من بين الأمور، التي يتم تلقينها بكليات الحقوق، خلال سنوات الدراسة الأولى بها، ما يسمّى بالمبادئ التي يقوم عليها القضاء.هذه المبادئ التي لا زالت لحدّ الساعة، تدرّس ،كما لو أن القضاء فعلا قائما عليها، ثم استمدادها ممّا هو متعارف عليه عالميا في هذا المجال.من أهمّها، مجانية التقاضي، التقاضي على درجات، استقلال القضاء،إلى جانب باقي المبادئ الأخرى، كوحدة القضاء ،علنية الجلسات ، شفوية المرافعات ،القضاء الفردي و الجماعي ، المساعدة القضائية ،تخصّص القضاء ،عدم إنكار العدالة و تعليل الأحكام. عندئذ ،المدارك البسيطة التي لم تكن بعد، قادرة على فهم و استكناه عمق معاني تلك المبادئ ،خاصة مبدأ مجانية التقاضي،الذي سنقتصر بالتحدث عليه وحده في هذا المقال،تنطبع باقتناع راسخ ،كون المغزى من ذلك المبدأ ،يقضي بأن لكل فرد، الحق في الاستفادة من خدمات القضاء مجانا وبدون مقابل.و ما يزيد من سهولة الانقياد وراء ذلك الاقتناع ،ما يلمس من إيمان عميق به ،لدى أولئك الذين يلقّنوه.أعني بهم أساتذة التعليم العالي. لكن عندما يمرّ الزمن في هذا السبيل،سبيل البحث والتلقين،ستنكشف حقيقة مخالفة.مفادها أن ما يدرّس في الكلّيات،و ما هو موجود على أرض الواقع،نقيضا بعضيهما البعض.إذ يكفي،الوقوف ساعة واحدة،أمام صندوق أي محكمة ،من محاكم الوطن، حتى يتبدّد اللبس و تتجلي حقيقة زيف كل ذلك الأمر. ولعلّ ما صرّح به وزير العدل الأسبق ،حينما قال بكل فخر وافتخار، أن مداخيل المحاكم، لسنة معينة من سنوات ترأسه لهذه الوزارة، بلغت مبلغا، و فاقت مداخيل سنوات من تقدّمه من الوزراء على رأس هذه الوزارة.إنما هو دليل على أن مؤسسة القضاء لا تؤدي خدماتها بالمجان.بل هي أقرب في عملها إلى عمل مؤسسة تهدف إلى الربح،همها ملأ الخزائن من أموال المتقاضين و تسجيل نقط سياسية في مرمى الشعب.و لأن من طبع الإنسان حبّ الخلود ،و حبّ المال، و لو على حساب الغير..فإن الوزير قد نسي ذلك المبدأ، الذي كرّسته الوزارة التي كان ممتطيا صهوتها،و معها الدولة، بالاعتراف و الإقرار نهارا جهارا بمجانية التقاضي.لكن في المحافل الدولية فقط. و ما يتم الاعتماد عليه لشرعنة هذا الإجراء القاضي بأداء الرسوم القضائية ،ما هو منصوص عليه في قانون المسطرة المدنية ،فضلا عن قانون الرسوم القضائية.غير أن التمعّن في هذا ،يفيد بوجود تعارض بينها و بين ظهير التنظيم القضائي. لكن المصطلح عليه،أو الذي جعل لإعطاء المشروعية لأداء المصاريف القضائية و لإخفاء هذا التعارض ،فقد ثم إعطاء معنى مخالف لما يعنيه ذلك المبدأ.وهو أن المجانية في التقاضي، تنحصر معناها في كون القاضي لا يتقاضى أجره من المتقاضين، حتى لا يحكم لصالح من يدفع أكثر.و لا تتسع إلى ما يؤدّى من مصاريف قضائية لقاء رفع كل دعوى. غير أن هذا الكلام يفنّده ما هو متعارف عليه عالميا بخصوص ذلك المبدأ.مع الأخذ بعين الاعتبار مصادقة المغرب على العديد من المبادئ و الاتفاقيات القضائية الذي يعتبر مبدأ المجانية واحد منها .إذ نجد في العديد من الدول ،التي تجعل منه مبدءا لعملها في هذا المجال ،توسّع من نطاقه،و لا تحصره فقط في ذلك المعنى،بل تجعله يشمل جميع الخدمات القضائية. ففي فرنسا مثلا ،و هي الدولة التي توفر لكل مواطنيها الحياة الكريمة ،على الرغم من كونها تفرض هي كذلك مصاريف قضائية ،إلا أنها بخسة جدا و محددة في قدر واحد.عكس ما هو معمول به عندنا ،إذ أن المبلغ المطلوب،لقاء قبول أي دعوى ،يتحدّد وفق موضوعها .أي حسب نوعية تلك الدعوى، مدنية كانت أم جنحية.و ما إذا كانت هناك مطالب ترمي إلى التعويض أم لا .و قانون المصاريف القضائية،يحدّد لكل دعوى ثمنا لقبولها. و مما سبق يتضح على أن ما يتم تدريسه،بخصوص مجانية التقاضي، يبقى مجرد حبر على ورق.و هو حق أريد به خلاف ذلك.لأن القضاء مثله مثل التعليم و الصحة ..من حق أي مواطن ،فقير أو غني ،أن يحظى بخدماتهم مجانا و من دون مقابل. * محام بهيئة القنيطرة