وتجربة، وأنها الوارث الحقيقي للحق وللفضيلة. وحسب رأي الكاتب العربي غسان الإمام (3) فإن الأصولية في العالمين العربي والإسلامي أصولية تاريخية، تقليدية ومحافظة في اجتهادها وتفسيرها للدين، وتعتمد في علمها وعملها على ما أسفرت عليه المذاهب السنية الأربعة في السنوات الألف الأخيرة بعد إغلاق باب الاجتهاد. وتتركز هذه الأصولية التقليدية، في المؤسسات والمدارس والجامعات والهيئات الدينية المعترف بها رسميا في طول العالم العربي وعرضه، وأبرزها المؤسسات العتيقة / الأزهر / القرويين / الزيتونة...وغيرها. ولأنها أصولية رسمية فقد تجنبت العمل السياسي مراعاة لخاطر السلطة أو لعدم مزاحمتها في السيطرة على المؤمنين، لكنها قاومت كل محاولات الإصلاح الديني الهادفة إلى مصالحة الاجتهاد القديم مع حاجات العصر. لذلك ساهمت الأصولية التقليدية في تأهيل قطاعات عريضة من المجتمعات العربية والأجيال الإسلامية الجديدة لتتقبل فكر وممارسة الأصوليات الأخرى ومنها الأصولية المسيسة التي تسعى بأشكال مختلفة الوصول إلى مقاليد السلطة والحكم. وقد أكدت العديد من الدراسات والأبحاث الأكاديمية،أن التطرف الأصولي ليس إلا إفرازا للسياقات المجتمعية التي تجافي، في طبيعة بنياتها السياسية والاقتصادية والثقافية، مقتضيات العقل والحداثة وتغرق في مناخات من احتكار السلطة وحدة التفاوتات الاجتماعية وسيادة قيم التقليد والمحافظة. وبقدر ما يجد التطرف داخل هذه المجتمعات مشاتل مهيأة لتزويده بالموارد البشرية اللازمة، تنفتح شهيته وتتقوى مطامعه في الاستيلاء على الحكم بالوسيلة الوحيدة التي يحسنها وهي العنف. وحسب العديد من الدارسين أن الأصولية المسيسية، استفادت من جهود الأصولية التقليدية في المحافظة على الاجتهاد القديم، وفي تلقين الأجيال المتعاقبة التعليم الديني دون حوار أو سؤال. وهذا هو السبب في اعتماد الأصولية المسيسة المسجد إلى جانب الشارع في إيصال خطابها السياسي إلى مجتمعات عميقة الإيمان وضعيفة التعليم والثقافة. وفي نظر العديد من الباحثين، أن الأصولية المسيسية لعبت دورا كبيرا في ولادة الأصولية المسلحة أو الجهادية، فمن رحم هذه الأصولية الإخوانية، ولدت الأصوليات الجهادية المسلحة في مصر والجزائر وليبيا واليمن وتونس والعراق ولبنان وسورية والسودان...وأخيرا في المغرب. وكان المفكر الإخواني سيد قطب الملهم التنظيمي والإيديولوجي للأصولية المسلحة قد اعتمد فكر الحصار والعزلة والانغلاق في الإسلام الهندي – الباكستني عند المولودي والندوي. ثم أضاف إليه أدب الفكر الديني في القرون الوسيطة الذي اعتمد النسخ والنقل والاجتهاد والتفسير. 6/- تطرف الأصولية الجديدة تعود الإرهاصات الأولى، لظهور " التطرف الأصولي الجديد" على رقعة العالم العربي، إلى سقوط الخلافة العثمانية (نهاية القرن التاسع عشر) وما خلفته من فراغ، أدى إلى ظهور جماعات اتجه خطابها الديني صوب القضايا السياسية وكانت " جماعة الإخوان المسلمين" التي كونها حسن البنا في القاهرة سنة 1929 أول جماعات الإسلام السياسي التي ظهرت بعد ثورة كمال أتاتورك والتي أطاحت بالعثمانيين في تركيا، نهاية الحرب العالمية الأولى سنة (1919)، ثم انتشرت جماعة الإخوان في بلدان العالم الإسلامي، وصارت لها تنظيمات في عدد من الدول العربية الأخرى، وفي سبعينات القرن الماضي ظهرت تنظيمات متطرفة صغيرة للإسلام السياسي عرفت باسم الجماعات الإسلامية "الجهادية" أو "السلفية" لجأت إلى السرية في عملها واستخدام الإرهاب كوسيلة لتحقيق أهدافها، كما تكونت جمعيات إسلامية متعددة ذات طابع تعليمي ثقافي واجتماعي، تمارس نشاطها علانية وفي حدود القوانين السائرة في البلاد. و ظهرت جماعات تنظيمية مثل "حزب الله " الذي يظهر في لبنان في ثمانينات القرن الماضي و " حماس" التي ظهرت فوق الأرض الفلسطينية، وان كانت هذه الجماعات ركزت عملياتها في مجال الصراع مع إسرائيل من أجل تحرير الأراضي العربية المحتلة، وكان لظهور جماعة " القاعدة" التي أنشأها السعودي أسامة بن لادن في تسعينات القرن العشرين، وجماعة "الدولة الإسلامية" التي أنشأها البغدادي في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، إثر كبير في نقل جبهة العمليات الإرهابية إلى جميع أنحاء العالم: العالم العربي / أوروبا / أمريكا / إفريقيا بهدف إلى تغيير نظم الحكم في الدول العربية و إجبار الدول الغربية على تنفيذ مطالبها عن طريق تهديدها بشن هجمات انتحارية (4) على أراضيها. وتؤكد العديد من الدراسات التاريخية، العربية والأجنبية، أن الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفياتي، كانت المحطة التأسيسية الأساسية، في نشأة "التطرف الأصولي الجديد" القائم على العنف، الذي أطلق على نفسه مسمى "السلفية الجهادية" وهي نفسها المحطة التي تشكلت بها " قوات" الأفغان العرب. التي أعطت في وقت لاحق، جيشا بدون قضية، يساهم من حيث يريد أو لا يريد في عولمة التطرف الإرهابي. وانطلاقا من الحرب الأفغانية، تمكنت الشبكات الأصولية الإسلامية المتطرفة في العالمين العربي والإسلامي وفي إفريقيا، من إقامة تحالف عالمي غير مسبوق، في تنظيمه المحكم، استقطب بأساليب مختلفة العديد من التنظيمات الأصولية المتطرفة مسلحة وغير مسلحة، على امتداد الوطن العربي والعالم الإسلامي والقارتين الأوروبية والأمريكية والقارة الإفريقية. وأثناء حرب الخليج (سنة 1991)، بدأت تظهر على الخريطة الدولية ملامح جديدة لهذا " التحالف"، إلا أن هذه الملامح أصبحت واضحة سنة 1998 حيث تم الإعلان عن إنشاء "الجبهة العالمية لقتال اليهود والنصارى"، حيث بدا تطبيق مبدأ القتال ضد أمريكا وإسرائيل ومصالحهما في العالم، بهدف "إقامة خلافة راشدة، على منهاج النبوة وتطبيق حكم الله في الأرض". ومع ظهور" منظمة القاعدة " في الساحة الدولية، (من خلال أحداث 11 شتنبر 2001 بالولايات المتحدةالأمريكية)، أصبحت الأصولية الجديدة "جهادية" تعطي الأسبقية للصراع المسلح، عوض الاكتفاء بالدعوة، إذ برز هذا التحول بداية في نظام طالبان بأفغانستان، ثم تعمم على العديد من العواصم العربية والإسلامية والأوروبية والإفريقية، ليصبح الجهاد الأصولي" معولما، لا يستند على النزاعات الوطنية، أو السياسية، ولكنه يأخذ شكل إرهاب أصولي عندما يتعلق الأمر بالمرور من الكلمات إلى الأفعال (5). المنظرون الأصوليون بتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية وبمختلف التنظيمات الأخرى، يطلقون على أنفسهم ألقاب العلماء / الأمراء / الفقهاء / المفتين / الدعاة، يقومون بتربية الموردين / الأتباع، على الطاعة والانصياع، ثم يشحنون أفكارهم وعقولهم باسم الدين، والسنة / النهي على المنكر، التركيز على قضايا اجتماعية ودينية وسياسية مختلفة، ليتم – بعد ذلك- تهيييئهم" للجهاد " و"الشهادة" من اجل الدفاع عن الحق وعن " شريعة الله". وعبر مراحل " التربية الإيمانية " يتم تصنيف عباد الله داخل هذه التنظيمات الأصولية حسب العديد من الباحثين والدارسين، بين مؤمن وكافر / مستقيم وضال / طيب وخبيث. حيث يتدرج هذا التصنيف في نفوس الضعفاء والأميين والجهلة والتعساء والمحرومين والفقراء والمظلومين، ليتحول – في نهاية المطاف- إلى إرهاب وعنف وشر قاتل. وسيجد المتابع لإشكالية التطرف في عالمنا الإسلامي اليوم، تشابها بين الخوارج المحدثين، وبين قدماء الخوارج، من حيث توظيف النصوص بصورة انتقائية وتحريفها عن مقاصدها الأصلية لتسهيل اجتذاب غيرهم من أضلهم الله عن الطريق الإسلامي الصحيح، وكذلك فعل الخوارج القدامى الذين اغتالوا رابع الخلفاء الراشدين، واستباحوا دماء المسلمين الذين لم يتفقوا معهم في فهمهم للإسلام. بعدما انتزعوا نصوصا من سياقها وبصورة انتقائية تخالف جميع مبادئ الأمانة العلمية لتبرير تضليل صغار السن والعقول ليقتلوا الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ باسم الإسلام، قد تختلف الأهداف والوسائل قليلا بين القدامى والمحدثين من الخوارج، ولكن منهج ابتزاز النصوص هو نفسه لم يتغير كثيرا (6) . 7/- الأصولية الجديدة في المغرب يعود ظهور الملامح الأولى للحركة الأصولية الجديدة بالمغرب، حسب العديد من الباحثين والدارسين لهذا الشأن، إلى تسعينات القرن الماضي، بعد عودة بعض "المجاهدين" من حرب أفغانستان للاشتغال بالإدارة اللوجيستيكية لخلايا "القاعدة" في الغرب الإسلامي، بعد انطلاق الحركة الأصولية المسلحة بالجزائر. ويرى العديد من المراقبين والإعلاميين المغاربة أن أحداث الدارالبيضاء (16 ماي 2003) لم تكن سوى حلقة نوعية ونقلة نوعية داخل سلسلة طويلة من الأحداث نفذها المتطرفون / الأصوليون المغاربة الجدد / خلال السنوات العشر الأخيرة من القرن الماضي، تلاحقت وتواصلت " بهدوء" إلى أن وصلت أوجها يوم 16 ماي من السنة 2003. بل أن بعض هؤلاء المراقبين، ربط أحداث الدارالبيضاء بحادث اغتيال القيادي الاشتراكي، عمر بن جلون (دجنبر 1975) على يد نشطاء الشبيبة الإسلامية المحظورة. وحسب العديد من الباحثين والدارسين تستقي المجموعات الأصولية المتطرفة في المغرب، مبادئها وأفكارها وفتاواها، من نظيراتها في العالمين العربي والإسلامي، حيث أنها تعمل على إنتاج نفس الخطاب، ونفس السلوك، ونفس العنف الإرهابي. وبالرجوع إلى أفكار قادة هذه المجموعات سنجدها تركز بوضوح على " ملامح الدولة"، فهي ترفض الديمقراطية والدستور وحقوق الإنسان، على اعتبار أنها تسمح للأغلبية تقدير تشريعات تبيح المنكرات وتحل المحرمات. وترى فيها شرا حراما يطعن الإسلام في صميمه، وثمارا خبيثة للعلمانية التي هي "الجاهلية المعاصرة". وهي نفسها الأفكار التي تحرم المشاركة في الانتخابات بالترشيح أو بإعطاء الصوت. وتحرم الصلاة في المساجد القائمة لأنها " معابد الجاهلية الحديثة". وتدعو إلى اعتزال المجتمع، وتحريم الوظائف العمومية للدولة." وتكفر كل ما يتعلق بالسلطة والحكم والديمقراطية وحقوق الإنسان (7) و"التكفير" ظاهرة قديمة جديدة، انتشرت في القرون الإسلامية الأولى على يد فرق إسلامية متطرفة عديدة، كما انتشرت في العقود الأخيرة على يد جماعات وأفراد عديدين. وهو ما أدى في الماضي الإسلامي، كما في الحاضر الراهن، إلى ظهور جماعات "عنيفة" تشتغل بالتكفير والردة، تسعى إلى الإرهاب والعنف. ويلاحظ أن الأفكار التي تدعو إليها هذه الجماعات الجهادية، تتراوح بين التكفير والردة وهي نفس الأفكار التي رددها المتطرفون السابقون في العصور السالفة. بل وهي نفسها الأفكار التي تتبناها منظمة القاعدة، وجماعة الدولة الإسلامية وحركة طالبان، وحزب حكمتيار، والجماعة الإسلامية في الجزائر، وسكان القبور بمصر، إذ ترفض جميعها النظام الديمقراطي وقوانينه وأحكامه، وتدعو جميعها إلى (8) تكفير الديمقراطية والديمقراطيين، وإحلال دمهما وإقامة حد الله عليهما. ومن حيث بناء الجماعات الأصولية المغربية، يرى باحث مغربي (9) أن بنياتها لا تخضع البتة لمنطق التفاعل أو الإقناع والاقتناع في التواصل، بل أنها جماعات يتحكم فيها المنطق التراتبي الواضح : شيخ / مريدون / أمير / مأمورون / وفي أحسن الحالات : شيخ / طلبة علم...وفي جميع هذه الصيغ تتم تربية الموردين على الامتثال الأعمى لأوامر" القائد" باعتبارها قرارات غير قابلة للنقاش، أن ما يقوله "القائد أو الشيخ أو الأمير..." هو الحقيقة المطلقة، وبالتالي يجب توخي الحذر والحيطة من كل ما من شأنه أن يضع هذه الحقيقة" موضع مساءلة أو ريبة أو شك. وأمام ما يتسم به " التابعون" لهذه الجماعات من خواء فكري / عاطفي / أمية تعليمية ودينية، يبذل جهد كبير من أجل جعلهم لا يأخذون فسحة ابتعاد عن أطرهم المرجعية حتى يتسنى تنويم شخصياتهم وإخضاعهم الإخضاع التام لأهداف " القيادة" / الإمارة...باعتماد إستراتيجية ترتبط من كل النواحي والجهات " بالاستشهاد والجنة" . أن مثل هؤلاء الأفراد لا يقبلون الجدال والنقاش، وفقا لما هو مسطر لهم، وكلما تبين لهم أن الصواب قد يوجد في جهة أخرى، أو في معبر تحليلي آخر، يسيرون نحو اختلاف أوهام يصدقونها دفاعا عن " الحقيقة المطلقة" التي روج لها " القائد" "الأمير". وتعتمد هذه الجماعات (الأصولية المتطرفة) في تنفيذ مخططاتها كما سبقت الإشارة، على نماذج بشرية معينة مستوفية لشروط الاستقطاب " مصابة بالحرمان وجمود المشاعر، وعدم التعاطف مع الآخرين المختلفين عنهم أو معهم في الرأي، أو الدين أو الجنس. نماذج شديدة القسوة على نفسها وعلى الغير، تسعد بالانتقام والدم. وهي النماذج التي يطلق عليها علم النفس : " الشخصيات المتبلدة انفعاليا" وهي شخصيات تسعى – في الغالب – إلى إشباع لذتها الفورية، في المغامرة والانتقام والعنف. ويعمل قادة وأمراء هذه الجماعات ومشايخها، على تربية أتباعها وفق مخطط واحد يقوم على زرع الإيمان المطلق بأفكار الشيوخ / الأمراء، وعدم القبول بأي مناقشة في شأنها. وزرع صفات " المؤمن" في نفسيات هذه النماذج لإيمانها بأن "الأهداف" التي تقوم عليها "الجماعة" هي من أجل شرع الله... بعد ذلك تبدأ تربية هذه النماذج على أنها موحدة مع القوة الكامنة / القوة الإلهية. وعلى أنها " مكلفة بأداء رسالة عظيمة، وأنها قادرة على حمايتها". ولربما يكون أولئك، الذين نفذوا أبشع العمليات الانتحارية، في نيويورك وواشنطن وباريس وفي الرياض والدارالبيضاء وصنعاء وبيروت ودمشق وبغداد وتونس والجزائروالقاهرة وليبيا، والذين حولوا أجسادهم إلى أشلاء قاتلة ومدمرة وجها من وجوه هذه التربية. ...وبعد أينما وجد التطرف، وجد المتطرفون، والمتطرفون، هم فئة قليلة من الناس، في أركان الأرض، يرفضون الوسطية ويمقتونها، يرفضون الرأي الآخر، لا يقبلون الحوار ولا التفاوض ولا المناقشة، يعتقدون أن رأيهم أو موقفهم حق مطلق، وأن رأي خصومهم باطل مطلق، ولكنهم الأكثر إزعاجا للإنسانية. في الدين الإسلامي، المتطرفون هم أولئك الذين نذروا أنفسهم للنيل من الشريعة الإسلامية، أو تسفيه تجربتها، أو تحقير الدين الإسلامي في قواعده ومبادئه. وفي الفكر الليبرالي المتطرفون مرضى، يعانون عدم التوازن ويسعون إلى تحقيقه بتطرفهم،(في أمريكا المتطرفون السود يهاجمون البيض، وفي ألمانيا المتطرفون النازيون يهاجمون اللاجئين، وفي فرنسا وانجلترا المتطرفون العنصريون يهاجمون الجاليات الأجنبية والمهاجرين الأجانب)..الخ. يعني ذلك، أن المتطرفين لا يحملون صفة واحدة، فهم أنواع وأشكال وصفات، يعبرون عن ظاهرة انحرافية مرضية في مناطق عديدة من الأرض، ظاهرة تعود أسبابها إلى التخلف والانعزالية والتشدد والإفراط في الغلو، كما تعود إلى الانقسامات والخلافات العقائدية والفقهية والمذهبية بالمجتمع. وأيضا تعود إلى ظهور طبقات شديدة الغنى، مقابل طبقات واسعة شديدة الفقر والأمية، أو طبقات شديدة التدين مقابل طبقات أخرى شديدة الانحلال والفسوق. ترى العديد من البحوث والدراسات التي أنجزتها مراكز الأبحاث والمعلومات، أو التي أعدتها مراكز الدراسات الأمنية والإستراتيجية، أن التطرف الديني في العالم العربي / الإسلامي، هو المصدر الأساسي للإرهاب "بتضاريسه" الجغرافية والإيديولوجية والسياسية. وأن هذا التطرف بكل تلاوينه، افرز فكر "التكفير" المؤدي إلى العنف وقتال، "الكفار" و"المرتدين" انطلاقا من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وسيرة السلف الصالح، وهو ما أعطى للإرهاب في عالم اليوم، بعدا جديدا،، يسميه الغرب ب "الإرهاب الإسلامي". في نظر الدكتور احمد كمال أبو المجد (10)، أن أول مداخل العلاج لظاهرة التطرف الديني، أن يكون تشخيصها دقيقا، وأن يكون في إطار الاعتبارت العامة، وفي ضوء الظروف والملابسات المحلية والدولية التي تساهم في نشأة وتشكيل فكر وسلوك المتطرفين. من الضروري في رأيه إلا يكون الاعتماد الأكبر في هذا التشخيص في يد الأجهزة الأمنية وحدها، ذلك أن التقدير السياسي لذلك ضروري وحتمي لتصحيح الفكر وتقويم اعوجاجه، انطلاقا من السياسة التعليمية، مرورا بالسياسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ذلك لان مناخ السخط الاجتماعي والإحساس بالإحباط، وغياب العدالة التي تستقيم في ظلها موازين الثواب والعقاب، ومعايير الفشل والنجاح، هي البيئة المثلى لظاهرة التطرف الديني / وظاهرة الارهاب. وبالرجوع إلى تجارب الدول التي واجهت التطرف وإرهابه، سنجد العديد من بلاد الدنيا عملت على إنشاء عيادات ومراكز استشارة وتوجيه تحت إشراف اختصاصيين في اختصاصات عديدة للتصدي لأعراض التطرف المبكر، للقضاء عليها في المهد، وتقوم هذه العيادات والمراكز على اختصاصات عملية كالأمراض العقلية والنفسية والعضوية والمشاكل الاجتماعية. التي تهم صغار السن والتي تنبئ حالاتهم باحتمال انحرافهم أو تطرفهم ، وخاصة الذين تظهر عليهم أعراض التخلف الدراسي، الانطواء على النفس، الهروب من المدرسة، والاضطرابات العقلية والنفسية والاجتماعية المختلفة، وغيرها من الأعراض التي تؤدي عمليا إلى إعداد الأحداث إلى التطرف والانحراف وبالتالي إلى الإرهاب. إن معالجة حالات التطرف، المتعدد المراجع والأهداف، التي تجتاح مناطق عديدة من الأرض، اليوم، تشترط تعاون المجتمع الدولي، للقضاء على أسبابه الظاهرة والباطنة : الفقر والبطالة وضمان الحد الأدنى من وسائل العيش، وإقامة أسس حكم ديمقراطي، واحترام حقوق الإنسان، وإشاعة ثقافة الحرية في التفكير، والوقوف ضد سياسة التمييز الطائفي والديني. وأكيد أن معالجة حالة التطرف أيضا يجب أن تبدأ بعودة الإسلام إلى موقعه الحقيقي، وإحلال الأخلاق داخل المجتمع الإسلامي محل الانحلال والتفسخ. فعلى أي حد تستطيع هذه الآراء التغلب على "التطرف" ودواعيه ؟. هل يمكن أن يكون لظاهرة التطرف حل علمي وعملي بتعامل مع متغيرات الواقع، يستفتي الضمير، ويحتكم إلى المبادئ، ويعيد قراءة تجارب ووقائع التاريخ البعيد والقريب، لا يقفز على الناصع والمضيء من الموروث القيمي ويصر على المستقبل الأفضل ؟. "هل للمؤسسات التربوية والثقافية والعلمية دور في تصحيح ظاهرة التطرف أي كانت مساحتها ؟". هذه الأسئلة وغيرها ستظل تطارد الفكر الإنساني الحديث، إلى أن يجد العالم لها أجوبة شافية، لوضع حد لمعضلة التطرف الذي أصبح يهدد البشرية في سلامتها، والذي حولته الصراعات الدولية إلى إرهاب مقيت. ***** هوامش : راجع في هذا الموضوع، السلوك والمفاهيمية / الدكتور محمد رشدي / دار العلم للملايين بيروت 1977 مجلة العربي (كويتية) اسباب اربعة للتطرف / عدد 278 / يناير 1982 جريدة الشرق الاوسط / قراءة في الخريطة الاصولية / 25 شتنبر 2000 ص 09. احمد عثمان / الارهاب ليس قتالا في سبيل الله / جريدة الشرق الاوسط / 8 يونيو 2001 ص راجع مقالا بعنوان " الارهاب الاصولي يزحف على الغرب الاسلامي / جريدة الاحداث المغربية / 15 يونيو 2003 ص 04. راجع في هذا الموضوع، على بن طلال الجهني / الارهاب وانتقائية النصوص / جريدة الشرق الاوسط 25 دجنبر 2001 ص 10 راجع مقالا عن المنطلقات الفكرية والعقيدية للموجة الجديدة لفقهاء التطرف (تلخيص ما جاءت به كتب بعض قادة الحركة الاصولية المغربية(ابو عبيدة عبد الكريم الشاذلي / محمد الفيزازي ) لاوسي لحسن / جريدة الاحداث المغربية / 8 يونيو 2003 ص 03. راجع مقالا لسعيد الوجداني حول احد زعماء السلفية الجهادية بالمغرب / جريدة النهار (مغربية) 20 يونيو 2003 ص 06. عبد الحق نوفيق / خطر التماهي مع ابطال من زمن الصحابة / جريدة الاتحاد الاسبوعي (مغربية) 6 يونيو 2003 ص 05. مجلة العربي (كويتية) اسباب التطرف / عدد 278 / يناير 1982.