في عالم معاصر يعيش على وقع تغيرات وتوترات عديدة ومتسارعة أضحت الهجرة رهانا جيواستراتيجيا بامتياز ، إذ أصبحت الظاهرة محورا قارا على مستوى جدول أعمال المنظمات الدولية والأممية، والتجمعات السياسية والاقتصادية القطرية والإقليمية، لما تطرحه من تحديات متعددة الابعاد سياسيا واقتصاديا وأمنيا على مستوى العلاقات الدولية، لذلك تجد مختلف الدول المعنية بالظاهرة تبادر وتسارع إلى سن قوانين وتشريعات الهدف منها تأطير الظاهرة والحد من تداعياتها وتباعاتها على أمنها القومي وتركيبتها الاجتماعية وخصوصيتها الثقافية ونسيجها الاقتصادي، كما تركزت الجهود على تحويل الظاهرة من عائق سوسيواقتصادي إلى رهان تنموي. وهو ما زكى التنافس الحاصل آنا بين الدول على تطوير الأليات والسبل الكفيلة على المستوى القانوني والاستراتيجي للاستثمار الأمثل والإفادة الممكنة من الهجرة ومثال ذلك النموذج الانتقائي الكندي والألماني. والمغرب كدولة معنية بظاهرة الهجرة لما يشكله موقعه الجغرافي من عمق استراتيجي باعتباره بوابة إفريقية نحو أوروبا، وبفعل شراكته الاستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي التي بوأته مكانة “الشريك المتقدم” وبفعل جهوده الديبلوماسية الرامية إلى استعادة مكانته الطبيعية وأدواره المؤسساتية في المنتظم الإفريقي، وبفعل تحوله من دولة عبور وبلد مصدر للهجرة إلى بلد استقبال واستقرار، فقد عمل على التكيف مع هذا المستجد وعمل على سن تشريعات سياسية و قانونية تجلت في مجموعة من الاستراتيجيات البعيدة المدى و التي تشكل رؤية ناظمة وإجابة عملية على الإشكالات التي تنتج عن ظاهرة الهجرة وقد شكلت الاستراتيجية الوطنية للهجرة واللجوء أولى لبنات هذا الصرح التشريعي والتي صيغت طبقا للتوجيهات المتضمنة في الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 38 للمسيرة الخضراء لينطلق مسار جديد في السياسات العمومية بالاعتماد الرسمي للاستراتيجية الوطنية للهجرة واللجوء في 18 نونبر 2014، فضلا عن المسار الذي قطعه المغرب في التسوية القانونية والإدارية للمهاجرين المقيمين في المغرب بشكل غير قانوني والذي أعطى ملك البلاد انطلاقته بتاريخ 11 نونبر 2013، وهو ما جعل من المغرب نموذجا يحتذى به ورائدا إقليميا وجهويا في تدبير قضايا الهجرة ومشكلاتها ودليل ذلك تسمية المغرب في قمة الاتحاد الإفريقي الأخيرة كناطق رسمي باسم القارة في مجال الهجرة، وكذلك تكليف المغرب بإعداد الأجندة الإفريقية التي تعبر عن رؤية القارة في مجال الهجرة، ناهيك عن استعداد المغرب لاستضافة أشغال المؤتمر الدولي لاعتماد الميثاق العالمي للهجرة، وكذلك المنتدى العالمي حول الهجرة والتنمية، في ديسمبر 2018، هو مسار من الثقة تعزز في المغرب من طرف المنتظم الدولي. لكن الملاحظ اليوم مع عودة الهجرة السرية إلى السواحل المغربية وتجدد نشاط قوارب الموت يطرح أكثر من سؤال حول الظرفية الجيواستراتيجية لهذه العودة، وهل الأمر فعلا مرتبط بارتفاع منسوب اليأس في صفوف الشباب الحالمين “بالليلدورادو” الأوروبي؟ والهروب من واقع معيشي سمته الهشاشة الاجتماعية، والبطالة والفقر وغياب الشروط الموضوعية للعيش وكل الدوافع التقليدية؟ أم أنها مناورة سياسية يشهر فيها المغرب ورقته الرابحة في وجه شركائه الاقتصاديين وحلفائه السياسيين خاصة من جيرانه في الشمال؟ تشير الوقائع إلى أن المغرب وعلى مر العقد الأخير كان بمثابة دركي حدود بالنسبة لأوروبا يمنع وصول موجات بشرية قادمة من مناطق التوتر خاصة بمنطقة الساحل ودول جنوب الصحراء ويسهر على تثبيتهم على أراضيه وتسوية وضعية إقامتهم ويتغاضى عن مجموعة من ممارساتهم حتى وإن كانت غير شرعية وغير قانونية، مقابل رعاية مصالحه السياسية والاقتصادية، ودعم الملفات والقضايا الوطنية وتمويل المشاريع الخاصة بالتسوية القانونية وحق اللجوء. إن العودة الملاحظة لظاهرة الهجرة السرية وبهذه القوة وفي هذه الظرفية بالذات وتبديد رصيد الثقة والتراكم الذي حصله المغرب في المجال لا يمكن إيعازه “فقط” لعوامل اجتماعية واقتصادية، بالرغم من أهمية هذه العوامل إلا أنها تبقى ثابتة ودائمة ومستمرة فلماذا هذه السنة بالضبط وفي هذا التوقيت؟ جواب هذا السؤال يكمن في إعادة التلويح بورقة الهجرة في وجه شركائه التقليديين وخاصة الاتحاد الأوروبي وتقوية وضعه التفاوضي، بعد الاستفزازات الأخيرة في ملف الصحراء المغربية، وتجديد اتفاقية الصيد البحري إلى غيرها من القضايا الحساسة التي يفاوض فيها المغرب الاتحاد الأوروبي. مصطفى بنزروالة: باحث في العلوم الاجتماعية