شكل” الحوار ” منذ القدم مدخلا هامًا من بين المداخلالمؤسسة لشروط التعايش بين مختلف الأمم والشعوب. ولهذا، وجدنا أنه من البَدَهِيِّ أن تعج وسائل الإعلام بمختلف تجلياته (السمعي والبصري والمكتوب) بمفاهيم تؤثث بنيانها على لبنة ” الحوار “، فصرنا نسمع ” حوار الثقافات” و ” حوار الأديان ” و ” حوار الحضارات “… وما عداها من المفاهيم الأخرى التي ترتدي لباس الحوار؛ باعتبارهيحمل في طياته رسالة نبيلة. لكن هل يكفي أن نقف عند عناوين هذه المفاهيم، التي أصبحت تكتسح واقعنا الراهن في مختلف مجالاته: الثقافي والديني والسياسي…، للقول إنها تناشدالغايةالنبيلة التي وضع لأجلها الحوار؟، أم أننا مطالبون بالبحث في ثناياها– أي تلك المفاهيم – انطلاقا من الواقع؟؛ لكي نتبين يقين تلك الفرضيات الأولية – التي تحضرنا- من عدمه؟، ألا يمكن القول إن ” الحوار ” في الواقع الراهن قد تم تجريده من طبيعته النبيلة، وتشويهه بمجموعة من المغالطات والنوايا المبيتة؟… أسئلة كثيرة تحوم حول هذا الموضوع المتشعب تشعب الآراء التي تتضارب بين مؤيد لأَشْكَالِ الحوار التي أسلفنا ذكرها، وبين ومعارض لها؛ استنادا إلى بعض المبررات التي ترى في تلك الأشكال إعلانا ضمنيا لصراع وصدام خطيرين. وللإحاطة بملابسات هذا الموضوع القديم الجديد، يستوقفنا موقف المفكر المغربي محمد عابد الجابري الذي أثار في كتابه ” مواقف إضاءات وشهادات ” الموضوع ذاته، واعتبر أن الحوار ” شعارٌ نبيلٌ ومعقولٌ “؛ لأنه في الغالب يُقَدَّمُ في مواجهة شعار ” الصراع ” الذي يرفضه الجميع اليوم،مَظْهَرِيًّا على الأقل؛ وذلك راجع حسب محمد عابد الجابري إلى كون “الصراع” في وقت من الأوقات كانا ينظر إليه من منظار النُبْلِ والمعقولية أيضا؛ أي عندما كان يستعمل في عبارات من قبيل: ” الصراع الطبقي ” و ” الصراع مع الاستعمار “!!؛غير أن ما يبرر هذا التقلب في نظر المفكر محمد عابد الجابريسواء للمفهومي”الحوار” و “الصراع” وغيرهما من المفاهيم التي تظل مجرد شعارات، هو اختلاف سياقات وظروف وأهداف ودوافع استعمالها. ومن ثمة، فلا غرابة أن يطأ هذه الشعارات معطى ” الحربائية “. وانطلاقا من تصور المفكر محمد عابد الجابري الرامي إلى تأسيس حوار جاد وبناء، وجب على المجتمعات، والمنظمات، وكذا مختلف المنابر التي تناشد التعايش والحوار أن تفكر في إخراجه أولا من دائرة الشعارات؛ بمعنى أن يتم تنزيله، وتفعيل أسسه على أرض الواقع؛ ولن يتسن هذا الأمر إلا إن تم تجاوز دائرة الغموض التي تجعله مَسْجُورًا بالالتباس، ويقول الجابري بخصوص ذلك: ” وفيما يخصني شخصيا أعتقد أنَّه من الواجب تسمية الأمور بأسمائها الحقيقية. إنَّ جوهر القضية المطروحة اليوم بالنسبة لعلاقة الغرب بالعرب والمسلمين هو المصالح ” ؛ ويقصد بهذه الأخيرة التبادل والتداخل بين مصالح الغرب ومصالح العالم الثالث، لا كما يظن البعض؛ إذ لا أحد من الطرفين يؤسس لحوار بريء، بل كل طرف على حدة يناشد الحوار بين الحضارات أو الثقافات… حينما يدرك أن له مصلحة في اختلاق حوارمؤدلج. وما دام الحوار لم ينسلخبعد من هذه الشوائب، وغير قائم على معايير توازن المصالح، وقبول الاختلاف، وتم بدل ذلك طرحه بشفافية وموضوعية في مختلف الفعاليات العالمية والندوات الوطنية والدولية، بل وداخل أسوار الجامعات والمنظمات، والمؤسسات المعنية…وباقي الجهات المسؤولة عن ذلك، ما دام لم يتحقق ذلك فسيبقى حوار الثقافات، وحوار الأديان، والحضارات… مجرد شعارات تكرس للصراع أكثر مما تهدف إلى التأسيس لحوار جاد.