المحجوب حبيبي " الجهلاء يتقدمون بقدر خوف العقلاء و الردة الحضارية تقوى بقدر تراجع المتحضرين و العناصر الظلامية تصبح عالية الصوت عندما يخفت صوت المتنورين.. أما الواقع فهو ما يسود المناخ الفكري الثقافي من أن الرأي الصحيح هو الرأي الصريح" فرج فودة: نكون او لا نكون أبدأ في استعراض المشهد الثقافي انطلاقا من هذا التعريف انتقل مفهوم "Culture" إلى القاموس العربي واتخذت الترجمة اتجاهين: أ - اتجاه ترجمة مفهوم "Culture" إلى اللفظ العربي "ثقافة": فكان المفكر سلامة موسى - في مصر- أول من تبنى ونشر لفظ ثقافة مقابل "Culture"- وقد تأثر في ذلك بالمدرسة الألمانية في تعريف ربط الثقافة بالأمور الفكرية، الذهنية، حيث عرّف الثقافة بأنها هي المعارف والعلوم والآداب والفنون والمعتقدات والتصورات والآراء والتوجهات التي تنتشر بين الناس ويتشربونها ويتعلَّمونها وبتعبير آخر يتثقفون بها، وميَّز بين الثقافة "Culture" المتعلقة بالأمور الفكرية الذهنية والحضارة "Civilization" التي تتعلق بالأمور المادية. ب - اتجاه ترجمة "Culture" إلى اللفظ العربي "حضارة": وهو اتجاه محدود برز في كتابات علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا العرب في ترجماتهم للمؤلفات الأوروبية في هذين الحقلين، وفي المقابل ترجموا لفظ "Civilization" باللفظ العربي "مدنية" وفي هذا المجال الثقافي كما تم تحديده وتعريفه نعيش ويعيش المحيط الذي نتبادل معه التأثير حالة مأزقية شديدة التعقيد فبعد أن كنا نحلم ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية وكان هذا الحلم الجميل المعمد بالتضحيات والآلام والمعاناة، وفي ظل الأوضاع المؤلمة لسنوات الرصاص والاستبداد كنا نتعلم كيف نحترم الحق في الاختلاف : حيث تعلمنا على أيادي رعيل من الأساتذة في الثانويات وفي الجامعة – واستوعبنا الدرس منهم جيدا والذي كان يرتكز إلى الإيمان بأن حرية التفكير هي الأساس الأول لتقدُّم الأوطان، وأن النهضة لا تندفع إلى الأمام إلا بفتح أبواب الاجتهاد على مصراعيها، وباستبدال ثقافة الإتباع بثقافة الإبداع ، وبممارسة التجريب الذي لا يتوقف في كلِّ مجال. ولذلك زرعوا في عقولنا وحتى في أقصى ظروف الشدة والاختلاف ضرورة المحافظة على: روح الانفتاح على كلِّ العوالم والتفاعل معها فهي الطريق إلى ازدهار المعرفة... تقبُّل الآخر مهما كان مختلفا أو مغايرا فذاك هو الوضع الطبيعي للوجود... التواضع وحسن الاستماع باعتباره شرطا ضروريا لإثراء الفكر وتوسع المعرفة باعتبارها نتاج التنوع والتعدد في التوجهات والأفكار وللعقل مهجه الصارم كي يفرز ويصنف ويختار... تحرير العقل من كلِّ القيود، ليلاحظ ويقارن ويقايس ويجرب ويحكم وليمضي في أفقه الواعد، متحررًا إلا من التزامه مبدأ المُساءلة الذي يُخضِعُ له كلَّ شيء، بما في ذلك العقل الذي لا يكفُّ عن مُساءلة نفسه قبل مُساءلة غيره... أخذ مسافة نقدية من كل النزعات الطائفية والمذهبية والإيديولوجية والمفاهيم الاستعلائية التي تسعى إلى التمييز والتفضيل...أو التي تسيج العقل وتغلقه لإنها سبب الكثير من مظاهر التخلف الذي يستحكم ويسيطر بين الكثير من الشعوب... إن الأصل في ذلك كله، أنه لا معنى لتحرير أيِّ عقل من غير الاعتراف الأوَّلي والبديهي بحتمية الاختلاف الناتج من حرية بقية العقول المكافئة فالعقل طبيعته المغايرة والمساءلة والبحث والمقارنة والاختبار والموازنة والقياس والمفاضلة والحكم والاختيار... والاجتهاد العقلي يرتبط بالجسارة والاقتحام وبتوسع المرجعية المعرفية والمهارة والدربة والتجربة والمرونة والدقة ومن تمت كانت أصالته... ف"العقل أعدل الأشياء توزُّعًا بين الناس"، في ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي ديكارت، ويظل كذلك ما ظلَّ الناس جميعًا ينهلون من المعرفة الإنسانية من دون حدود، ولا يعوق حريتَهم في التفكير والاجتهاد عائق. وباعتماد العقل إياه ومنهجه وصرامته ماذا كانت خلاصة واقعنا الثقافي بكل ذلك التعريف الذي قدمناه سابقا: إننا نعيش بكل تأكيد مرحلة ردة وتراجع حتى عما كان عما كنا نطمح تحقيقه... *ردة تتجلى في تقليص المدى المسموح به من حرية التفكير، وحقِّ الاجتهاد المختلف فيه. *ردة جمعت من بين عواملها التمترس خلف الطابوهات والمقدسات وبين الآثار السلبية للاستبداد السياسي، الذي كان سببا أساسيا في استئصال التعددية والاختلاف حيث تمت فرملة الدينامية الاجتماعية وضرب التعليم في جوهره... لما أخضع للهاجس الأمني في شموليته (تفكيرا، وممارسة ومنهجا ومضمونا) طبعا حصل تسييد للآثار الضارة الناجمة عن القمع المركب، لقد تم تخريب مسار من العمليات الإصلاحية اتجاه بناء الدولة الوطنية الديمقراطية... وكان الثمن غاليا بقاؤنا نرزح في مستنقع مظلم تهب عليه عواصف الرمال الوهابية لتطمر ما تبقى من نور العقل... وجعل الأبواب مشرعة على كل الاحتمالات... انضاف إلى هذا كله عواصف هبات الشتاء العربي التي عرت مكامن التصدع وأبانت عن قعر قاري ممتد على طول الساحة وعرضها من (جكارتا إلى البيضاء) يختزن دروسا من أحكام التاريخ ومساراته التي لا انزياح عنها...( يعيد للأذهان ما حصل للمعتزلة والمتكلمة ما حصل لابن المقفع والحلاج، وابن عربي، وابن رشد، وما عناه المعاصرون الأقربون طه حسين، جلال العظم، وما طال عمر بنجلون، حسين مروة، ومهدي عامل، سهيل طويلة، فرج فودة، شكري بلعيد، ... وقافلة الشهداء تتزايد باضطراد) وتتصاعد نزعات المحافظة التي المرتبطة بنواتج شيوع ثقافة النفط، ثقافة الوهابية بصورها المتخلفة، مقترنة بالردَّة المعادية لأفكار التحرر الاجتماعي في كلِّ مجالاته، في مجال الضمير والمعتقد، مجال الحريات، مجالات التفكير الحر والمعبر عن آراء وتصورات خلافية، وما يتهدد حلمنا في بناء ديمقراطية يكون فيها الشعب مصدرا للتشريع والسلطات... ويعاني مجال حرية المرأة ومساواتها الكثير من التشدد والقهر... وليس فقط ما أثرناه وكأنه صراع فكري ثقافي بل وأكثر من ذلك الاصطفاف الميداني الاحترابي بمختلف تجلياته من تحريض وتجييش وتمويل وإعلام وتعبئة أممية إسلاموية يشارك فيها المتأسلمون من كل الأصقاع ففي الهجوم على سوريا بالأردن وحده 6000 مقاتل من المغرب الكبير تؤطرهم (شركة بلاك ووتر) بتمويل من قطري سعودي. ويعتمد الموروث الثقافي بكل تأويلاته ومقولاته في هذه (الحرب الدينية) حيث تعن في كل الأقطار خطب التحريض باسم الله وباسم الإسلام تنمو وتتوسع لتستحيل هجمات وتهديد ووعيد والنموذج ما تخلفه هذه الحرب بكل نتائجها من آثار مدمرة على شخصية الإنسان في حقوقه وحرياته وعلى قوته وطموحاته وعلى البنيات والتجهيزات مثالها ما يحصل في البلدان التي تمت السيطرة عليها من طرف إسلاميين أو تلك التي تعيش حروبا وتدمير وإرهاب... فالحرب الدينية تقرع طبولها في محيطنا حيث تتزايد نزعات التطرف الديني يوما عن يوم... التي يشتد أوارها وفق متوالية حسابية... وأكاد أجزم أن ما يتهددنا من حروب وصراعات رهيب بكل المقاييس إن نحن استكنا للانتظار واستسهال الأمور وعدم إعارتها ما تستحق من جهد ونضال فكري وحوار مع الجماهير وعملنا بكل الوسائل الممكنة والتي يمكن توفرها، على توسيع فضاءات العلمانية لتشمل المدرسة والجامعة والإعلام وحرية التعبير وصولا إلى دسترتها حقيقة ملموسة لأنها المخرج والحل لهذه الكارثة المتربصة. فالثقافة السائدة والمروج لها عبر العديد من الوسائط هي ثقافة شمولية إطلاقية محكومة بالاستبداد والقطعية، والتي تهدِّد بأوخم العواقب، تحريضا وممارسة وإهانة تلو الأخرى حيث المرأة أوفر نصيبا ( فهي العورة ولم يعد الحجاب عادة بل أصبح عبادة، وما إلى ذلك من إرضاع الكبير ونكاح المجاهدة...) وغيرها مما يوجه للمرأة من تحقير ودونية وشبهة واتهام، إضافة إلى نشر ثقافة التحريم والتكفير وتخصيب وتوليد الممنوعات... وهذه الثقافة بكل ما أفرزته من صراعات هي بكل تأكيد معطى تاريخي ومفصلا انتقاليا... وطبعا يمكن ركوبه واستغلاله لما تطابق مع أغراض ومصالح استعمارية كبرى... فهذا ( فبرجنسكي) يرى ضرورة إرجاع (المارد إلى قمقمه) والخطط الإستراتيجية ل(زلماي خليل زادة) وتوجه أوروبي فرنسي يرى ضرورة التسريع بهذه الحتمية لحسمها لصالح الديمقراطية... وفعلا فتقديرات دوائر الدراسات السياسية الأمريكية ترى أن ما قد تحققه هذه الحرب قد يصب في بعض جوانبه في إستراتيجية بناء الشرق الأوسط الكبير الذي قد تصبح فيه إسرائيل كنتونا كبيرا وقويا ومؤهلا للقيادة وفعلا أدت الحرب الدينية إلى إضعاف العديد من الدول الإسلامية حيث حصل :( انتشار الفوضى وانهيار مجموعة دول... وتمزيق وحدة شعوب على أساس طائفي ومذهبي وتقسيم وتجزئة أوطان إلى كنتونات) وتدمير للبنى وإنهاك للقوات والعتاد وإزهاق يومي للأرواح البريئة وتخريب وتدمير قل نظيره نموذج سوريا وليبيا والعراق... كل ذلك كان نتيجة حتمية لتضافر هذه العوامل شيوعَ ثقافة التقليد، لا الاجتهاد، ونشر ثقافة العنف، لا الحوار، اتهام المغاير والمخالف بأسوء الاتهامات كونه خارج على الجماعة، وكونه كافر بل وإباحة دمه نهارا جهارا فضلاً عن العداء السافر للعلم والتجريب والبراهين النظرية التي تعصف بالأساطير وبالأوهام. ولولا قلة قليلة من ورثة التقاليد العلمية الأصيلة والمكافحين المنافحين ضد الظلام والجهل لسادت غيوم الخريف ولحل الموت الزعاف... التعدد هل هو عرقي ام ثقافي ؟ وحتى لو امتلك كل البشر المخزون الوراثي نفسه فإنهم يختلفون عن بعضهم في خياراتهم الثقافية حيث كان كل شعب في الماضي يجد الحلول الملائمة لقضاياه إما انطلاقا من مخزونه التاريخي ومن تجاربه الخاصة ووفق قناعاته وشرائعه وفي ما ينقله عن غيره من الشعوب والحضارات... ولكن مع التطور المعرفي والحضاري والتواصلي ، أخذت الاختلافات الثقافية تتقارب وتنمحي بفعل المثاقفة حيث تتماهى الثقافات بعضها بعض وحيث تعمل قوانين الجدل فعلها (نفي النفي) لتسييد كل ما هو كوني لتصبح مثلا ثقافة حقوق الإنسان والحريات والمساواة والحق في الاختلاف تمثل تطبيقا للمبادئ الثقافية الإنسانية الشاملة نظراً للوحدة الثقافية التي أصبحت تجمع البشرية وتوحدها... وينبغي أن نعرف أن مسالة التعدد الثقافي مكون من مكونات العلمانية والبناء الديمقراطي حيث يصير التدبير المعقلن لمعطى الهوية على أساس أنه تكامل وليس خلافا... وهذا ما أكده مسار التاريخ من خلال نماذج وتطبيقات تعايشية بين الأعراق والطوائف الدينية والأجناس وهذا هو منحى التاريخ ومساره الأكيد والحتمي شاء من شاء وأبى من أبى ومهما بدت عوامل الفرملة والعرقلة حادة وقوية فإنها قد تعطل التطور والتغيير ولكنها لا يمكنها إلغاءه أو نفيه. ومفهوم الثقافة الكونية المستمدة من العلم والعقل والتجربة والبحث تعد أداة مناسبة لوضع حد للتفسيرات الخصوصية والمافوق- طبيعية وللتفسيرات الخرافية للكون وللتصرفات البشرية... وطبيعة الإنسان يمكن تفسيرها كلها من خلال الثقافة وما راكمته العلوم الاجتماعية والإنسانية. والاختلافات التي تبدو شديدة الارتباط بالخصائص البيولوجية مثل اختلاف الأجناس من حيث اللون وبعض تفاصيل الهيئة، وكذا الأدوار والوظائف الجنسية... على سبيل المثال...لكن الاختلافات في السلوكات والقناعات والتصورات والأفكار لا يمكن حصولها وملاحظتها إلا من خلال المعطى الثقافي المعبر عنه بلغة محددة وبخصائص ثقافية محددة أيضا... لأن الثقافة والثقافة وحدها هي الذي تعكس: التقسيمات الإثنية والطائفية وليس العكس... والثقافة هي المعبر عن المميزات والخصائص والسلوكات والتوجهات... كما تعكس الثقافة الأدوار والوظائف الاجتماعية المرتبطة بالفروق الجنسية في علاقتها بالأحكام والقيم المحددة التي تختلف باختلاف المجتمعات البشرية ومعتقداتها... كل ذلك تنقله الثقافة وينتج أساساً عنها وليس على أي أساس آخر بيولوجي أو جغرافي... ، ولهذا نرى المجتمعات تتنوع بتنوع الثقافات حتى على مستوى الوطن الواحد... لذلك كانت الثقافة مجالا للصراع ومجالا للثورة وبفعل تأثيراتها تبنى المفاهيم والأفكار والتصورات ووحدها الأساس لنشر الضلال مجالا للظلام أو العقلانية مشعلا للتنوير... وهذا ما يطرح بملحاحية مطلب العلمانية خيارا مجتمعيا حيث يصير الدين لله والوطن للجميع ونتخلص من سيطرة اي ثقافة تضليلية بحيث يمكن لأي دارس البحث والتنقيب والقول والرد مما يحد من سطوة ساسة الدين المهيمنين باسم الله على الشعب ومقدراته... ويحد من جبروت تجار الدين والمنتفعين بسطوته إذ يتدخلون في الكبيرة والصغيرة... وضمن مناخ العلمانية تتم المراجعة يعطى للمنورين من علماء الدين أن يراجعوا ويصححوا ويجددوا... ليخلصوا الأمة من خضوعها وامتثالها لسيطرة وأحكام المستفيدين من الدين من شيوخ وساسة والذين يحيطون الناس برهاب وفزع ليس من الله في شيء... مما ترتبت عنه تنشئة شخصية تحمل كل النقائض شخصية باتولوجية تتسم بتنوع مرضي يمتد من التطرف الذي ينفجر ليقتل ويسفك الدماء إلى النفاق والزئبقية والتخفي والتواكل والكراهية والتعالي وفي بعض الحالات التقية بأن يظهر ما لا يضمر، وأن يقول بالشئ وضده في نفس الآن، في تنااقض فصامي مرضي ... كل ذلك لأنه نزع من عقله جهاز النقد ففقد القدرة على أن يسأل ويعبر، وفقد القدرة على أن يؤمن بالحق في الاختلاف والحق في الاعتقاد، والحق في أن يمارس قناعاته علانية ... فهو ليس له الحق في مناقشة الطابوهات ولا يتخذ موقفا من أمور تخالف ما يعتقده وإن كان ذلك هو الحق منطقا وعقلا وفكرا وعلما... وممنوع عليه أن يبدو مخالفا في أمور يكون الناس مجمعين عليها وإن كانوا مخطئين مجانبين للحقيقة والمعرفة والصواب... وذلك مرده لانعدام المناخ العلماني الذي يكون فيه للناس الحق في الاختلاف والحق في التعبير عن ذلك الاختلاف، والتمتع بباقي الحقوق المكفولة كونيا دون أن يطولهم منع أو مصادرة أو تهديد لسلامتهم... والغريب أن الإعلام الرسمي يصمت صمتا رهيبا عن الممارسات التي تنتهك فيها الحقوق والحريات تحت طائلة تلك الأحكام والشرائع... ولم يعمد إلى خلخلة التصورات المتطرفة المهيمنة على الوعي الاجتماعي، فخذ مثلا لم تتحرك هذه الشعوب لمناصرة الحق في الحياة... لما يقوم أي تنظيم من تنظيمات القاعدة هنا أو هناك أو أي قوة سلفية... بقتل أو تدمير أو تخريب يمس الإنسان أو يمس معلمة تاريخية أو مؤسسة أو فكرا أو فنا أو معرفة أو عالما... فهل تلك الشعوب لا تنتفض وتتظاهر وتشيع الفوضى والحرق والعنف والقتل بين الناس إلا إذا مس مقدس من مقدساتها؟ أليست الحريات من المقدسات لديها؟ أليس التعبير بكل مظاهره حق لديها؟ ينبغي حمايته أليست الحقوق كل الحقوق بما فيها الحق في الحياة وما يتعلق بحرية المرأة ومساواتها مع أخيها الرجل؟ وغيرها من الحقوق؟ تستحق التظاهر والتضامن والحماية؟ أليس الحق في الحياة مطلبا ينبغي حمايته والدفاع عنه؟ ليتأكد جميع الديمقراطيين المؤمنين بأننا من حقنا أن نعيش كما البشر وأن نفكر وأن نعبر وأن نمارس الحياة بكرامة وحب وإيمان بالإنسان وقدراته وحقه في الانتقال من الهمجية إلى التمدن والحضارة ليعيش بحقوق كاملة... ليبدع ويساهم إلى جانب الشعوب الأخرى في حماية السلام في هذا العالم ليعيش الجميع في ندية ومساواة وتكامل وتعاون إنساني رائع بدون استغلال ولا قهر كل ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بالثورة الثقافية لأجل العلمانية منطلقا للتغيير والتجديد... القول في الحداثة: فهل سؤال الحداثة وارد في هذه المرحلة من واقعنا؟ على اعتبار أن الحداثة مرحلة من التطور والتمدن يطرح سؤالها بعد استكمال مسار من العمليات المتشعبة والمترابطة أهمها انجاز ثورة ثقافية تشمل فيما تشمل إصلاحات تربوية تعليمية تكوينا وإطارا ومناهج ومنهجيات وسائل... إشاعة التثقيف الجماهيري فكريا وسياسيا واجتماعيا وأخلاقيا وحياتيا... فسح المجال لحرية التعبير وللإصلاحات الاقتصادية العميقة ذات الأهداف الاجتماعية... بتشجيع المؤسسة والمقاولة المواطنة (...) وضع برنامج للتشغيل باعتباره حق للجميع... إصلاحات سياسية نعتقد أن في مقدمتها التوافق أساسا على ميثاق وطني يعكس الاختيارات الكبرى للبناء الديمقراطي بداية من إقرار العلمانية اختيارا وقاعدة لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية...والملكية البرلمانية ودستور ديمقراطي وسلطة إجماع وطني انتقالية مهمتها السهر على هذه النقلات الكبرى في هذا السياق وإنجازاته يأتي سؤال الحداثة ؟؟ على اعتبار أن الحداثة ليست مفهوما اجتماعيا أو سياسيا أو تاريخيا فقط وإنما هي منهج مميز للحضارة يعارض منهج التقليد، أي أنها تعارض جميع الثقافات الأخرى السابقة وتحدث معها قطائع كبرى، مع التأكيد على أن العقلانية والديمقراطية والمواطنة قواعد أساسية من أجل بناء حداثة معاصرة ... ينبغي علينا أن نميز في الحداثة بين حقيقة الفعل الحداثي وحقيقة الشكل الحداثي لأننا عند تطبيق المعايير والمقاييس الخاضعة لمنهج علمي له مشروعيته على مجتمعاتنا التي هي في مرحلة سابقة عن الرأسمالية كفكر وثقافة وإنتاج واقتصاد، أو إن شئتم القول فهي مجتمعات تبعية تمر بمرحلة تطور نحو الرأسمالية التابعة والاستهلاكية في جوهرها. لأن التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية التي نحن إياها، والتي قاعدتها التخلف والتبعية ما زال مسيطراً عليها الانقسام العمودي الهرمي المخزني والحزب القبيلة، والحزب الطائفة، وتنظيمات نقابية أقرب إلى تجمعات مهنية وحرفية من القرون السابقة عن الرأسمالية... وفرق دينية ريعية، وجماعات طرقية ريعية، وأن التنظيمات السياسية والنقابية المعبرة عن طبقات صاعدة لما تزال جنينية لم تنضج بعد فكريا ولا سياسياً ولا إيديولوجيا وأنها لما تزال تعاني من انقسامات فئوية وشرائحية أفقية ، لأنها ما زالت تفتقد الوعي التاريخي وتفتقد المقومات الذاتية والامتداد الطبقي الواعي بذاته، والحاضن لنموها ... الأمر الذي يعبر عن حقيقة افتقادها للأساس الاجتماعي وبالضرورة والالتزام فقدانها للمشروع النظري المجتمعي والفكري والثقافي والسياسي، الذي يعبر عنها والذي ما يزال مترددا بين النقل والعقل وبين الإهمال والتأثير والفعل... فالمثقفين من حولها متأرجحون ومترددون بين الاستقلالية والالتزام بين الانتماء واللامبالاة... وإعلامها محدود الفعالية والانتشار ولا تملك بنيات تربوية وثقافية فاعلة ومؤثرة... وليس لها دور للنشر وليس لها إعلام جماهيري مسموع ومرئي... ولا مراكز للفكر والتأثير في القرار وليس لها طليعة علمية باحثة ومؤثرة ... ولا إمكانيات مالية ذاتية للتدبير والتسيير ... وقياسا على التجربة التنويرية الأوروبية... يمكن القول أن تلك التجربة المتميزة والتاريخية والتي للأسف لم يعطها حقها إعلاميا ولا سينمائيا بمعاودة نشر ما تم إخراجه حولها من أفلام والتعريف بالدراسات والأبحاث التي أنجزت عن تلك المرحلة التي كانت صعبة ومريرة. حيث استغرقت المعركة ثلاثة قرون متتالية، بل وحتى أربعة : فمن لوثر وايراسم، الى هيغل ونيتشه، مروراً بسبينوزا وجون لوك، وفولتير، وديدرو، وروسو، وكانط وسواهم عديدون. كل فلاسفة أوروبا قد جيشوا طاقاتهم للقضاء على هذا المرض الخطير الذي أخذ ينتشر بغباء : (مرض التعصب والظلامية الأصولية). فماذا جيشنا نحن المترددون حتى في تبني (فكرة العلمانية) وإنزالها للشعب وشرحها على أنها ليست مناقضة للدين ولا للإيمان وهي فقط قاعدة واتفاق من أجل حرية المعتقد: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وهي تناقض الاستعباد والقهر متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ وتناقض جور الحكام ورجال الدين الذين يتحكمون في رقاب الناس باسم الدين والله ليديموا الاستغلال والقهر والعبودية والاستبداد... في وضعية كهذه يكون من السابق لأوانه الحديث معها عن الحداثة الحقيقة والفعل لكن إذا أردتم حداثة المظاهر والشكل فهي تتجسد في تداول تكنولوجيا القتل وتكنولوجيا التجسس والتتبع والملاحقة... واستعمال تكنولوجيا المعلوميات في الدعاية والتخريف وآخر ما أنتجته تكنولوجيا الطائرات والسيارات الفارهة والبنايات والأثاث والمستحضرات الطبية والمواد الاستهلاكية بمختلف مستوياتها ولكنها كلها تمهر بالبخور والأدعية لتحفظ من العين ولتبارك ... وفي نفس الآن يشاع بين الناس التداوي ببول البعير والحبة السوداء والرقية والجذبة وكل أساليب التضليل والتخدير ... لذلك فإن الانخراط في الحداثة ليس قفزة في الفراغ إذ لا يعني فقط استعمال المنتجات والمكتسبات التقنية والعلمية، ولكن وأيضا الانفتاح على القيم الديمقراطية وممارستها. وحيث أن الديمقراطية بقيت رهينة اللعبة السياسية بين المخزن و الأحزاب الإدارية والنخب المسيطرة على الحركات والأحزاب التقليدية حيث استمرت الثنائية الإيديولوجية المشهورة أصالة – معاصرة، وتقليد – حداثة، وتراث ومدنية لتؤثث الوضع العام وتطبعه بالتأرجح بين هذه المكونات التي استمرت ترعاها القوى المخزنية المحافظة وتستعملها للإبقاء على الأوضاع ومعاودة إنتاجها وللحفاظ على التوازنات... من خلال عمليات إضعاف وتقزيم القوى اليسارية والديمقراطية وخنقها ... وضمن هذا الواقع كان يكمن الشرط التاريخي الأساسي لتناسل واستقواء القوى الإسلاموية وتمكنها من اكتساح الأوساط الشعبية... والهجمة العنيفة التي تشنها بمختلف تلاوينها من الأصوليات والتنظيمات السلفية والإخوان بمختلف تعبيراتهم وجميعهم يغمرهم الحنين للدولة الدينية لبنة من لبنات دولة الخلافة.... سؤال الحداثة السابق لأوانه يطرح قضية المواطنة كثقافة: مضمون المواطنة يتضمن التواصل والحوار والحق في الحصول على المعلومة تبادلها والإطلاع عليها وتلقي المعرفة والمشاركة في صنع القرار وفي تدبير الحياة الخاصة والعامة والمقدرة والاستطاعة والأهلية والقابلية والأحقية والقوة المعنوية والجرأة والإمكان والإجادة إضافة إلى الندية والمساواة بين المتحاورين و إذا حاولنا إيجاد رابط بين كل هذه الكلمات سننتهي إلى حقل دلالي و مبدأ من مبادئ حقوق الإنسان و هو حرية وحق التعبير والتواصل وهذه مواصفات الإنسان الحداثي. بغض النظر عن جنسه ولونه ودينه... ولعل أهم أركان المواطنة تتحدد بالتالي: المواطن هو مصدر التشريع والسلطة وهو الذي يمنحها الشرعية، إذ أن المواطن مسئول عن قراراته كونه يعتبر واعيا ومسؤولا عن أفكاره وأفعاله،... لذلك فالسلطة مرتبطة بالديمقراطية الفعلية قبل كل شئ. أن المواطن هو السند الشرعي للسلطة المنبثقة عن اختياره ممثلة بحكومة تنفذ القوانين التي تصدر عن الأجهزة التشريعية... وتقع تحت رقابته... يتمتع جميع المواطنين بنفس الحقوق كما يتساوون تمامًا بالواجبات، ودون تمييز سواء كان تمييز عرقي أم طبقي أم مذهبي أم ديني، وذلك وفق المعايير التي حددها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و وفق معايير المواثيق الدولية. ثقافة الحداثة هي ثقافة للمواطنة والديمقراطية: إن الديمقراطية بنية ومرتكز للحداثة إنها بكل تأكيد المجال الحيوي للحداثة ضمنها وعلى قاعدتها يؤسس لمشروع مجتمعي متكامل من العمليات الهادفة إلى جعل الحداثة بمضمونها المنوه به سابقا ثقافة معيشة للمواطنين تربية وتغذية وصحة وسكنا بالاعتماد بالدرجة الأولى على الخلفية الفكرية والثقافية المبنية على تطوير الممارسة الديمقراطية في ارتباط بالمواطنة كمشاركة وقوة دينامية دافعة وحقوق وواجبات، وفي هذا السياق فإن الثقافة المقصودة بالمعنى العام فهي ليست فقط مجموع الآداب والموسيقى والفن...، بل تعني كافة التركيبات الثقافية والمرتكزات المؤسسة للسلوك والتصرف والممارسات والأعراف التي تتبلور من خلالها قدرة الأفراد الناس على أخذ قراراتهم و حكم أنفسهم بأنفسهم وتحمل تبعات ذلك، فالثقافة بهذا المعنى تعني الوعي المجتمعي والخلفية الذهنية والفكرية المحركة للسلوك عند الأفراد والمجتمعات... إنها بناء ذاكرة جماعية وطنية تنبذ العنف والعنصرية وتحذر من مخاطر الانقسام وفوائد التضامن، والتحذير من خطورة تكرار تجارب الطائفية وعبثية الدولة الدينية كأفغانستان والصومال ومالي والسودان وما يجري في العراق وما يحصل في سوريا وما يحيط بمصر وتونس وليبيا وباكستان من احتمالات مؤلمة لحرب دينية أمام هذه المصائب المعدية ينبغي أن تتولد لدينا نحن المغاربة وعي بضرورة اختيار العلمانية قاعدة للديمقراطية لتجنيب الشعب المغربي بمختلف توجهاته وقناعاته ومعتقداته ما يحصل من صراعات دموية. لأن العلمانية تعتبر مجالا لترسيخ المبادئ العامة للحريّات وحقوق الإنسان وحمايتها وان يضمن ذلك الدستور كما أقرتها المواثيق الدولية وشريعة الأممالمتحدة... وتصبح مختلف العلاقات مبنية على قاعدة ثقافة التعاقدات والمواثيق بين الشعب والدولة باعتبارها الضامنة لتلك المواثيق والساهرة على تنزيلها للممارسة واقعا ملموسا... وان يُصاحب كل ذلك توسيع الأمل وترسيخ الإيمان العميق بضرورة التغيير والإصلاح والتناوب الحقيقي على الحكم ونشر ثقافة الثقة والقدرة والإرادة بأننا يمكن أن نجتاز هذه المرحلة بأمان وسلام... لنكون النموذج في الاستفادة من حتى نتجب فعلا وحقيقة التجارب المرة للآخرين وإلا فقد لا تسلم الجرة...