في أي زمن نعيش في مجتمع الإقامة أو مجتمع المواطنة؟.. وهل تجاوزنا مجتمع الرعايا – أي المقيمين- لننتقل للعيش في مجتمع المواطنين؟.. لما لهذا الأخير من استحقاقات سياسية واجتماعية.. للجواب عن هذا السؤال الإشكالي لابد لنا أن نحمل مصباح ديوجين؛ ذلك الفيلسوف اليوناني الذي كان من تلاميذة سقراط، وكان طوال حياته يحمل مصباحا مضيئا، ويتجول به نهارا بحثا عن ما يسميه ب" أونيست مان" أي إنسان شريف محترم وفاضل… فلم يعثر عليه وسط شعبه.. فأصبح ذلك يحمل رمزية من يبحث عن الحقيقة الضائعة، ويؤمن بقيم مفارقة للواقع السائد ومتصادمة معه. وللتمييز بين مجتمع الإقامة ومجتمع المواطنة لابد من الرجوع لفيلسوف العقد الإجتماعي جان جاك روسو، فهو أول من ميز بين المدينة بمعنى la ville والمدينة بمعنى la cite ، فالأولى هي مجرد محل للإقامة، وأن صاحبها هو مجرد مقيم Resident، ولا يتمتع بأية حقوق للمواطنة، في حين تحمل الثانية دلالة المدينة السياسية، ويعتبر قاطنها مواطنا Citoyen يشارك في شؤون المدينة. ومجتمع المواطنة هو تلك القيمة المفتقدة، في واقعنا المغربي والعربي عموما، والتي لا يمكن أن نجد لها أثرا ولو أشعلنا مصباح ديوجين وكل مصابيح الدنيا، ففي مدننا مدن الرماد كما كان في المدن اليونانية القديمة، لن تجد من يتمتع بحقوق المواطنة إلا الحاكم وملأه وحاشيته من لوبيات مركب الاستبداد والفساد والتبعية، أما الباقي فهم مجرد مقيميين ومداويخ وخونة…الخ من الألقاب التي تجود بها قريحة الأسياد، فقوانين المدينة تعرف السيد بأنه سيد والعبد بأنه عبد، وليس له سوى حق الإقامة وسط أحزمة بؤس، اتسع مداها وضاقت أرزاقها وارتفعت أسعارها، وسادها العسف والتنكيل.. لقد عمل الحاكمون على إعادة هندسة جغرافية المجتمع، هندسة تعيد إنتاج أدوات القمع بشكل منهجي مدروس، وعهد لحكومة بنكيران شرف تنفيذ هذه المهمة بإخلاص وتفان، فجاءت القوانين الجديدة التي قطعت رأس الطبقة الوسطى، فبدل القضاء على القراد فقد قطعت رأس الكلب حسب بلاغة بنكيران المعهودة ، فاختل ميزان العدالة الاجتماعية، فوجدنا أنفسنا بدل ثلاث طبقات اجتماعية أمام طبقتين؛ طبقة الغنى الفاحش المتمثلة في اخنوش وجماعته، التي في ظرف سنوات معدودة، ضاعفت من حجم ثرواتها أضعافا مضاعفة، وتحولت من مجرد لوبيات للفساد المالي إلى لوبيات للفساد السياسي بامتياز، وبدأ النظام يعدها لاحتلال كامل المشهد السياسي في أفق انتخابات 2021 ، وطبقة الفقر المدقع التي تمثل الغالبية العظمى من المجتمع، والتي يدفعها وضعها الاجتماعي البئيس، للمساومة الرخيصة من أجل دفع إكراهات الجوع الكافر، بالتضحية بكل قيم الكرامة الإنسانية، وأمام هذا الاختلال الاجتماعي المريع، أصبحت الحرية تباع وتشترى كما يقرر صاحب كتاب "العقد الاجتماعي".. الباطرونا تشتري والفقراء يبيعون، فيتحولون إلى أقنان وعبيد، يعرضون حرياتهم للبيع في سوق النخاسة السياسية لمن يحتكر لقمة عيشهم، ويمتلك حق تمديد فترة تعاقدهم في وظائفهم أو قطع دابرها بمكالمة هاتفية خاطفة.. وبهذه الإصلاحات التي قامت بها حكومة ما بعد دستور 2011، تم تحويل المجتمع من مواطنين مواطنتهم كانت منقوصة على أية حال، إلى مجرد رعايا مقيمين بدون هوامش مواطنة. فما معنى أن يكون الإنسان حرا في تفكيره؟.. وحريته لا تتجاوز عتبات العالم الافتراضي، وإذا ما حاول أن يمارسها في عالم الواقع، احتوشته آليات القمع من كل مكان، كما شاهدنا ذلك في مدينتي الحسيمة وجرادة الصامدتين وغيرهما، وحتى هذه الحرية الافتراضية على علاتها، بدأت تتعالى بعض الأصوات الموتورة، لبعض أولي النعمة من القيادات النقابية العتيدة لمحاصرتها، حتى يتم بناء قلعة القمع الحصينة.. وما معنى أن يكون الإنسان حرا في وظيفته؟.. وقوانين المدينةالجديدة حولتها إلى عبودية مقيتة، ونزعت منها مبدأ الحق، وألحقتها بتعاقد هجين، يستطيع من يمسك خيوطه أن يقطعها في أية لحظة.. وما معنى أن يكون الكائن في بلادنا حرا بالتمتع بالحياة؟.. والبحث المضني والعسير أمام ضعف الراتب وارتفاع الأسعار عن لقمة العيش، يستغرق حياته من المهد إلى اللحد؟.. فهل تمثل حركة المقاطعة المجيدة اليوم رافعة جديدة لمنسوب الحرية وقيم المواطنة، لنقلنا نقلة نوعية من مجتمع الرعايا المقيمين، إلى مجتمع المواطنين الأحرار؟.. هذه انتظاراتنا المقبلة.