لا تحتاج السياسة والسياسيون في بلدنا إلى مزيد من الإساءة وخدش الصورة والتعريض بالمصداقية والفعالية. يجب أن نعترف أن ما نالهم في العقدين الأخيرين من تنكيل واستهداف حقق فائضا في التبخيس والتيئيس. اليوم لا زلنا نحاول عبثا فهم أسباب العزوف عن السياسة وانصراف الناس عن الاهتمام بالشأن العام وتفسير أزمة الثقة التي تجذرت بين الطرفين. هناك طبعا عوامل عديدة تاريخية وثقافية واجتماعية أدت إلى إنتاج هذا الواقع لا مجال للتعمق فيها الآن. الذي ينبغي التوقف عنده الآن وبشكل مستعجل هو أن هذه الأسباب الموضوعية تنضاف إليها أسباب ذاتية مستغربة ومرفوضة تنبع من الحقل السياسي والحزبي نفسه. أقصد هنا من قلب المؤسسات المنتخبة سواء التشريعية أو الترابية والتي للأسف امتهنت بعض نخبها مهنة التآمر على المنتخبين الآخرين والعمل على تشويههم وعرقلة أنشطتهم وتبخيس مبادراتهم. إن من شروط المواطنة لدى الفاعل السياسي، الإيمان بالآخر والدفاع عن حقه في الوجود والتعبير، وعدم الإساءة بما يفضي لإقصائه. لكن وللأسف، ابتلينا في الآونة الأخيرة ببعض النماذج في المؤسسات المنتخبة ممن يعملون جاهدين على قتل البقية المتبقية من المصداقية التي يحظى بها المنتخبون، بخلق معارك دونكيشوطة بالمعنى الذي عبر عنه المثل العربي "جعجعة ولا أرى طحينا". وهذا يضر بالممارسة السياسية قبل أن يضر بهؤلاء "الفاعلين التاركين" للسياسة. إن استبدال النقد بالتجريح، والتواصل بالتآمر، يكشف عن فراغ مهول في قيم الديمقراطية والإنسانية بصفة عامة ويحول السياسيين إلى وحوش تحركهم نزوعات حيوانية في الدفاع عن مجال إشباع الرغبة الذاتية المحضة. هذا النوع من السياسيين يستدعي أساليب وممارسات تنتمي إلى عصور غابرة كانت فيها هيمنة الحزب الوحيد سببا في ذلك السباق المحموم نحو الزعامة والذي قد يدفع البعض إلى حد ارتكاب جرائم كتصفية الخصوم وقتلهم أو تشريدهم أو نفيهم خارج البلاد، ولا زال التاريح السياسي الحديث شاهدا على حجم الدم الذي جرى تحت جسر الأحزاب السياسية غداة الاستقلال. هذه العقلية الستالينية اتخذت مظهرا مخالفا اليوم، حيث أصبحت التصفية والمذابح معنوية، وما أخطر هذا النوع من التصفية على المنتخبين وعلى السياسيين الذي يجدون أنفسهم فجأة وبدون سابق إنذار وسط حملة دعائية وتحريضية تحاول النيل من صورتهم ومن نزاهتهم، بتوظيف مواقع إلكترونية أو شبكات التواصل الاجتماعي وتزداد الصدمة أكثر عندما يدرك الضحية أن كم يقف خلف من يستهدفونه هم مسؤولون ومنتخبون يشاركونه الجلوس تحت قبة البرلمان أو السير في ردهات المجالس البلدية والجهوية. وغالبا ما تنتهي كثير من هذه الحملات إلى كونها مجرد إشاعات أو مغالطات أو أخبار مبتورة يصعب بعد ذلك تصحيحها أو تصويبها، لأن الأذى الذي لحق الضحية لا يمكن أن يجبر بتكذيب أو تصويب. خطورة هذه السلوكيات تبلغ مداها عندما توظف الإعلام العمومي الممول من جيوب المواطنين لأداء مهام قذرة مثل هذه التي تحدثنا عنها. تخيلوا معي حجم الإساءة والضرر الذي يصبح شاملا فيؤثر على مصداقية الإعلام والمؤسسات والسياسيين والنخب ككل. وتصبح المؤامرة متعددة الأبعاد لا تقتصر فقط على معارك ثنائية بل تنال من كل أركان الحياة العامة وكل هذا لأجل مصلحة شخصية ضيقة يسعى وراءها هذا المنتخب أو ذاك. لا بد وقفة تقويم إذن لمراجعة الذات وتقويم هذه الانحرافات التي نحن في غنى عنها في حقلنا السياسي المليء بالألغام والذي تواجهه تحديات كثيرة ليس أقلها التخليق ومعركة استرجاع المصداقية والفعالية. ولا يجب أن ننسى أيضا أن المواطنين لا ينتظرون منا كمنتخبين أن ندخل في صراعات ثنائية ليس لهم فيها ناقة ولا جمل، بل إن ما ينتظره المغاربة من هؤلاء المنتخبين هو الانكباب على إيجاد الحلول العملية والمستعجلة لكل احتياجاتهم في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وإذا كان البعض منا قد حول معركته من هذه الانتظارات إلى معارك شخصية انبرى فيها لقذف خصومه وزملائه المنتخبين فكيف نرجو من مثل هؤلاء أن يعيدوا ثقة المواطن في السياسة؟