وقفت متأملا فيما كتب الأخ النائب مسعود غنايم على صفحته الشخصية على الفيس بوك تعليقا على مقتل الشابة (يارا أيوب): (جريمة قتل الشّابّة يارا أيّوب الجِش: عارُنا الّذي يزداد وَحشيّة ودمويّة حتى ملّ الاستنكار من الاستنكار، وتَعِبت الإدانة مِن الإدانة، وبقي صراخنا الباكي العالي يَسأل بَحُرقة ولَوعَة: بِأيّ ذَنبٍ قُتِلَت ؟؟؟).. انتهى.. تفاعلت مع ما كتب، ورأيته يعبر عما يختلج في قلب كل واحد منا يرى ويسمع ويتابع ويتألم لا لمقتل البريئات والابرياء فقط، ولكن لعجزنا وقلة حيلتنا جميعا عن مواجهة الخطر والوقوف في وجه الطوفان! لفت انتباهي أيضا ما كتبه آخر على صفحته على الفيس بوك تعليقا على نفس الجريمة المروعة: (منذ ثلاثة ايام والوسط العربي غارق بالتحليل المنطقي والغير منطقي حول اختفاء صبيه بأول عمرها.. صبيه حبت تفاجئ صاحبتها بعيد ميلادها.. طلعت يارا ايوب من بيت اهلها بدها تحتفل مع صاحباتها، وبعدها ترجع إلى بيتها وتنام بغرفتها مع اخواتها… بس يارا ايوب بنت ال – 16 سنه ما كانت عارفه انو في وحش عديم الرحمة والإنسانية عم يستناها بالطريق ليسرق منها أحلي لحظات حياتها، ويحرمها أجمل سنين عمرها ويترك اهلها بين الحسرة والنار على بنتهم.. اليوم وبعد ثلاث ايام بتصحى قرية الجش على خبر العثور على الشابة المفقودة.. بس للأسف لاقوها جثة هامدة.. يارا أيوب اسم جديد يُضاف لقائمة العنف ضد النساء… رحلت يارا في “اليوم العالمي لمكافحة العنف ضد المرأة”، بأبشع جريمة ممكن يتصورها العقل البشري.. يارا أيوب ارقدي بسلام… الدنيا بأخر وقت…) انتهى.. أما تغريدة فضيلة رئيس محكمة الاستئناف الشرعية السابق بروفسور احمد ناطور، فقد كانت الأكثر تأثيرا عليَّ: (رسالةٌ الى ابنتي… يارا.. الى كل بناتي؛ نورا وخديجة ومنار وفاطمة وكرستين وسهير وهند وليلى و…….. كما ترَيْن يا ابنتي، لن ينفعك بعد اليوم شجبُنا وردحُنا.. لن ينفعك بعد اليوم شعرُنا ونثرنا وخطبنا العصماء فكلّها تضيع يا عزيزتي هباءً في الهواء لن تنفعك بعد اليوم وقفاتنا ولا مظاهراتنا لا ولا صيحاتنا التي تذوب بالفضاء ها قد تركناك وحيدةً بين الوحوش الغادرة وحيدةً وحيدة، تصارعين انياب الوحوش الكاسرة.. لذا، فإنني أدعوك ان تقاتلي بقوة الجبابرة ضعي غاز الفلفل في جيبك اينما ذهبتِ حتى وانت تخرجين من غرفةٍ الى غرفة أغرقي عينيه بالغاز دونما هوادة.. اغرسي مقص الشعر في عينيه خذي جهاز الصعقة الكهربائية اضربيه بالشوكر حتى يفقد الذكورة.. فاذا مات فقد فعلتِ مع البشرية خيراً ودافعتِ عن شرفنا جميعا. عن جُبننا جميعا عن خبثنا وقبحنا.. عن رجولتنا المخنثة.. اما نحن، فلنذهب الى الجحيم، نعم الى الجحيمِ حتى نتعلم كيف نكون رجالا يحمون نساءهم من غدر أنفسهم تبّاً لنا. تبّاً لنا…..).. انتهى.. كلامٌ صعبٌ وقويٌّ وشديدُ الجرْس وصعبٌ على النفس.. نفثةُ مصدورٍ يبحث عن بصيص نور في عتمة الغابة الكثيف.. هزتني الكلمات من الاعماق، وها انا اجعل هذه الكلمات والتي قبلها، مدخلي لمقالٍ أتطرق من خلاله لنفس القضية الساخنة سخونة الدم المسفوك غدرا وخسة وسفالة.. كم مرة تطرقنا الى هذا الملف سابقا، وكم تمنيت ان لو كان ما كتبته سابقا آخر الكلام حول هذه المأساة، إلا أنني مضطر الى العودة لطرق القضية من جديد أملا في ان تكون كلماتي الدامية صرخة إضافية في فضاء امتلأ بصراخ الجميع استنكارا وشجبا وتنديدا، لكنه – مهما بلغ في وقته وتأثيره – لن يكون اقوى من صراخٍ لم يسمعه أحد الا الله.. إنه صراخ (يارا) ومثيلاتها.. ننام ونستيقظ على اخبار الجرائم…!! في كل يوم يسقط من بيننا قتيل او قتيلة.. استيقظنا مؤخرا على أخبار كارثتين جديدتين الأولى في قرية نحف حيث سقط الشاب حافظ حسين عيسى البالغ من العمر 35 عاما، وهو متزوج وأب لطفلين، حاول الفصل بين شباب نشب بينهم شجار فأصابته طعنات قاتلة توفي على أثرها.. اما الثانية فوقعت في قرية الجش حيث سقطت الشابة يارا أيوب ابنه السابعة عشرة فريسة لجريمة نكراء ارتكبتها وحوش مفترسة لم ترحم انوثتها ولا شبابها ولا ضعفها، وتركتها وراءها جثة هامدة.. يندهش الواحد منا مرة بعد مرة بسبب استفحال العنف وازدياده بشكل أصبح الحليم فيه حيران … في كل يوم وبعد كل نشاط جماهيري يعالج قضية العنف وأثرها المدمر على المجتمع، يُمَنِّي الواحد منا نفسه بالأمل في أن يكون هذا النشاط أو ذاك بداية العد التنازلي لهذا المرض العضال الذي يوشك أن يفتك بالجميع، وأن يحرق الأخضر واليابس، وأن يُحِيلَ كل قطعة خضراء جميلة في حياتنا إلى صحراء قاحلة وقطعةٍ جرداء لا حياة فيها … لكن الواقع يأتي ليصدمنا بمعطياته المذهلة وإحصاءاته الصاعقة … لا يكاد يمر أسبوع إلا وتمتلئ الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية بأحداث العنف، والتي وصلت حد القتل والاغتيال للأبرياء في وضح النهار، ولأسباب أقل ما يمكن أن يُقال فيها أنها أتفه من تافهة، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تكون سببا في إراقة الدماء الزكية وإزهاق الأرواح البريئة، مع ما يترتب عليها من ارتباك خطير لنسيجنا الاجتماعي الذي يعاني ابتداء من شبه انهيار في كثير من المجالات … من المستهجن جدا أن يقبل قِطاعٌ من أبنائنا أن يكونوا النار التي تحرقنا وتهدنا من الداخل، بينما نار السياسة العنصرية الإسرائيلية تحرقنا من الخارج، وتكاد تقضي على البقية الباقية من عوامل التماسك في جسدنا الاجتماعي، وقوة الصمود في وجه تحدياتها ومخاطرها… قد تقوى جماهيرنا على النهوض في وجه العنصرية حتى لو ملكت كل أسباب القوة الهمجية، إن هي حافظت على متانتها وصلابتها الذاتية، لكنها أبدا لن تصمد إن هي أكلتها الصراعات الداخلية، وفتكت بخلاياها الحية سمومٌ زعافٌ تنتجها مصانع الانتحار الذاتي وبأيدي أبنائنا وفلذات أكبادنا … المتتبع لردود الفعل لدى الأغلبية الصامتة في مجتمعنا حيال العنف وأخباره وبالذات عمليات القتل التي تجاوزت كل حد، وآخرها جريمتا نحف والجش، والتي استفزت كمثيلاتها السابقة مشاعر كل شريف، سيلمس مدى الاستياء العارم والغضب الجارف الذي يجتاح هذه الغالبية المسالمة، ولكن هذا المشاعر ترفض أن تتجاوز النفوس إلى الميدان، أو أن تتحول من موجات عاطفية طاهرة إلى خطط ميدانية وبرامج عمل تشكل إعلانا رسميا لحرب حقيقة على إرهاب العنف والجريمة التي تكاد تصل إلى كل بيت … هذا هو التحدي الكبير… لن تنفعنا منذ الآن كل بيانات التنديد والاستنكار، ولا المؤتمرات الأكاديمية لبحث الظاهرة وتحليلها، على أهمية كل ذلك وضرورته …. نعتقد أننا تجاوزنا بسنين مرحلة التشخيص، ومن العدل مع أنفسنا ومع مجتمعنا ألا نبقى رهائن هذه المرحلة على أهميتها، وأن ننتقل وبالسرعة الممكنة إلى مرحلة التنفيذ لأنها الوحيدة الكفيلة – بإذن الله – بوقف التدهور الرهيب الذي تشهده مجتمعاتنا كهدف أول، ثم تجفيف هذا المستنقع بكل ما أوتينا من قوة … القوة بكل أشكالها ومعانيها، فإنه – كما هو معروف – لا يفل الحديد إلا الحديد، وعلى الباغي تدور الدوائر … تراجع قيمي ينذر بِشَرٍّ مستطير! العنف هو العنف، سواء كان ضد امرأة او ضد رجل.. ضد شاب او ضد شابة.. ضد طفل او ضد طفلة. لكن الجريمة عندما توجه ضد المرأة يكون وقعها أشد، وأثرها أعمق، وكأنها تمس شبكة اعصابنا الحساسة، وتضعنا مباشرة امام المرآة لنكتشف أننا فقدنا او نكاد آخر ما يمكن ان نعتز به.. قبل عقودٍ خلتْ كانت مجتمعاتنا تتململ كالملدوغ، وتهتز من أعماقها كأنما أصابها زلزال عنيف كلما سمعت بخبر جريمة قتل هنا او هناك.. كنا كمجتمعات عربية نملك منظومات أخلاقية ومجتمعية ومرجعيات لها تأثيرها في توجيه المجتمع وضبط حركته وردع العابثين فيه.. لكننا اليوم مكشوفون لا لأننا لا نملك هذه المنظومات والمرجعيات، لكنه طغيان الغرائز و تَغَوُّلُ الثقافة الاستهلاكية، وضعف الرادع الأخلاقي والوازع الديني، وانطفاء الإحساس بالغيرة، والتمرد على الأخلاق، والانقلاب على الآداب العامة، وقلب الطاولة في وجه عاداتنا الجميلة وتقاليدنا الحميدة، حتى ما عاد للحشمة معنى، ولا للحياء مكان، ولا للضوابط الفطرية وجود، فتراجع الشعور بالتكافل والتضامن الداخلي، واستفحلت السلبية واللامبالاة، والعيش في الوهم الذي مزق المجتمع وحَوَّلَهُ إلى أشلاء مبعثرة كل يهتم بنفسه ظانا أن النار إذا ما اشتعلت فلن تصل إليه.. ما الذي تغير، ولماذا هذا التراجع الخطير؟! لا مناص – في رأيي – من ان يقوم المجتمع كله – رجالا ونساء – بمراجعة شاملة لمجمل الأوضاع التي انزلقنا إليها حتى ما عاد للأب احترام ، ولا للأم قول أو رأي، ولا للأسرة مكان، حتى بتنا يقتلنا الشوق إلى أيام كان مجتمعنا رغم بساطته وغياب المدنية التي نراها اليوم عن حياته، الحصن الحصين والحضن الآمن والأمين لكل فضيلة… عرف فيه الرجل حدوده بتوجيه من ضميره الحي مهما كان سنه أو مكانته أو صفته، كما عرفتْ المرأة حدودها مهما كان سنها أو مكانتها أو صفتها، وبتوجيه أيضا من ضميرها الحي وشعورها الناضج بالمسؤولية عن نفسها وعن غيرها، وقوة التزامها ( بالكود ) الأخلاقي الذي تربت عليه ونبتت من أرضه.. إرهاب مجتمعي ليس أقل من ذلك! في زحمة الاحداث التي تعصف بنا من الداخل والخارج والتي يمثل (الإرهاب) كلمة السر فيها، يتعرض مجتمعنا (لإرهاب) لا يقل خطورة في رأيي عن أي إرهاب من أي نوع … العنف عموما، والعنف ضد المرأة والذي وصل مدىً لا يمكن الا ان يوصف بالإرهاب المجتمعي.. أعمال القتل الجبانة التي طالت نساءً في الايام الأخيرة وفي أكثر من مكان، والتي هي جزء في مسلسل الدم، وفصل من فصول نكبتنا الاجتماعية، باتت تشكل ناقوس خطر حقيقي لا بد من مواجهته بكل شجاعة وقوة، ولكن بكل حكمة ومهنية.. لقد كانت بعض القبائل العربية قبل الإسلام تقتل بناتها أحياءً خوفا من العار لِما كانت تتعرض إليه مجتمعاتهم من غزو تُسْتَباحُ فيه الأعراض وَتُسْبى فيه النساء، فجاء الإسلام ليشنع على العرب جريمتهم في حق البنات البريئات، وجعل تشنيعه لهذا الفعل المنكر قرآنا كريما ونصا مقدسا وتشريعا سرمديا، مصداقا لقوله سبحانه: (وإذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قُتِلَتْ؟). جاء في تعليق الشهيد سيد قطب على هذه الآية قوله: (ما كان يمكن أن تنبت كرامة المرأة من البيئة الجاهلية أبدا، لولا أن تتنزل بها شريعة الله ونهجه في كرامة البشرية كلها، وفي تكريم الإنسان: الذكر والأنثى، وفي رفعه إلى المكان اللائق بكائن يحمل نفخة من روح الله العلي الأعلى. فمن هذا المصدر انبثقت كرامة المرأة التي جاء بها الإسلام، لا من أي عامل من عوامل البيئة، لأن هذا ليس من قيم السماء ولا وزن لها في ميزانها. إنما الوزن للروح الإنسانية الكريمة المتصلة بالله، وفي هذا يتساوى الذكر والأنثى).. انتهى.. لم يعترف القرآن بما بَرَّرَ به العرب جرائمهم ضد النساء، ولم يجعل حُكْمَهُ في هذا الجرائم الشنيعة مُخَفَّفاً أخذا بتلك الاعتبارات، واستبدل ذلك بالتأسيس لثقافة جديدة ورؤية رصينة تنظر الى الانسان رجلا او امرأة مكرما على الله، وتجعل للدماء حرمةً وللأرواح قداسةً، لا يجوز لأحد المس بها أبدا مهما كانت الأسباب. إن شيوع الجريمة عموما وضد النساء خصوصا، إنما هو انعكاس لخلل خطير في البنى التحتية الإنسانية لهذه المجتمعات، وقد تكون بسبب غياب النموذج القادر على ضبط حركة المجتمع بما يحقق التوازن العاطفي والوجداني والواقعي الميداني لطرفي المجتمع الرئيسيين: الرجل والمرأة … مجتمعنا يعيش مذبحة أخلاقية إلى حد كبير اختلط فيها الحابل بالنابل … ما عادت المفردات (قتل المرأة!!)، (شرف العائلة!!)، (غسل العار!!) و (رد الاعتبار!!) على سبيل المثال لا الحصر، إلا فصلا للعبة قذره يلعبها العابثون من أبناء مجتمعنا، دون أن يتنبه الطرف الضعيف والمهضوم وهو المرأة في ظل الضغط الساحق لجاهلية القرن الواحد والعشرين، أنها ستكون أولى ضحاياها، بينما يفر (الذكر) من الحلبة ك – (رجل!!) له من الحقوق ما ليس للمرأة من جهة، أو كبطل يغسل العار ويرد الاعتبار بسفكه لدم بريء من جهة ثانية.. الحلُّ متاحٌ وممكنٌ، ولكن.. يبدو لي اننا لم نخرج بعد من دائرة العلاج النظري الى دائرة العلاج العملي الشامل لمواجهة ظاهرة العنف! من الواضح أننا ما زلنا نتعامل مع وباء العنف والجريمة كما لو كان (رَشْحًا) خفيفا أصاب أنف مجتمعنا، ينفع معه القليل من (الأكامول)، والنزر اليسير من الشاي مع الليمون! في كل مرة تنفجر بؤرةُ عنفٍ تهز المجتمع العربي، تخرج اصوات لا أشك في اخلاصها تنادي: اين القيادة، ما دورها؟ لماذا ومتى وليت ولعل.. الخ.. فهل هذا هو السؤال الصحيح الذي يجب ان نطرحه كلما أسالَ الاجرامُ الأسودُ دماً بريئا او أزهق روحا طاهرة؟! دعوني اصارح الجميع بكلام فصل.. قيادة الجماهير العربية ومؤسساتها المتخصصة تقوم بدورها في مكافحة العنف، الا أنَّ دورها لا يمكن ان يكون بديلا عن دور القيادات الشعبية بكل مستوياتها، والقوى الحية بكل اتجاهاتها في كل موقع وموقع.. القيادة لا تستطيع التواجد في كل مكان وملاحقة كل انفجار يقع، او منع اي نزاع قد ينشب.. دورهم توعوي وسياسي ايضا، ففيه التوجيه وعقد المؤتمرات والتدخل المباشر في بعض الاحيان لفض نزاعات، بالإضافة الى الضغط على الجهات الرسمية: الحكومة والشرطة وغيرها من الجهات ذات الصلة، من اجل ان تقوم بدورها دونما أبطاء او تخاذل أو تمييز.. الا ان هذا لن يحل المشكلة بالشكل الذي نتمناه جميعا.. السؤال الذي يجب ان يطرحه كل واحدا فينا على نفسه: أين دوري في مواجهة العنف والجريمة؟! إن سأل كلٌّ منا نفسه هذا السؤال، كان ذلك المقدمة لتداعي كل الخيرين في كل بلد وبلد لأخذ زمام المبادرة والبدء في عملية اصلاح طويلة الامد وعميقة وصعبة أيضا. * الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني..