بقلم: عبد الإله بلقزيز، كاتب ومفكر مغربي اجتمعت عوامل مختلفة، متفاوتة الأثر، لتفتح أمام خيار الإصلاحات الدستورية في المغرب إمكان التحقق، بعد ان حصل تردد في شأن الاقدام عليه، في السنوات العشر الماضية، على الرغم من تكرر الدعوة الى ذلك في اوساط المجتمع السياسي – وقد حمل عليها تبين الحدود المتواضعة للتعديلات الدستورية المصوت عليها في العام 1996 وعلى الرغم من أن قيام عهد جديد في البلاد، غداة رحيل الملك الحسن الثاني وتولي الملك محمد السادس مقاليد البلاد, يفرض مثل تلك التعديلات بما يتناسب و موجبات الحقبة الجديدة. والعوامل تلك ما اجتمعت حديثا وعلى حين غرة،و انما أكثرها وجد متصلا بعضه ببعض في فترة ماضية قريبة، لكن اقترن اجتماعها اليوم بظرفية سياسية جديدة وفر لها مساحة إمكان لم تكن متاحة حتى زمن قريب. نميز، في هذا المعرض، بين ثلاثة من أظهرها وأفعلها اليوم: ارادة القوى الديمقراطية وجماهير عريضة من الشعب، ورغبتها في استكمال عملية التصحيح لأوضاع النظام السياسي في المغرب، التي انطلقت مع التصويت على التعديلات الدستورية للعام 1996 و حاجة النظام الى اصلاح نفسه وتعزيز صورته الديمقراطية التي حرص الملك على تكريسها منذ تصفيته بعض مواريث حقبة القمع السابقة لتوليه الحكم، ثم الضغط الشعبي الكثيف، المطالب بالإصلاح والديمقراطية، الذي شهد انعطافة مفصلية منذ بداية العام 2011 منذ وقع رجالات الحركة الوطنية المغربية «عريضة المطالبة بالاستقلال»في 11 يناير 1944 كان واضحا أن شكلا من اشكال التلازم بين المسألة الوطنية والمسألة الديمقراطية نشأ في الوعي الوطني على نحو مبكر،و عبر عنه تشديد العريضة على وجوب تمتيع المغرب المستقل، بمؤسسات ديمقراطية منتخبة. وما توقف حزباها الرئيسيان (حزب الاستقلال) والاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن الالحاح على المسألة الدستورية غب استقلال البلاد، وفي عز مشاركتهما في تشكيل حكومات العهد الاول للاستقلال (حكومة الزعيم الاستقلالي الحاج احمد بلافريج، وحكومة الزعيم الاتحادي عبد الله ابراهيم )غير أن »الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بدعم من نقابة الاتحاد المغربي للشغل (بزعامة المحجوب بن الصديق) وتيار المقاومة وجيش التحرير في الحزب (بزعامة محمد الفقيه البصري)، دفع بالمطلب الدستوري بعيدا حين شدد على وجوب انتخاب هيئة تأسيسية لوضع الدستور، وهو مارفضه النظام وأسقط المطالبة به ليفرض ما ظل ينعت في أدبيات «الاتحاد الوطني» واليسار باسم الدستور الممنوح. ومنذ وضع أول دستور للبلاد في الاعم 1962 شهد المغرب ستة تعديلات فيه: اربعة منها اساسية في الاعوام 1970، 1972، 1992، 1996 واثنان جزئيان حول سن ولاية العهد (1980) وحول توقيت عرض الميزانية الرسمية للدولة على المناقشات في البرلمان. وباستثناء تعديلات العام 1996، التي صوت «الاتحاد الاشتراكي «بزعامة عبد الرحمن اليوسفي عليها، قفد ظل الحزب طيلة الفترة الفاصلة بين العام 1962 وبداية التسعينات – في عهد قادته الثلاثة الكبار: المهدي بن بركة وعبد الله ابراهيم وعبد الرحيم بوعبيد – ممتنعا عن التصويت على دستور لم يحد عن اعتباره ممنوحا حتى وهو يشارك في جميع الانتخابات النيابية والبلدية والقروية التي نظمت في نطاق احكام الدستور عينه. ولم يكن عسيرا فهم سبب هذا التحول «المفاجئ» الذي طرأ على موقف الحزب من شرعية نص دستوري ظل يطعن فيها طويلا وباستماتة واصرار انهارت بهما الثقة بينه وبين النظام، فلقد كان على الحزب – حينها – ان يصوت لصالح الدستور حتى تتشكل حكومة «التناوب التوافقي» التي ترأسها عبد الرحمن اليوسفي في مارس 1998 بعد حصول الحزب وحلفائه على ثلث مقاعد مجلس النواب في انتخابات العام 1997 والحق أن هذا التحول ما بدأ هكذا بغتة في العام 1996، بل ارهصت مقدماته في العام 1991 حين وجه كاتبه الاول الراحل عبد الرحيم بوعبيد والامين العام السابق لحزب الاستقلال امحمد بوستة مذكرة دستورية الى الملك الحسن الثاني، فهم منها ان الحزبين مستعدان للتفاهم على صيغة دستورية تحظى بالتوافق وتكسر قاعدة مقاطعة التصويت على الدستور، او التصويت عليه سلبا، التي درج عليها. وليس من شك في أن الملك كان في حاجة إلىكسر تلك القاعدة التي حرمت النظام من الاعتراف الجماعي بشرعية الدستور. وقد فتحت المذكرة الدستورية الطريق امام تشكيل »الكتلة الديمقراطية« من الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال، والاتحاد الوطني، وحزب التقدم والاشتراكية، ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، قبل انسحاب عبد الله ابراهيم منها, مثلما فتحت الطريق امام التعديلات الدستورية بتاريخ 4 شتنبر 1992 ، وهي التعديلات التي لم ترض احزاب الكتلة. هذه لمحة تاريخية ضرورية لبيان المكانة التي شغلتها المسألة الدستورية في الخطاب السياسي للحركة التقدمية المغربية وتراثها النضالي، ثم لإضاءة جانب من جوانب التطور الذي سلكته المطالبات الدستورية وصولا الى الصيغة الدستورية الجديدة التي استقرت عليها في الاستفتاء الشعبي لليوم الفاتح لشهر يوليوز 2011. لم يكن لتكريس صبغة «التناوب التوافقي» التي أنتجت، حتى الآن، ثلاث حكومات تعاقب على رئاستها – منذ العام 1998 حتى اليوم عبد الرحمان اليوسفي وادريس جطو وعباس الفاسي، وسمحت لقوى الكتلة الديمقراطية بالمشاركة فيها وادارتها، ان يضع فصلا ختاميا للمطالبة باستكمال الاصلاحات الدستورية. صحيح ان التشديد على هذه المسألة تضاءل حجما وكثافة وتراخى حماسة عما كان عليه في سنوات التسعينات وما قبلها، لكنه لم يكن يوفر مناسبة سانحة للجهر بنفسه: في مؤتمر حزبي، او في اجتماع جهاز تقريري لحزب من احزاب اليسار، او في بيان سياسي مشترك… الخ. ولقد كان مما فرض تجديد خوض الحديث فيه ان تجربة التناوب التوافقي عينها، والتجربة النيابية الناشئة في اعقاب الانتخابات البرلمانية في الاعوام 1997، 2002 و 2007 اعتورتها شوائب عدة وكشفت عن مواطن الخلل في البنيان الدستوري، الامر الذي سوغ العودة المتكررة الى مطلب الإصلاحات الدستورية. حين نشأت الظرفية المناسبة للذهاب بهذا المطلب من الخطاب السياسي الى الشارع، وكان ذلك في سياق انطلاق مسلسل الثورات العربية وميلاد حركة 20 فبراير في المغرب، كان المطلب هذا يستقر على صيغة وعلى شعار الملكية البرلمانية، وينتج جمهوره السياسي والاجتماعي الحامل له والذاهب به الى مستوى من الضغط الشعبي غير مسبوق. كان المطلب هذا سياسيا ومبكرا في اول مرة،و يعود تاريخه الى المؤتمر الثالث للاتحاد الاشتراكي في اوائل دجنبر 1978 ثم ما تلبث منظمة العمل الديمقراطي الشعبي ثم الحزب الاشتراكي الديمقراطي بعد انقسامها ان انفردت بحمله والتنظير له. لكن المطلب هذا تحين وفرض نفسه منذ فبراير 2011 وامسى مطلبا شعبيا، الامر الذي الذي حمل احزابا اخرى من اليسار واليمين على تبنيه وتقديم مقترحاتها الدستورية على قاعدته، مثلما حمل لجنة التعديلات الدستورية على اثباته في مسودة الدستور، وحمل على تثبيته في الصيغة النهائية المعروضة على الاستفتاء، وان قرن فيها وصف الملكية بالبرلمانية بأوصاف اخرى مترادفة (دستورية، ديمقراطية اجتماعية). ومع ان الدستور المعدل الحالي حظي بنسبة تصويت شعبي عالية في استفتاء 1 يوليوز 2011، وبموافقة الاحزاب السياسية الاكبر والاهم في البلاد،و نظر اليه كنص توافقي اخذ بمقترحات الجميع ولم يفرض نفسه على الشعب والمجتمع السياسي كدستور ممنوح.. فقد ظل في وسع احزاب و جماعات سياسية اخرى ان تعارضه وان تقاطع التصويت عليه، او ان تدعو الى التصويت ضده، وان تنتقده بشدة وتصفه بأنه دستور ممنوح، وان ترى فيه نكسة سياسية واحباطا لمطالب التغيير، وان تعثر فيه على ملامح صريحة او مضمرة للحكم الملكي المطلق… الخ .وتلك حال احزاب وجماعات سياسية وحركات احتجاجية مثل حركة 20 فبراير، وحزب الطليعة والحزب الاشتراكي الموحد«. وليس للباحث الموضوعي، وأيّاً يكن موقفه من هذا النمط من الرفض الراديكالي للدستور الذي ينوء البلد وتوازناته السياسية والاجتماعية بحمله، إلا أن يستدمج هذا الرفض في التراث النضالي الديمقراطي المغربي، وأن يرى فيه مقدمة مبكرة لطور جديد قادم من الإصلاح الدستوري، أو قل من استكمال حلقاته وصولا الى الملكية البرلمانية. حكمت النظام السياسي في المغرب منذ وضع أول دستور للبلاد في العام 1962 مفارقة مثيرة: التشدد في النصوص (الدستورية والقانونية) والمرونة وأحياناً التسامح في التطبيق. ومن داخل هذه المفارقة كان يمكن لكثير من الهوامش أن تُفتح أمام حياة سياسية مستقرة ومنتظمة الى حد. من يقرأ الدستور المغربي في صيغته التأسيسية الأولى وفي صيغه المعدلة الى حدود ما قبل الدستور المعدل الجديد، أي خلال قرابة خمسين عاما (2011/1962)، قد لا ينتبه الى الكثير من فصوله التي تقضي أحكامها بإقرار حقوق سياسية ديمقراطية عديدة كالحريات، والتعددية السياسية، والتمثيل والرقابة على العمل الحكومي والضمانات القانونية أمام القضاء، والمساواة في الحقوق والفرص بين الجنسين… إلخ، لكن الذي لاشك فيه أن الذي يشدّ انتباهه أكثر (هو) ما يتمتع به الملك من سلطات عدة وغير مقيّدة، وخاصة تلك التي يتضمنها الفصل 19، فصل الفصول في الدستور المغربي. هذا ما كان في أساس النظرة النمطية الى الملكية في المغرب كملكية مطلقة. والحق أنه ليس من اليسير على من يعرف النظام المغربي من الداخل أن يقول باطمئنان، إن نظام الحكم الذي ساد في المغرب، قبل الاستفتاء على الدستور الجديد في 1 يوليوز 2011، هو نظام الحكم الملكي المطلق إلا إذا اختار أن يستنتج ذلك من نصوص الدستور، أو شاء اختزال الدستور في الفصل 19. وفي الظن أن مثل هذه القراءة النصوصية ليس سبيلا صحيحاً إلى فهم طبيعة النظام السياسي القائم، ولا إلى اطلاعنا على خريطة الممكنات السياسية فيه مما لا نجد في النصوص ما يقابله ويقضي به. وإذا كان في جملة ما تُخطئه هذه القراءة أنها تسقط في نزعة اختزالية (Reductionisme) حيث لا ترى في النص الدستوري سوى فصله التاسع عشر، وتضرب صفحًا عما سواه من فصول تقرر أحكامها حقوقاً معتبرة، فإن مما تُخطىء الانتباه إليه هو أن الدستور الضمني غير المكتوب أفعل أثراً في أحايين عدة من الدستور المكتوب. وهذه حقيقة يقوم عليها أكثر من دليل في المغرب وفي حياته السياسية منذ الاستقلال. في ضوء هذه القاعدة، يمكننا أن نلحظ حقيقتين مترابطتين: أولاهما أن سعة السلطات التي تعود الى الملك لم تمنع المغرب من أن يتمتع منذ استقلاله بأسباب حياة سياسية مستقرة ومنتظمة نسبياً، تَوَفَّرَ فيها الحد الأدنى من الحريات (حرية التعبير والتنظيم والتظاهر وتشكيل الجمعيات والأحزاب….)، وانتظمت فيها المواعيد الانتخابية، وحصلت فيها المرأة على الكثير من حقوقها، والعمال والفلاحون والمهنيون على حقهم في الانتساب الى نقابات مستقلة عن السلطة… إلخ. وثانيهما أن الصلة التي ما انقطعت بين الملك والحركة الوطنية أنضجت شروط تفاهمات متبادلة تجاوزت معطياتها ونتائجها نطاق النصوص الدستورية المكتوبة والأطر المؤسسية القائمة. وفي نطاق مثل هذه التفاهمات (الدستور الضمني) أمكن مثلا تدشين سياسة »»التناوب التوافقي«« الذي سمح لأحزاب »الكتلة الديمقراطة« أن تشكل حكومة بقيادة زعيم »الاتحاد الاشتراكي« عبد الرحمن اليوسفي، وأمكن إعمال قاعدة »المنهجية الديمقراطية« التي سمحت بتأليف حكومة عباس الفاسي الحالية. ومع أنه ظل من المُستحَب أن يغطي هذا »»الدستور الضمني»« الثُّغر ومَواطن الخلل في الدستور المكتوب، ظل من المأمول أن تُجسر هذه الفجوة نهائياً من طرق كتابة دستور عصري يُعاد فيه توزيع السلطة على نحو متوازن، وتنتقل به سلطات عدة للملك الى الحكومة والبرلمان. وقد نُظر الى العهد الجديد، منذ تولي الملك محمد السادس مقاليد البلاد في يوليوز 1999، بوصفه العهد المناسب لمثل هذه الثورة الدستورية التي ينتهي بها عهد الملكية التنفيذية لتحل محلها ملكية برلمانية. وقد شجعت سياسات الملك محمد السادس على الذهاب في هذا الاعتقاد، وخاصة تلك التي تكرّست لتصفية مواريث الاستبداد والقمع وإنصاف من أصابهم أذى منها، أو سعيه الحثيث الى تصحيح صورة الملكية في الوعي الجماعي من خلال إسباغ الطابع الاجتماعي عليها كمؤسسة منصفة للفقراء، أو دعوته الى تبني »»مفهوم جديد للسلطة«« على أن هذه الانتظارات الدستورية طال أمدُها قليلا قبل أن تضعها المتغيرات الثورية العربية على جدول الأعمال مسألة للتنفيذ، ثم مدخلا الى استيعاب ذيول ما يجري خارجاً على داخل اجتماعي وسياسي جاهز للاستقبال. أُجيب عن هذه الانتظارات الدستورية جواباً رسمياً عميقاً في خطاب الملك محمد السادس في 9 مارس 2011. ولعل ذلك الخطاب هو ثاني أهم خطاب في تاريخ المؤسسة الملكية في المغرب بعد خطاب جده الملك محمد الخامس الذي أعلن فيه استقلال المغرب قبل ستة وخمسين عاماً. وليس من باب المبالغة والتزيّد أن يقال، إنه الخطاب الذي يفتح طريقاً نحو إعادة تأسيس الملكية في المغرب على نحو عصري، إذ ليس تفصيلا أن يضع الملك سلطاته ماعدا إمارة المؤمنين أمام المناقشة الدستورية والتداول السياسي والتعديل بعد أن كانت لعقود منطقة محرّمة على التفكير وخارج أي نقاش عمومي أو غمز ولمز، ولا أن يؤلف لجنة للتعديلات، معظم أعضائها من غير المحسوبين على السلطة، وأن يطلب منها الاجتهاد خارج نطاق توجيهاته وبحرية مهنية تامة. إن الذي يستفيده المرء من هذه السياقات هو أن من العوامل الرئيسية في التمكين لهذا الإصلاح الدستوري، فضلا عن النضال الديمقراطي للشعب وقواه، عامل الإرادة الملكية. إن أي محلل موضوعي، عارف بسياقات السياسة في المغرب، لا يسعه إلا الاعتراف بأن إرادة الملك في التغيير اختصرت الطريق على الإرادة العامة للتغيير. مثلما بدت حركات الشباب العربية مفاجئة للجميع: في زخمها الثوري، وقوة الإصرار لديها، ورباطة جأشها في مواجهة بطش أجهزة القمع، كذلك بدت حركة 20 فبراير الشبابية المغربية حين انطلقت، وحين حشدت جموع الناس وراءها، وحين صاغت شعاراتها بجرأة وواجهت أجهزة الأمن في مسيراتها والاعتصامات. كانت تعرف، منذ البداية، ماذا تريد وأفصحت عنه في مفردات مطلبية في غاية الوضوح: الإصلاح السياسي، محاربة الفساد، إقامة الملكية البرلمانية. لم تبدأ بشعارات متواضعة لتنتهي الى رفع أخرى أعلى سقفاً وأشدّ راديكالية، مثلما حدث في ساحات عربية أخرى، وإنما تمسكت بما به ابتدأت ولم تَحِدْ عنه وهي، بهذا الحسبان، ما سقطت في تجريبية هي عدو كل حركة نضالية في التاريخ، لأن قدراً كبيراً من الوضوح كان لدى حملة فكرتها والقائمين على أمرها من القيادات الشبابية. والقول بالمفاجأة إنما ينطوي على اعتراف بوجود فجوة بين الأجيال في المغرب، كما في البلاد العربية كافة، تفسّر وحدها لماذا لا يقع الحد الأدنى الضروري من التماس والتواصل الذي يسمح بحُسن التوقع، أو بحُسن التقدير، أو على الأقل بتخفيف وقع المفاجأة على من وقعت عليهم من النخب والرأي العام. وقد يصحّ أن يقال إن الذين تفاجأوا بالحركات الشبابية وطاقاتها الاحتجاجية والثورية كثر: السلطة بأجهزتها واستخباراتها، والأحزاب السياسية والصحافة والإعلام، والقوى الدولية وسفاراتها. ويصحّ أن يقال ذلك عن البلدان العربية التي نجحت فيها الثورة، وعن التي ما برحت تعيش مخاضاتها، كما التي أُجهِضت فيها الى حين. على أن الذي يعيد تصويب النظرة الى المسألة، بعيداً عن مفردات المفاجأة والدهشة والذهول، أن الثورات عادة ما تأتي مفاجئة، وأن الحديث عن مقدماتها وإرهاصاتها يأتي بعداً وحين تستقيم لها الأمور، وهل كانت ثورات أوربا الشرقية مثلا إلا هكذا؟ الثورات في التاريخ كالزلزال والبركان في الطبيعة، ظواهر كبرى قد لا تكون قابلة للتوقع. وكما يكون للزلزال مركز وتعقبه تردُّدات، كذلك كان لزلزال الثورة العربية مركز في تونس ومصر أعقب حدوثه، على الفور، ترددات متفاوتة القوة والأثر في الأعم الأغلب من المجتمعات العربية. ولقد وصلت آثار ما حصل الى المغرب هزة عنيفة لا طمئنانه السياسي الرتيب، وليس يمكن قراءة حركة 20 فبراير إلا بما هي لحظة في هذا السياق من النهوض الاحتجاجي الذي أطلقته الثورتان التونسية والمصرية وفك به عِقال المستقبل المحجوز أو المعلق على حبل الترحيل والإرجاء بسبب التردد أو بسبب امتناع ميزان القوى. وليس في هذا مطعن عليها ولا افتئات، فالحركة وُلِدَت من رحم هذا الانعطاف التاريخي الكبير الذي شهدته الحركات الاجتماعية العربية منذ مطلع العام 2011، ونقل الصراع ولأول مرة منذ عقود من صراع بين معارضات شائخة ومنهكة وأنظمة استبدادية شرسة الى صراع بين مجتمعات ناهضة وأنظمة آفلة. وهي حملت معها روحية ذلك الانعطاف الكبير فتجلت حركة ذات طاقة فعلية وافتراضية تؤخذ في اعتبار أي حساب سياسي: من السلطة كان أم من الأحزاب. فأما طاقاتها الفعلية، فأفصحت عن نفسها في قدرة تعبوية ملحوظة على حشد قطاعات عريضة من الشباب المغربي في المعركة الديمقراطية، على نحو ما تبيَّنت علائمه في المسيرات التي دعت إليها ونظمتها، وفي اضرار قوى سياسية الى الانخراط في تحركاتها. وأما طاقتها الافتراضية، فقد أُدرِكَتْ إمكاناتُها المخبوءة من سرعة الاستجابة الرسمية لمطالب الإصلاح التي حملتها، ومن الوعي الاستباقي بأن تجاهُلَها أو التّباطؤ في إجابتها سوف يمنحها فرصة أوفر للتوسع وكسب الكثير من القواعد والأنصار. وهو إدراك تقاسمته السلطة والاحزاب على حد سواء وخاصة بعد أن تبين للفريقين حدود محاولتهما لاحتواء الحركة أو تكييف مواقفها مع هذا الخيار أو ذاك. ربما كان أثمن رأس مال لدى حركة 20 فبراير هو استقلاليتها، وهو قطعا ما صنع لها فعاليتها وتأثيرها وصدقيتها حتى أنها تكرست في لحظات من الحراك الديمقراطي كمركز لصناعة القرار السياسي المتعلق بالاصلاحات الدستورية وحتى بدون أن تنوي النهوض بأدوار تفيض عن الدور الذي أرادته لنفسها منذ البداية، وهو استنهاض المجتمع داخل الاطر الحزبية الضيقة بسبب فقدانها قوة الضغط الخليقة بتوفير أسباب التحقق المادي لها. ويتصل باستقلالية حركة 20 فبراير (عن أي مركز حزبي) تميزها من المجتمع الحزبي في المغرب على صعيد أدوات العمل ووسائط التواصل والتعبئة. فهي تخطت بمسافات بعيدة، حدود العقل التنظيمي الحزبي المغلق على يقينيات أدواتية بالية، وأبدعت أساليب خلاقة مما بين يديها من موارد تواصلية حديثة مكنتها من فرص أوفر للتعبئة والتحشيد. على أن بيان وجوه التمايز بين حركة 20 فبراير والاحزاب والتنظيمات السياسية، والتشديد على ولادتها من خارج الهيئة الحزبية المغربية والتنويه بأدائها التعبوي والتنظيمي المتميز.. ليست جميعها قرينة على أن الحركة منفصلة تمام الانفصال عن المجتمع الحزبي في المغرب وجديدة تمام الجدة على الحياة السياسية في المغرب. إنها أحدثت قطيعة حاسمة مع الثقافة التنظيمية الحزبية وتقاليدها السيئة من حلقية، وانغلاق وانفصال عن المحيط الاجتماعي ومخاطبة فوقية له… إلخ، وأعادت للسياسة حيويتها ونصابها كشأن عام لا كحرفة تمتهنها نخبة صغيرة وتنوب عن المجتمع والشعب في ممارستها وحررتها من الموسمية الانتخابية غالبا، ومن تقاليد المساومة والرسائل الرمزية المتبادلة بين المعارضة والسلطة فجعلتها ناطقة بعد خرس, فصيحة بعد تلعثم. غير أن الذي لا مرية فيه أن 20 فبراير خرجت، أيضا من رحم الثقافة السياسية الديمقراطية والتقدمية في المغرب التي انتشرت في الثلاثين عاما الاخيرة في البلاد، وساهم في نشرها الاحزاب والمثقفون والصحافة. وآي ذلك شعارات الحركة ومواقف وتصريحات رموزها القيادية من الشباب فهي تنضح جميعها بملامح الشبه والنسب إلى الحد الذي يسوغ معه القول بدون مبالغة أو تزيد, إننا نشهد ميلاد جيل سياسي جديد في المغرب يؤسس علاقته بمن سبقه من الاجيال على قاعدة الاستمرارية والقطيعة معا وفي الآن عينه: استمرارية في التقاليد النضالية وفي الثقافة الديمقراطية وقطيعة في وسائل العمل والادوات ومفردات التعبئة. من النافل القول إن ميلاد هذه الحركة في شروط النهوض الاحتجاجي والثوري العربي، كان ضروريا حتى توضع قضية الاصلاحات الدستورية في المغرب على جدول أعمال السياسة والمداولة. ليس لنزيه أن يتجاهل السهم الكبير للإرادة الرسمية- الارادة الملكية خاصة- ولعمل أهل الخيار الديمقراطي جميعا في المغرب: أحزابا ونخبا وأفرادا في فتح الطريق أمام التداول في تلك الاصلاحات ووضعها موضع التنفيذ، غير أن الذي لا مراء فيه أن أن الامر احتاج إلى حامل اجتماعي للفكرة وإلى قوة ضغط شعبية يصبح بهما في الامكان اخراج البلاد والحياة السياسية فيها من الرتابة والتردد والاسئلة القلقة على المستقبل, إلى حيث تتناول مصيرها بشجاعة وتفتح بعضا من أكثر الملفات حساسية في النظام السياسي. ولقد كانت حركة 20 فبراير من وفر لمطلب التغيير هذا حامله الاجتماعي وقوته المادية. هذه خلفية ضرورية لإضاءة المداخل الاساسية إلى موضوع الاصلاحات الدستورية في المغرب، وأولها وأميزها القوى التي كان لأدوارها الأثر الكبير في إطلاق عملية الاصلاحات تلك. سيكون من الخطأ نسبة ما جرى إلى فريق بعينه دون آخر، حتى وإن كان من الواجب التسليم بالتفاوت في القدرة التأثيرية بينهم، ذلك أن الاصلاحات على نحو ما أعلن عن صيغتها الدستورية التي وقع الاستفتاء عليها أتت شراكة بين قوى متعددة (المؤسسة الملكية، الحركة الديمقراطية، حركة 20 فبراير ) أما حصة كل طرف في الشراكة وحقوقه فيها، ونسبة الشعور عنده بالانصاف والرضا مما تحصله منها, فأمور يختلف فيها بين الناس وسنأتي إلى بعضها بالبيان لاحقا. المهم هنا، في هذا الصعيد من النظر إلى الموضوع, أن ما أعلن حتى الآن من اصلاحات لم يكن ترجمة لرغبة فريق من المجتمع السياسي واحد، وإنما ثمرة تفاعل بين ارادات بدا بعضها متباعدا، فيما بدت جسور ممدودة بين بعضها الثاني واضحة لا تخطئها العين. وما أغنانا عن القول إن ميلاد إصلاح من رحم تفاعل وشراكة ليس تفصيلا عاديا يمكن الاشاحة عنه، أو استصغار شأنه، ذلك أنا ما تعودنا في الحياة السياسية العربية على النظر إلى ثمار الصراعات السياسية إلا بما هي منة من الحاكم وأعطية أو غلبة لمعارضيه عليه وانتزاع، وليس بين الحدين من منطقة وسطى فثقافتنا السياسية تظل حتى اشعار آخر فقيرة إلى فكرة التعاقد والتوافق ويتعصى عليها لذلك السبب فهم »»نوازل»« سياسية كالنازلة المغربية. 2 دخل مطلب الملكية البرلمانية حيز التداول العمومي منذ فبراير 2011 غداة الثورة المصرية، بعد فترة مديدة ظل فيها مطلب احزاب وتنظيمات من اليسار المغربي ضعيفة التمثيل السياسي والقاعدة الاجتماعية (أكبرها وأعرقها الاتحاد الاشتراكي). ويعود إلى حركة 20 فبراير الدور الأكبر في انعاش هذا المطلب وادخاله النطاق المطلبي العمومي شعارا رئيسيا لتعبئة جمهور التغيير في المغرب. وهي شجعت بزخمها واندفاعتها الاولى كثيرين على كسر التردد حياله والتزامه هدفا لمطالبها الاصلاحية. وهذه حال بعض الاحزاب التي تضاءل حجم مطلبها الديمقراطي بعد أن اشركت في السلطة منذ بدء العمل ب «التناوب التوافقي»، وباتت تستبطن الخطوط الحمر في السياسة, بل وتجتهد أحيانا في تصورها وتحديدها. فلقد ألفت هذه نفسها مدعوة إلى إعمال المطلب الذي كانت هي من نحته قبل عقود أو تبناه بشجاعة في سنوات الظلام السياسي, حيث العبارة السياسية توزن بميزان الذهب وتلفظ بحسبان … في ذلك الزمان. ولما كان مطلب الملكية البرلمانية فرض نفسه هدفا للاصلاحات، وشعارا للتعبئة السياسية والشعبية وبرنامج عمل تقوم عليه هندسة المقترحات الحزبية، فقد أوحى ذلك لمن قرأ هذه اللحظة السياسية بأن سقف المطالب والتوقعات لدى المعارضة في المغرب ما علا وبلغ هذا الحد إلا لأن الظرفية الثورية العربية الجديدة الناشئة، والحركة الاجتماعية الداخلية المنطلقة في امتدادها وبالتساوق معها، وفرتا إمكانا تاريخيا وسياسيا لصيرورة هذا المطلب هدفا قابلا للتحقيق. ولقد ساعد الخطاب الملكي في 9 مارس 2011 ، وما أبداه من رغبة في رؤية اصلاحات دستورية عميقة في تكريس الاعتقاد شبه العام بأن موعد الملكية البرلمان في المغرب أزف ودخل في حيز «الامر اليومي» غير أن بدء المشاورات حول التعديلات الدستورية، كشفت بالتدريج لأحزاب الحركة الديمقراطية الاكبر تمثيلا الحدود الممكنة لمطالب التغيير، الأمر الذي ترجمته مقترحاتها الدستورية المقدمة إلى اللجنة المكلفة بالتعديلات. القارئ في تلك المقترحات التي قدمتها الاحزاب الكبرى والاكثر تمثيلا (مثل حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي وحزب العدالة والتنمية والحركة الشعبية والتجمع الوطني للأحرار. يلحظ أنها إذ تذهب بعيدا وعلى تفاوت بينها في اقتراح تعديلات تمس هيكلية الدستور السابق والسلطات الممنوحة فيه للملك والحكومة والبرلمان, وإذ تحدث بعضها في مقترحاته عن نظام الملكية البرلمانية، فإن الهندسة السياسية التي قامت عليها مقترحاتها لم تكن تتصل بنظام الملكية البرلمانية على نحو ما هي متعارف عليه في الفقه الدستوري الحديث، وفي واقع الملكيات الحديثة في أوربا، إذ تجاورت فيها ملامح من هذه مع ملامح الملكية المألوفة في تاريخ المغرب المعاصر منذ الاستقلال. وليس مأتى ذلك من قصور لدى هذه الاحزاب في إدراك معنى نظام الملكية البرلمانية الحديث, فلها دستوريوها الذين يعرفون عن الموضوع الشيء الكثير وإنما مأتاها من عاملين أو دافعين متباينين في المنطلقات وإن تقاطعا في النتائج: أولهما عدم رغبة قسم منها في رؤية تغيير حقيقي في بنية النظام السياسي في المغرب، وفي التوازنات التي رسا عليها منذ عقود وكانت في أساس تمتعه بمكانة ودور ومصالح. ويتعلق الأمر في هذا بالأحزاب السياسية التي ارتبطت بالسلطة: ميلادا ونشأة وامتدادا، وكانت في جملة ذخائرها الاحتياطية في المعركة ضد الحركة الوطنية ثم ضد الحركة التقدمية. وأكثر ما تحسست منه هذه الاحزاب – وتبين أمره في مقترحاتها الدستورية – هو المساس بالسلطات الواسعة للملك في الدستور السابق، بدون أن تلحظ أن الخطاب الملكي في 9 مارس 2011 لم يضع قيودا مشددة على التفكير في تلك السلطات. وثانيهما إدارك أحزاب الحركة الوطنية (الاستقلال ، الاتحاد الاشتراكي) والاسلامية (حزب العدالة والتنمية) أن الأفق المفتوح أمام الاصلاحات الدستورية وإن هو كان واسعا وعميقا، لن يأخذ البلاد نحو ملكية برلمانية على النمط الاوربي لأن حقائق الوضع السياسي في المغرب وتوازنات قواه لا تسمح بذلك، ولأن الحاجة إلى تكريس بعض السلطات للملك تفرض نفسها كضمانة للتوازن السياسي والاستقرار الاجتماعي. ولا يتعلق الأمر عندها هنا بتكريس سلطته الدينية كأمير للمؤمنين فقط، وإنما بتكريس سلطته السياسية التحكيمية أيضا. في المقابل، تمسكت تنظيمات يسارية صغيرة بالدفاع عن مطلب الملكية البرلمانية مستفيدة من القوة السياسية والشعبية لحركة 20 فبراير ول «»جماعة العدل والإحسان« «وتحول دفاعها – مع الوقت – إلى دفاع عن مبدأ لا عن مطلب قابل للتحقق الفوري. أما اللجنة المكلفة بصياغة الدستور المعدل، فكانت محكومة بالسقوف التي فرضتها مقترحات الأحزاب المقدمة إليها، و بالتالي ليس عادلا أن ينسب إليها تقصير في إخراج نص دستوري أمثل أو على مقاس القوى الأكثر راديكالية في مطلبها. فهي كانت مدعوة إلى أن تكتب دستورا يشارك الجميع في هندسة السلطات فيه، وكان عليها – لذلك السبب – أن تجد الوسيلة المناسبة للتوفيق بين مقترحات عدة والبحث عن المشتركات بينها. وهكذا فرضت الأوضاع، وموازين القوى، وتضارب المصالحو تعدد الخيارات السياسية وتقابلها، الوصول إلى نقطة وسط ترضي البعض – وقد يكون الأكثر – و لا ترضي الآخر. قابل كثيرون النص الدستوري المعدل بالتهليل والتأييد ثم الموافقة في استفتاء الفاتح من يوليو 2011، وأفرغوا الوسع – طيلة فترة الحملة التمهيدية للاستفتاء – للترويج له على أوسع نطاق شعبي من طريق بيان محاسنه وما حمله من مكتسبات نوضل في سبيلها لعقود خلت. ويتعلق الأمر في هؤلاء، المستقبلين له هذا النحو من الاستقبال، بالأحزاب السياسية الكبرى في المغرب: المشاركة في حكومة الائتلاف الحالية وغير المشاركة، »الحاكمة« والمعارضة، ناهيك بقسم كبير من المنظمات النقابية والحقوقية والنسائية والشبابية المرتبطة بتلك الأحزاب أو القريبة منها. وخارج هذا الطيف السياسي الواسع، ثمة مجتمع مغربي أوسع، يقع خارج نطاق أي تمثيل حزبي، يشكل قاعدة تاريخية تقليدية للمؤسسة الملكية: ليس فقط في الأرياف – كما اعتاد بعض الوسط المعارض أن يقول – وإنما في المدن أيضا و في طبقات المجتمع كافة:» من ملاك رأس المال وملاك الأراضي الكبار وكبار التجار إلى المنتجين الكادحين مرورا بالطبقة الوسطى. ومن الطبيعي أن يكون لمشاركة هذه القاعدة العريضة في تأييد تعديلات دستورية دعا إليها الملك بنفسه، وتضمن الاستقرار في البلاد، الأثر الكبير في تقرير نتائج الاستفتاء لصالحها. في مقابل هؤلاء، قابل آخرون النص المعدل إياه بالاعتراض والنقد، فدعا منهم من دعا الى مقاطعة الاستفتاء عليه، ودعا آخر إلى التصويت عليه بالرفض. وجمع بينهم – على اختلاف – الرأي الذاهب الى أن التعديلات الدستورية أتت مخيبة للآمال والمطالب، وملتفة عليها بصور وأشكال مختلفة، و أنها – بهذه المثابة – لا تفتح أفقا أمام الإصلاح الحق للنظام السياسي في المغرب. غير أن مشكلة هذا الفريق من المجتمع السياسي ، الذي مارس حقه الدستوري في الاعتراض والنقد بمبدئية و شجاعة، أنه لم يكن يملك الجمهور السياسي والاجتماعي الذي يحمل هذا الموقف المعارض ويغير صورة الموقف العام من الدستور. وباستثناء «»جماعة العدل والإحسان«« ذات القاعد السياسية الواسعة، فإن تنظيمات اليسار الأخرى التي قاسمتها الموقف إياه (الطليعة) »الاشتراكي الموحد«، »النهج الديمقراطي)، لا تملك القاعدة السياسية الواسعة ولا الجمهور الاجتماعي القمينين بتحويل موقف الاعتراض الى قوة مادية مؤثرة. ولعل هذا ما كان في أساس التعويل على حركة 20 فبراير – غير المنتمية إلى أي تيار سياسي – لتكون تلك القاعدة الاجتماعية القابلة لتوليد الضغط المادي المؤثر. يجمع بين الفريقين معا، المؤيد للدستور المعدل والرافض له، جامع معلن هو التسليم – على تباين و تفاوت في المفردات والحجج – بأن التعديلات التي جرت على الدستور لم تفض إلى ميلاد نظام الملكية البرلمانية الذي صدحت به أصوات المتظاهرين و أقلام الكتاب والصحفيين وخطب السياسيين. ولكن بينما يرى الموافقون على التعديلات أن ذلك من طبائع الأمور بالنظر الى أن الأوضاع في البلاد لا تسمح – لأسباب مختلفة – بأكثر من هذه الصيغة الدستورية، يرى المعارضون أن فرصة الانتقال الى نظام الملكية البرلمانية في المغرب توفرت على نحو لا سابق له وضيعها النظام والأحزاب التي توافقت معه على أنصاف الحلول. وبينما يرى الموافقون أن الدستور استجاب لمقترحات الجميع وأتى، لذلك السبب، توافقيا، يذهب المعارضون الى حسبانه دستورا ممنوحا لأنه وضع من قبل لجنة معينة من الملك وليس من قبل هيئة تأسيسية منتخبة من الشعب وممثلة لإرادته العامة. سيستمر هذا الجدل، داخل المجتمع السياسي المغربي، في الفترة القادمة ماستمرت فكرة الإصلاح تستثير حراكا سياسيا في المغرب ومحيطه العربي، ولن يكون في الوسع تصور إمكان اجتراح رؤى مشتركة إلى المسألة بين أطراف متباينة المنطلقات ومتباعدة الخيارات. غير أن ملاحظتين تفرضان نفسيهما على كل قارئ في لوحة هذا الجدل السياسي المحتدم حول الدستور و نصابه: تتصل الملاحظة الأولى بطبيعة هذا النص الدستوري و موقعيته في ثنائية: التوافقي/الممنوح. من الممكن حسبان أي دستور لا تضعه هيئة منتخبة دستورا ممنوحا. غير أن معنى المنحة – في المجال التداولي للعبارة في استعمالها الدستوري – ينصرف الى الدساتير التي يضعها الملوك على مقاس إراداتهم ويكتبها من يكلفون بكتابتها على هذا المقتضى. وقد يصح هذا على الدستور المغربي سابقا، غير أن الدستور المعدل الحالي شذ عن هذه القاعدة، لأنه كتب معتمدا مقترحات الأحزاب وهندساتها المختلفة لفصوله وأحكامه، وأتى يوفق بين تصوراتها. لذلك من المبالغة وصفه بالممنوح إلا إذا ابتغينا اعتبار »»حزب الاستقلال»« و»»الاتحاد الاشتراكي«« و»»العدالة والتنمية«« و»»التقدم والاشتراكية»« وغيرها مجرد أدوات وأصوات للنظام وليس ذلك يصح عندنا إن صح عند غيرنا. وعليه، لم يخطئ من وصفوه بالدستور التوافقي في وصفهم إياه، حتى وإن لم يكن التوافق شاملا الأحزاب كافة (لإباية بعضها ذلك). وتتصل الملاحظة الثانية بمدى سلامة التعويل على الدستور المكتوب من قبل هيئة تأسيسية منتخبة. نحن نشكك في أنه الدستور الأكثر شرعية من الدستور الممنوح والدستور التوافقي. لكن الأكثر شرعية ليس بالضرورة أكثر تقدما و توازنا، إذ من يضمن للمطالبين بالملكية البرلمانية أن تفرز الانتخابات هيئة تأسيسية من هذا الرأي؟ أي ميزان قوى في المجتمع يسمح بإنتاج هيئة تأسيسية تقدمية وحداثية؟ ومن يضمن أن يكون دستور هذه الهيئة أفضل من هذا الدستور التوافقي؟ بل من يضمن أن لا يكون أسوأ أو أن لا يعيدنا إلى أسوأ مما مضى؟ لا مناص لهذه المبدئية الديمقراطية من أن تنتبه إلى حقيقة سياسية لا تقبل التجاهل هي أن التوافق آلية متقدمة من آليات الديمقراطية أيضا. يمكن الإفاضة والتنفيل في بيان محاسن الدستور التوافقي الجديد في المغرب في فصوله وأحكامه الكثير مما يغري بذلك. ويمكن من باب العطف على ذلك أن نفتح بابا للحديث في فضائل التوافق في أي مجتمع سياسي تشتد فيه الخلافات بين المكونات، وتتباعد بينهم مسافات التفاهم واللقاء، ويمتنع عليهم – و فيهم – إجماع على مشتركات. ويمكن القطع بأن التوافق مطلب عزيز المنال في مجتمعات تعاني نقصا فادحا في قيم السياسة وقواعدها، وهي لا تبلغه إلا متى بدأت تدخل فعلا في عصر السياسة بما هي – في معناها العصري – القدرة على إدارة التنافس وضبطه بقواعد متفاهم عليها. كما يمكن القطع بأن الديمقراطية لا تنشأ دئما في حضن علاقات الغلبة -( بمعناها الحديث لا بمعناها الخلدوني) التي يؤسسها الاقتراع وأحكام ثنائية الغالبية والقلة = الأقلية)، وإنما قد تنشأ – وهي نشأت أيضا – من علاقة التوافق بين المتنازعين.. إلخ. يمكن الاسترسال في بيان ذلك من و جوهه كافة بمفردات الفكر والنظرية السياسية، الحديثة والمعاصرة، ومساجلة من يلوذون بمعنى دارويني للديمقراطية قائم على افتراضها معركة تمثيل يكون البقاء فيها للأقوى، الذي تأتي به أصوات الجموع في الاقتراع وتكون له الغلبة على القليل باسم الشرعية الشعبية. ويمكن الاستدلال على حجية مذهبنا في الديمقراطية، المستحسن للتوافق والتراضي كآلية أخرى شرعية، بما انتفعت به أمصار من الدنيا في هذا العصر بإعمال شعوبها هذا المبدأ في مقاربة خلافاتها الداخلية وتحكيمها إياه في فض منازعاتها على السلطة، وما دره ذانك الإعمال والتحكيم من جزيل الفوائد على صعيد تكوين السلطة فيها والتأسيس الرصين للانتقال الى الديمقراطية في مجتمعاتها (وآخر التجارب النموذجية جنوب افريقيا). بل إنه يسعنا أيضا أن نستصحب السوابق المغربية الحديثة – وآخرها تجربة »التناوب التوافقي) بعجرها وبجرها – لبيان بعض الجوانب المضيئة في عملية التوافق…، لكننا نعرض عن ذلك كله لنهتم بجانب آخر فيها غير محمود، وهو يتزل منها منزلة المضاعفات السلبية لدوائها، هو التلفيق بين ما لا يقبل التوفيق من العناصر، وهو عرض سقط فيه التعديل الدستوري على ما نزعم. كان على النص الدستوري المعدل، الذي أريد له أن يكون توافقيا، أنم يجترح الحد الأدنى المشترك بين بيئات سياسية شديدة الاختلاف والتباين في المشرب والمذهب: بين يمين ويسار، بين علمانيين وإسلاميين، بين دعاة الملكية البرلمانية ودعاة الحفاظ للملك لعى دور تنفيذي فعال، بين مستعجل التغيير وناظر إليه كسيرورة سياسية طويلة الأمد، بين متمسك بمثال كوني للديمقراطية ومدافع عن فكرة الخصوصية، بين مؤمن بأن اللحظة تاريخية واستثنائية ومتشكك في أنها تكفي وحدها لإنضاج الثمرة، بين متمسك بمبدأ الواجب ومتمسك بمبدأ الممكن.. إلخ. ولم يكن في وسع من صاغوا نص الدستور أن يهتدوا، دائما، الى العثور على مساحة المشترك والحد الأدنى. ولم يكن ذلك بسبب أن القوى السياسية، المشاركة في ورشة الصياغة من وراء حجاب، عزفت عن ممارسة نهج التنازل المتبادل الذي لا سبيل إلى تأسيس توافق بدونه، وإنما لأن الخلافات بينها كبيرة ولم تكن لتساعد على اجتراح مثل ذلك الحد الأدنى بيسر ومن غير إشعار أحد بأن رأيه لم يؤخذ في الحسبان. ولقد كان لهذا الاستعصاء أثر بالغ الوضوح في إتيان حلول وصيغ أفقرت معنى التوافق وحولته – أحيانا – إلى جمع اعتباطي بين ما لا يجمع، فبدا التوافق – بالمقتضى ذاك – ترضية بلا إحكام، وتزجية بلا ضابط، وتوزيعا لحقوق ينال بعضها من بعض، حتى أن بعض فقرات النص الدستوري غشيها نوع من التركيب الفسيفسائي الخالي من أي تجانس! الأمثلة على ذلك كثيرة في التعديلات الدستورية، نكتفي بإيراد بعض قليل منها: التوزع بين مطلبين متقابلين، مثل المحافظة على شيء من ملامح الملكية التنفيذية، لدى قسم يطلب ضمانات الاستقرار والوحدة الوطنية، ونقل الكثير من السلطات إلى الحكومة المنبثقة من البرلمان، لدى بعض آخر تخاتله فكرة الملكية البرلمانية، أوشك أن يوقع النص الدستوري في منطقة الازدواجية في السلطة التنفيذية. والأدهى من ذلك أنه أخذ سلطة رئيس الحكومة إلى حدود السلطة المطلقة أو المتجاوزة نطاق الانتظام تحت سقف السلطة التشريعية، إذ ما معنى أن يصبح من مشمولات اختصاصه حل البرلمان إن لم يكن في ذلك قدر من التزيد في ممارسة سلطة نوضل طويلا من أجل تقييدها وإخضاعها للشعب عبر ممثليه المنتخبين؟! هذه واحدة، الثانية أن إرضاء مطالب ثقافية ولغوية هنا وهناك – وهو إرضاء مشروع من وجهة نظر الديمقراطية الثقافية – سلك مسلكا لا يتناسب والغرض الذي من أجله قوربت المسألة بفلسفة التنوع والتعدد في الموارد والروافد الثقافية واللغوية، فقد وضعت مطالب زيد مع مطالب عمرو في سلة واحدة بدون إعارة انتباه إلى آثار ذلك في وحدة الكيان الثقافي، والنتيجة أننا أصبحنا أمام موزاييك لا شيء يبرره سوى الرغبة في ترضية الجميع. يكفي المرء أن يقرأ في لوحة الهوية المغربية، على نحو ما عرفت به في الدستور المعدل، ليقف على ذلك بأبلغ البينات وضوحا، فالإصرار على تعريف الهوية الوطنية بإعادتها إلى روافدها العربية والأمازيغية والعبرية والأندلسية والمتوسطية والافريقية لا يضيف شيئا إلى حقيقة أن المغاربة شعب واحد. وهو إلى ذلك تعريف خارج عن المألوف في الدساتير، ولا وظيفة له سوى الترضية. ولنا أن نتصور – مثلا – لو أن دستور الولاياتالمتحدةالامريكية ينص على أن لغات أمريكا الرسمية هي الانكليزية والاسبانية والصينية والهندية… إلخ، وأن روافد الهوية الامريكية متنوعة: أوربية (بريطانية، فرنسية، ألمانية، إيرلندية، اسبانية…) وأمريكية (مكسيكية، كوبية…) وهندية وصينية وعربية ويهودية وسلافية… إلخ. ماذا كان سيكون الرأي في مثل هذا التعريف؟ وقس على ذلك في كل بقاع الدنيا. أما ثالث الأمثلة على ذلك، فهو تهجين القول في علاقة الدولة بالدين والانجرار وراء تناقضات التعريف، مثل النص على أن المغرب دولة إسلامية، ووصف الدولة عينها بالمدينة، وبأن الشعب مصدر السلطة فيها. وهو تهجين حمل عليه ذلك المنزع التوافقي الحاد الذي حكم البناء الدستوري فرغب عن ترجيح رأي دون آخر، ورغب في الجمع بين رأيين لا يبني الجمع بينهما معمارا متماسكا حتى لا نقول إنه يؤسس لخصومة في النظر إلى المسألة دائمة. ولقد كان يمكن أن يكتفي بما ورد تعيينا لوظائف الملك كأمير للمؤمنين بيانا لنوع اتصال الدين بالدولة ولمستواه، وقطعا لدابر الخلاف في المسألة بين العلمانيين والاسلاميين، فلا يوفر النص الدستوري – بالتباسات اللغتين فيه (أعني: اللغة الدينية واللغة المدنية) – ذريعة للأولين كي يحتجوا على خصومهم من وراء مفردات صريحة في النص على مدينة الدولة، أو ذريعة للأخيرين كي يحتجوا على خصومهم من وراء مفردة صريحة النص علي اسلامية الدولة. هذه أمثلة قليلة من كثير لتلك المضاعفات السلبية لآليات التوافق والتراضي التي تتحول بها هذه إلى توفيق هجين وترضية. ما دون ذلك، لا يمكن إلا الدفاع عن التوافق لأنه الوسيلة الوحيدة التي يدار بها النزاع على السياسة والمصالح. أما ما يقع خارج نطاق السياسة، مثل الدين والهوية واللغة، فلا يقبل أن يقارب بأدوات السياسة لأنه لا يمكن أن ينتج تسوية، وحتى إذا ما أنتجها فهي تتحول إلى تسوية مغشوشة، إلى خداع متبادل. الحكمة تقتضي، في مثل هذه الحال، أن يوضع في نطاق سلطات الملك – ومنها سلطة التحكيم – الأمور التي لا تقبل اتفاقا سياسيا، لأنها الأمور التي ليست في جملة مسائل السياسة، مثل هذه التي أشرنا إليها. من يقرأ نص الدستور المعدل بعين مقارنة، يلحظ أنه خطا خطوات حقيقية نحو هندسة سياسية لنظام حكم قائم على حد معقول من التوازن في السلطة بين مؤسسات الدولة الأساسية، وأصاب حظا ملحوظا من النجاح في إعادة توزيع السلطة بنقل حيزات ومستويات منها إلى الحكومة المنبثقة من البرلمان بعد إذ كانت تقع ضمن مشمولات سلطة الملك في الدساتير السابقة. وإذا كان عيار قيمة الدستور المعدل، في نظر كثير ممن عارضوه ينبغي أن يكون في ميزان الواقع والحاجات والمطالب لا في ميزان المقارنة بما مضى – وهي حجة وجيهة – فإن المقارنة بما سبق تطلعنا على حجم ما طرأ من تغير عميق على البناء الدستوري في المغرب، وتسمح بياناتها والمعطيات بعرض الجديد الدستوري على ميزان الواقع والحاجات لبيان مستويات الاستجابة فيه سلبا أو إيجابا، مع التشديد على أن النوع الثاني من القياس في حاجة هو نفسه، إلى قاعدة سياسية صحيحة حتى يستقيم أمره، إذ الفارق كبير بين الحكم على الدستور بمنطق الممكن الواقعي والحكم عليه بمنطق الواجب المبدئي. نسجل هذه الملاحظة الابتدائية بدون الخوض في أي من المقارنتين، منصرفين إلى بيان ما يبدو لنا وجوه جدة وتقدم في الدستور المعدل، غير غافلين – طبقا – عما كان فيه من وجوه قصور أو نقص. وأهم ما يعنينا بيانه هو ذلك الذي دعوناه التوزيع المتوازن للسلطة فيه، والمظهر الأبين لذلك التوازن هو تصويب الخلل الذي كان يقوم عليه النظام السياسي في المغرب، والناشئ من تركير السلطات لدى الملك، وتقييد مساحة الاختصاص والمسؤولية لدى الحكومة، بل تكريس مجلس الوزراء، الذي يرأسه الملك ميدانا رئيسيا للسلطة التنفيذية بدلا من مجلس الحكومة الذي يرأسه الوزير الأول، ناهيك بغياب قاعدة دستورية لتسمية رئيس الحكومة وبهلامية صيغة التنصيب الرسمية للحكومة التي توحي شكلا وكأنها تعتمد مبدأ التنصيب المزدوج للحكومة، من قبل الملك ومن قبل البرلمان، مما كان يفسح أوسع المجال أمام السلطة التقديرية للملك في تسمية الوزير الأول، وأوسع المجال أمام التساؤل حول ما إذا كانت الحكومة مسؤولة أمام الملك أم أمام البرلمان أم أمامهما معا، وبأية مقادير؟ يمكننا تلخيص صورة هذا التوازن الجديد بالقول إنه توازن داخل السلطة التنفيذية، بين سلطات الملك وسلطات الحكومة، وتوازن داخل سلطة التشريع، بين سلطات الملك وسلطات البرلمان مع شراكة – لا يمكن القول إنها متساوية – في سلطات أخرى كالسلطة الأمنية والعسكرية والقضائية… إلخ . وإذا رمنا الانطلاق، في رسم مشهد هذا التوازن النسبي الجديد، من سلطات الملك نفسها، أمكننا أن نستعرضها تنازليا من السلطات الحصرية إلى السلطات التشاركية إلى السلطات المستقلة التي تتمتع بها مؤسسة التنفيذ والتشريع على النحو التسلسلي التالي: أ – السلطة الحصرية الرئيسية، التي يتمتع بها الملك طبقا لأحكام الفصل 41 من الدستور المعدل، هي سلطة إصدار الظهائر المتعلقة بالشأن الديني بوصفه أمير المؤمنين. وهو من هذا الموقع يرأس «»المجلس العلمي الأعلى»« المخول بإصدار الفتاوى المعتمدة رسميا، ولا يشاركه أحد في التوقيع بالعطف على هذه الظهائر. وسلطة الظهير الملكي (الحصرية للملك)، تمتد إلى حالات أخرى ينص عليها الفصل 44 (المتعلق بمجلس الوصاية)، والفصل 47 (في الفقرة الأولى منه المتعلقة بتعيين رئيس الحكومة والفقرة السادسة المتعلقة بإعفاء الحكومة عند استقالة رئيسها)، والفصل 51 (الخاص بحق الملك في حل مجلسي البرلمان أو أحدهما في الحالات التي تحددها الفصول 96 و97 و98)، والفصل 57 (المتعلق بموافقة الملك على تعيين القضاة من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية) والفصل 59 (الخاص بإعلان الملك حالة الاستثناء بعد التشاور مع رئيس الحكومة ورئيسي مجلسي البرلمان)، والفصل 130 (المتعلق بتعيين المحكمة الدستورية)، ثم الفصل 174 (الخاص بعرض مشاريع ومقترحات مراجعة الدستور على الشعب قصد الاستفتاء). ب – السلطة التشاركية بين الملك والحكومة والبرلمان ومنها سلطة إصدار الملك ظهائر توقع بالعطف من قبل رئيس الحكومة، ما خلا الحالات التي سبق الإلماح إليها. لكن هذه الشراكة في السلطة تكاد تشمل المجالات كافة ما عدا ما يدخل في نطاق الشأن الديني الخاص بالملك، ومنها الشراكة في السلطة التنفيذية من خلال مجلس الوزراء – الذي تقصلت اختصاصاته بمقتضى الفصل 49 وأنيط معظمها بمجلس الحكومة – وفي قرار حل مجلس النواب (حيث ينص الفصل 104 على أن »»لرئيس الحكومة حل مجلس النواب، بعد استشارة الملك ورئيس المجلس ورئيس المحكمة الدستورية بمرسوم يتخذ في مجلس وزاري وفي مداولات المجلس الأعلى للأمن, حيث يمكن للملك، بمقتضى الفصل 54، وأن يفوض لرئيس الحكومة صلاحية رئاسة اجتماع المجلس… إلخ، ومنها ما بين الملك والبرلمان مثال مشاركتهما معا في تأليف المحكمة الدستورية طبقا للفصل 130 حيث يعين الملك ستة أعضاء وينتخب مجلس النواب ثلاثة ومجلس المستشارين ثلاثة أو مناقشة البرلمان كل اتفاقية أو معاهدة يعرضها عليه الملك قبل المصادقة عليها. ج – السلطات المستقلة للحكومة والبرلمان، ونقصد بها ما تقرره أحكام الدستور من اختصاصات حصرية للسلطتين لا تتخللها سلطة الظهير الملكي، وهي زادت منسوبا ونطاقا – وعلى نحو لا سابق له – في الدستور المعدل، ولعل ما أصبحت تتمتع به السلطة التنفيذية الحكومية من اختصاصات، وما يتمتع به رئيس الحكومة من سلطة نافذة، يؤسس – ولأول مرة في تاريخ النظام السياسي المغربي – لانتقال حقيقي نحو توازن في السلطة يخرج به هذا النظام من حقبة التوزيع الصوري للسلطات الذي طبعه منذ ميلاد أول دستور في عهد الاستقلال (دستور العام 1962.وعلى النحو نفسه, باتت مساحة التشريع عند البرلمان أوسع من ذي قبل وصير إلى الحد من ندية مجلس المستشارين لمجلس النواب لصالح تعزيز سلطات الأخير، مثلما باتت سلطاته الرقابية على العمل الحكومي أوسع مما كانته في الماضي. والحق أن من يمعن النظر في النص الدستوري الجديد، سيلحظ أن الكثير من فصوله وأحكامه أتى يستجيب لمطالب ومقترحات أحزاب »الكتلة الديمقراطية« المعلنة في العالم 1996، مع اضافة نوعية لا يخطئها لبيب هي أن ما كانت الكتلة تتحاشى الاشارة إليه من حديث عن سلطات الملك، التي قال زعيمها في ذلك الحين (عبد الرحمن اليوسفي) أنه »لا يوجد اقتراح واحد من اقتراحاتنا يرمي إلى التقليص أو التعديل من اختصاصات جلالة الملك«، وأن »كل ما نريده هو تقوية المؤسسات الموجودة، أي البرلمان والحكومة. إن سلطات جلالة الملك غير قابلة للمساس بها«، أضحى في حكم المتناول بالتعديل في الدستور الحالي، وعلى نحو ربما لم تتوقعه تلك الأحزاب نفسها. لاتكتمل صورة هذا الجديد الواقع على المشهد الدستوري والسياسي في المغرب إلا متى استدخل فيه المرء ما تكرس في الدستور المعدل من حقوق ومكتسبات نوضل من أجلها طويلا، وأخصها بالاشارة والتنويه ما تعلق بالحريات العامة وحقوق الانسان وحقوق ديمقراطية أخرى تكاد لا تلحظ – من أسف – حين الحديث في الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات ومنها – بل على رأسها – حقوق المعارضة. ويمكننا اختصار الحديث فيها في عناوين ثلاثة كبرى: أولها حقوق الإنسان والحريات العامة، بما في ذلك حقوق المرأة. تعيد ديباجة الدستور التشديد على أن الدولة »تؤكد تشبثها بحقوق الانسان كما هي متعارَف عليها عالميّاً«، وعلى »حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني… مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء«. وينصرف الباب الأول منه، المتعلق بالأحكام العامة، إلى التشديد على بعض المبادىء العامة في المجال هذا من قبيل أن «»نظام الحزب الوحيد نظام غير مشروع««، وأن المواطنة أساس السياسة والتمثيل، حيث «»لا يجوز أن تؤسَّس الأحزاب السياسية على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جهوي… «الفصل 6)، وأنه »لا يمكن حل الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية أو توقيفها من لدن السلطات العمومية، إلا بمقتضى مقرر قضائي« (الفصل 8)، كما لا يمكن حل جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية »إلا بمقتضى مقرر قضائي« (الفصل 12). وينصرف الباب الثاني إلى النص على تلك الحريات والحقوق الأساسية، التي سبق النص عليها في الدستور السابق، أو التي يشار إليها لأول مرة بهذا الوضوح، ومن ذلك الانتقال من مجرد النص على المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والحريات المدنية والسياسية الى التشديد على أن الدولة» »تسعى… إلى تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء««، وأنها »تُحدث، لهذه الغاية، هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز« (الفصل 19)، كما أن منها حسبانه «»ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، ومن قبل أي أحد، جريمة يعاقب عليها القانون« «الفصل 22)، أو نصه على أن «»الاعتقال التعسفي أو السري والاختفاء القسري، من أخطر الجرائم وتعرّض مقترفيها لأقسى العقوبات« «الفصل 23)، ناهيك بتجريم انتهاك «»حرمة المنزل»« و «»سرية الاتصالات الشخصية« «الفصل 24)، وضمان «»حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء السياسي والنقابي«، وضمان »حق الإضراب« على أن يصدر قانون يحدد شروط ممارسة هذه الحقوق والحريات الواردة في الفصل 29. وثانيها حقوق المعارضة، وهي حقوق تلحظها الديمقراطيات الحديثة وتحيطها بالضمانات الدستورية والقانونية التي تكفلها وتحميها من غائلة احتكار القرار والسلطة التي قد تصيب أي نظام سياسي، أو أي جهاز حكومي، منبثق من غالبية نيابية. والحق أن بعض ما ورد في الدستور المعدل من أحكام خاصة بحقوق المعارضة لم يكن جديداً تمام الجدة على الحياة الدستورية والسياسية في المغرب، فلقد عرفنا شيئاً منه في الماضي القريب، مثل حرية التعبير والرأي والاجتماع، والحق في الاستفادة من حيز زمني مناسب في وسائل الإعلام الرسمية، ومن التمويل الذي تقدمه الدولة للأحزاب، والحق في مراقبة عمل الحكومة في البرلمان وفي تقديم ملتمس الرقابة (= حجب الثقة) على الحكومة، ناهيك بتسجيل مقترحات قوانين بجدول أعمال مجلس النواب ومجلس المستشارين… إلخ. غير أن الدستور المعدل نص على حقوق أخرى، مثل مساهمة المعارضة النيابية»في اقتراح المترشحين وفي انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية»«، و «»رئاسة اللجنة المكلفة بالتشريع في مجلس النواب««، فضلا عن النص على حق المعارضة في »ممارسة السلطة عن طريق التناوب الديمقراطي.. في نطاق أحكام الدستور« وسوى هذه من الحقوق المبيّنة أحكامها في الفصل العاشر من الدستور. ومن النافل القول، إن تمتع المعارضة بهذه الحقوق يترجم معنى جديداً لهذا الجسم السياسي في النظام، ينتقل به من مجرد جسم معترض إلى جسم مشارك في السلطة، أي على نحو لا يكون فيه صاحب رأي فحسب، بل يصبح فريقاً يضمن القانون لرأيه فرصة الصيرورة قراراً أو جزءاً من القرار. وثالثها حاكمية التشريعات الدولية، وبيانها أن الدستور المعدَّل ما اكتفى بالنص على أن الدولة »تتعهد بالتزام ما تقتضيه« المواثيق الدولية »من مبادىء وحقوق وواجبات« و »تؤكد تشبثها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالمياً«، ولا اكتفى بالنص على أن الدولة تسعى إلى »حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني«، وأنها تراعي «»الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء»« فحسب، وإنما هو نصَّ، أيضاً، على أن الدولة ملتزمة «»جَعْلَ الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة«« ومع أن في هذه الفقرة ما يوحي بأن الالتزام مشروط بالتلاؤم مع أحكام الدستور وقوانين البلاد وهويتها، مما قد يَحُدُّ من معنى الالتزام، فإن هذا الاستدراك يُفْهَم في ضوء حقيقة خصوصية مجال الأحوال الشخصية المستقل عن القانون المدني الوضعي، كما في ضوء حقيقة أن غير المغرب من دول العالم، بما فيها دول الغرب، لا تسلم دائماً بحاكمية التشريعات الدولية للتشريعات الوطنية، والموقف الأمريكي من المحكمة الجنائية الدولية مثال لذلك. يمكن لمستريب أن يقول: إذا سلّمنا، جدلاً، بحصول بعض المكتسبات في الصيغة الدستورية الجديدة، فمن يضمن أن يقع تطبيق أحكامها وأن لا يجري خرقُها كما خُرِق غيرُها في السابق، أو أن نعيش مجدَّداً تلك الفجوة التي عشناها طويلا في المغرب بين النصوص والوقائع، بين القانون وإدارة السلطة؟ والسؤال مشروع، فهو يلحظ ما كان من أثر سلبي في الماضي لتلك الفجوة في تبديد قسم عظيم من المكتسبات التي نوضِلَ من أجلها طويلا. لكنه، على مشروعيته، لا ينال من النص ومما فيه من مواطن الإيجاب. يمكنه أن يكون أنسب إن فكر في المسألة السياسية بمعزل عن الدستور، فليس الأخير لا في صيغته الحديثة ولا في صيغه السابقة هو المسؤول عن تعطيل العمل بأحكامه، وإنما المسؤولية في ذلك تقع على السلطة السياسية ومَن يديرونها في المقام الأول. وعلى ذلك، فإن المعركة الحقيقية هي معركة ما بعد إقرار الدستور: المعركة من أجل تطبيقه وصون مكتسباته من أي سعي، جهير أو موارب، إلى مصادرتها بالتعطيل أو سوء التأويل. وما أغنانا عن بيان الحقيقة التي لا مجال لتغييبها في هذا المعرض، ومُفادها أن معركة التأويل ليست معركة حِجَاج بالنصوص، ليست معركة فكرية أو فِقْه دستورية، وإنما هي معركة سياسية حيث لا رواية لأحكام الدستور تفرض نفسَها بدون ميزان قوى يرفدها ويمكِّن لها الوجود والغلبة. -4- طوت التعديلات الدستورية، إلى حين، فكرة الملكية البرلمانية كمطلب قابل للتحقيق على نحو ما افترض ذلك كثيرون من الذين صنعوا فصولا من الحراك الاجتماعي والمطلبي في المغرب، وتكرّست صيغة دستورية أخرى قامت على توافق واسع من قبل قسم من المجتمع السياسي، ما لبثت أن تحصَّلت شرعيتها الشعبية من طريق الاستفتاء عليها. والصيغة هذه غير الملكية البرلمانية، لكنها في الوقت عينه تختلف عن سابقاتها في أنها أوسعت أرْحَب مجال أمام توازن في السلطة ونظام الحكم غير مسبوق في تاريخ المغرب الحديث والمعاصر. على أن الحكم على هذه التعديلات على هذا النحو من الحكم الذي تقدم لا يستقيم إلا بالاستدراك عليه بثلاث ملاحظات: أولاها أن التعديلات إياها لم تطو فكرة الملكية البرلمانية نهائياً وإلى الأبد، وإنما كما قلنا إلى حين. وهذه العبارة (« إلى حين««) إنما تعني إلى حين نضج الشروط الموضوعية والذاتية الخليقة بتوفير إمكان الانتقال الى نظام الملكية البرلمانية. ومعنى ذلك أن الفكرة ما طُوِيَتِ اليوم إلا لأن تلك الشروط لم تكن قد تهيأت بعد لتفتح أمام المطلب ذاك سبيل الصيرورة هدفاً قابلا للتحقق، كما أمل ذلك كثيرون. وسنعود إلى هذه المسألة بقليل من الإضاءة… وثانيها أن التعديلات الدستورية لم تَأتِ صيغة متحايلة على مطلب الملكية البرلمانية مثلما اعتقد البعض، وإنما أتت تعبّر من جهة عن حصيلة توازنات القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية في المجتمع المغربي، مثلما أتت توفر من جهة ثانية محطة انتقالية متقدمة نحو مراجعة أكثر جذرية للنظام الدستوري في المغرب في مرحلة قادمة، قد تطول أو قد تقصر تبعاً لمستوى التراكمات السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد وطبيعة وِجْهتها. والقاعدة في تاريخ المجتمعات، أن قانون التطور محكوم دوماً بالتراكم، فلابد للنهايات المنشودة من بدايات دافعة، ولابد للنتائج من مقدمات، والملكية البرلمانية بهذا الحسبان لا يمكن أن تولد إلا من تاريخ تراكمي تمثّل فيه لحظة التوازن في السلطة حلقة تاريخية رئيساً. وثالثها أن التعديلات الدستورية التي صنعها توافق بين أطراف كثر في المجتمع السياسي، لم تُفْرَض على الشعب كَرْهاً مثلما يوحي بذلك بعضُ من أعلنوا الاعتراض، لأنها صيغت برضى قوى ذات تمثيل وازن وحقيقي هي القوى النيابية الأكثر تمثيلية في المجتمع (علماً أنه ليس لدينا معيار لقياس حجم التمثيل سوى الانتخابات التي شارك فيها الجميع، بمن فيهم القوى السياسية المعارضة للتعديلات… ما خلا »العدل والإحسان« و »النهج الديمقراطي«، ثم لأنها ثانياً عُرِضت على استفتاء شعبي حظيت فيه بالشرعية. وإذا كان في إمكان أحد أن يطعن في نسب المشاركة والتصويت الإيجابي لصالح الدستور المعدّل، وهي عالية جداً، فإن الطعن هذا نظري لانعدام إمكانية إقامة القرينة عليه، وإنزال النسب من عليائها الرقمي إلى ما دون ذلك لن يغير من حقيقة أن الشعب صوَّت لصالح التعديلات، وأن قرار المقاطعة الذي أخذ به البعض لا أثر كبيراً له في الواقع ولا يمكن حَمْلُ نسبة عدم المشاركة عليه. يعنينا من هذه الملاحظات الثلاث، أولاها التي تتصل بمستقبل فكرة الملكية البرلمانية ومطلبها في المغرب بعد هذا التعثر الذي أصابها في تجربة الإصلاح الدستوري الأخيرة. والحق إن هذا التعثر لا يبدو كذلك، أي تعثّراً أو نكسة، إلا لدى من ذهبت بهم التوقعات إلى حسبانها مسألة على جدول أعمال النضال الديمقراطي اليوم، قابلة للتحقيق في مناخ الظرفية الثورية العربية الناشئة، وفي امتداد الحراك الاجتماعي الذي أطلقه ميلاد حركة 20 فبراير. وإذا لم يكن الجميع، في المجتمع السياسي المغربي، قد شاطر مَن حملوا هذا التوقع توقُّعهم على الرغم من أن قسماً منهم من أحزاب الحركة الوطنية والتقدمية رَفَع مطلب الملكية البرلمانية فلأن هؤلاء لم يكونوا على يقين من أن الملكية البرلمانية أصبحت إمكاناً تاريخياً منظوراً. أما لماذا طالبوا بها بقوة (وخاصة »الاتحاد الاشتراكي«)، فلم يكن ذلك انتهازية منهم أو تملّقاً للشارع الشبابي وهم أول من حَمَل شعارها قبل ثلث قرن (في المؤتمر الثالث ل «»الاتحاد الاشتراكي«: 1978»، وإنما هم فعلوا ذلك من منطلق النظر إليها كهدف استراتيجي للنضال الديمقراطي قد يأخذ زمناً قبل أن يتحقق. ستظل فكرة الملكية البرلمانية تُلحّ على الوعي الديمقراطي المغربي بوصفها هدفاً استراتيجياً قابلا للتحقق المادي إن توفرت شروطه. أما شروطه تلك، فلا يمكن اختصارها في أوضاع سياسية بعينها على ما جرت العادة عند التفكير في المسألة السياسية مثل تغيُّر ميزان القوى في المجتمع السياسي لصالح القوى الديمقراطية، أو نجاح حركة النضال الديمقراطي في ممارسة الضغط الكافي لإنضاج صفقة دستورية تؤدي إلى ميلاد نظام الملكية البرلمانية… إلخ، ذلك أن الشروط التي نعني ليست سياسية فحسب، وإنما هي اجتماعية اقتصادية وثقافية أيضاً، وهي لا تتوفر كشروط سياسية إلا متى تقدم المجتمع المغربي وقواه الحية في كسب كثير من مقدماتها الاجتماعية والثقافية. لا يمكن لملكية برلمانية أن تنشأ في مجتمع يعاني نقصاً فادحاً في الثقافة الديمقراطية في نسيجه العام من الأسرة إلى الحزب، مروراً بالمدرسة والمعمل والادارة والنقابة والجمعيات المدنية، ويعاني ثقل المواريث في الأفكار والذهنيات وفي البُنى والمؤسسات. وحين يتوفر المغرب على ثقافة ديمقراطية عامة ومهيمنة، وعلى مجتمع سياسي حي ونظيف، ومجتمع مدني حديث حقاً ومستقل حقاً، وطبقة سياسية عصرية متشبعة بقيم المسؤولية والمصلحة العامة، يمكن حينها أن يكون على موعد مع الملكية البرلمانية. ليست الملكية البرلمانية كلمة تقال في معرض رأي أو سجال، ولا إرادة يعبر عنها فريق في المجتمع، إنها بناء مستمر للسياسة والاجتماع والثقافة. إذا كانت الملكيات الحديثة قد قامت في بقاع من العالم واستقرت، مثل بريطانيا وهولندا والدنمارك و النرويج وإسبانيا… فلأن وراءها كل ذلك البناء السياسي والاجتماعي والثقافي الذي صنعها ومهد لها. والمسألة، بهذا المعنى، ليست سياسية إلا في وعي سياسوي يفصل السياسة عن بُناها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لابد، إذن، من مقاربة أخرى مختلفة لهذا المطلب السياسي المشروع، مقاربة تتحلى بالنظرة التاريخية العميقة وتضع «»الينبغيات«« في ميزان التاريخ و التطور والتراكم. مستقبل حركة 20 فبراير هو السؤال الأساسي الذي يتولد من المشهد الدستوري الجديد الذي رُفع الستار عنه في الفاتح من يوليو 2011 تاريخ الاستفتاء الشعبي على الدستور المعدل. لا مجال للشك في ما بين الحركة والمشهد الدستوري من تلازم، فهي من ذهب بالحراك المطلبي إلى الحدود القصية، فأتاها من أتاها من القوى السياسية يناصرها أو يقاسمها حمل المطالب، هي من رسم للحراك الديمقراطي هدفه السياسي بإعلانها الملكية البرلمانية مطلبا، وهي من انتهى عنده أمر الاعتراض على ورشة التعديل الدستوري: شكلا وآلية ومضمونا، ثم إنها هي من يجد اليوم نفسه ومطالبه خارج نطاق الاستجابة الرسمية والتنفيذ و إلى هذا وذاك يضاف أنها القوة الاجتماعية التي كانت ذات بال، بدون سائر قوى المعارضة الأخرى، وأخذت طاقتها الواقعية والافتراضية في الحسبان، وتحركت آلة الإصلاح على إيقاع ندائها الصاخب. من الطبيعي، والحال هذه أن يكون السؤال عن مستقبلها في قلب أسئلة السياسة اليوم في المغرب. ومع أن النزاهة تقتضي الاعتراف بأن مروحة الاعتراض على الحصيلة الإصلاحية واسعة، وهي ضمت قوي سياسية مختلفة: إسلامية (= »جماعة العدل والإحسان«)،ويسارية «حزب الطليعة» ,»الحزب الاشتراكي الموحد» تيار «النهج الديمقراطي» فإن هذه القوى لا تملك – باستثناء »العدل والإحسان« – أن تحشد القوة الاجتماعية الكافية للاعتراض بعيدا من حركة 20 فبراير، وبمعزل عن الانخراط فيها. هذا ما يفسر لماذا ظلت متمسكة بإطار حركة 20 فبراير كبيئة واسعة حاضنة لمطالب المعارضة. بل إن الحركة الإسلامية نفسها لم تجد بدا من أن تخوض في ذلك الاعتراض من طريق توسل إطار الحركة الشبابية على ما بينهما من تباعد في المنطلقات والأفكار. يخطئ من يشيع حركة 20 فبراير أو يستخرج لها شهادة وفاة من الاستفتاء الشعبي الإيجابي على الدستور المعدل. نعم، لقد خسرت – شأنها في ذلك شأن آخرين خرجوا الى الوجود قبلها بعقود – رهانها على كسب معركة استيلاد نظام الملكية البرلمانية، و كان ذلك نتيجة سوء تقدير منها للمعطيات السياسية ولموازين القوى، و سيكون عليها أن تقوم بمراجعة سياسية شجاعة للحقبة الماضية من عملها. لكننا نفترض، على ما نزعم، أن مسألة الإصلاح الدستوري مجرد معركة واحدة من معاركها الديمقراطية، وأنها لن تكون خاتمة مطافها كحركة اجتماعية ديمقراطية. و لعل في سيرتها الذاتية، منذ ميلادها. ما يقيم دليلا على أن حراكها النضالي على جبهة الإصلاح الدستوري ليس أكثر من فقرة من فقر نضالها الديمقراطي، وأي ذلك أنها حملت مطالب أعرض مساحة من مجرد الإصلاح الدستوري، وقبل أن يصبح هذا على جدول أعمال السياسة مع خطاب التاسع من مارس 2011. لا معنئ لاختصار تجربتها في المعركة الدستورية حصرا والحكم عليها – من ثمة – بهذا المقتضى. في ضوء هذه المقدمات، لابد من مخاطبة حركة 20 فبراير بلغة تجمع جمعا جدليا خلاقا بين مفردات النقد ومفردات التحفيز على استكمال دور بدأته بشجاعة وشقت به طريق المستقبل. لا ينبغي المقايضة بين النقد والتحفيز أو تنزيل الواحد منهما منزلة البديل من الآخر، لأن أسوأ ما تنتظره الحركة من السياسيين والمثقفين أن يخاطبها من يخاطبها ممتشقا لغة التبهيت والتحبيط أو لغة المداهنة والتملق، ذلك أن نقدا لا يرى في تجربة الحركة إلا ركاما من الأخطاء ولا يلحظ فيها مواطن القوة والأل ينتهي الى العدمية و يتغيا إلحاق أبلغ الإساءة بها إما من طريق التبخيس وإما من طريق التيئيس، ثم إن حفزا لها على الاستمرار في ما هي فيه بدون مصارحتها بحاجتها الى نقد تجربتها ومراجعتها يرقى إلى مستوى النفاق ولا يدعوها إلا الى الاصطدام بالحائط على مثال اصطدامه – هو ? به. وما أكثر من يريد شطبها من وراء نقدها غير المنصف و النزيه، وما أكثر من يرغب في الحكم عليها بالانقراض على خلفية دعوتها إلى المزيد من الغرق في الأخطاء. ولنا أن نقول إن الفريقين معا يتحالفان – على اختلاف – في السعي بها الى السقوط. من العداء ما قتل، ومن الحب ما قتل. جدلية النقد والحفز، بفردات الصراحة الواجبة في مثل هذه الحال من المخاطبة، تدعونا إلى التعبير عن موقفين متلازمين، أو دعوتين مترابطتين: أولهما دعوة 20 فبراير إلى وقفة نقدية شجاعة للتفكير في حصيلة عملها النضالي خلال نصف عام من تجربتها، تلقي فيها نظرا على هذه الحصيلة بعين المراجعة لجملة متداخلة من المسائل: المسافة الواقعية بين شعاراتها ومطالبها وبين إماكنياتها الذاتية في توليد الجمهور الاجتماعي الكافي لحمل تلك المطالب وتحقيقها، مدى إمكانية – بل مشروعية – استنساخ التجارب الاحتجاجية العربية التي رفعت سقوف شعاراتها وأفلحت في إنجازها، وما إذا كانت المعطيات الاجتماعية و السياسية متشابهة بحيث تتسع لذلك فعلا، مدى نجاح الحركة أو تعثرها في صون استقلالية قرارها النضالي من أشكال مختلفة من التأثير فيه تحت عنوان المناصرة والتحالف والتنسيق والنصيحة (في الفترة الماضية) أساليب المخاطبة والتعبئة في السابق وما قد تحتاج إليه مستقبلا من تجديد يتناسب ونوع المتغيرات التي طرأت منذ مطلع صيف العام 2011، برنامج العمل الديمقراطي الذي يقبل التحقيق في المرحلة القادمة ويجيب عن حاجات سياسية معلقة وممكنة الإنجاز إن أحسن تدبيره، مدى ما يمكن أن تلحقه الميول العفوية والشعبوية و الخيارات القصووية من أذى فادح بعمل الحركة ومستقبلها… إلخ. ولا غناء للحركة عن اتيان هذه المراجعة النقدية لإعادة تأهيل عمرانها الداخلي. وهي مراجعة لا تكون مفيدة ومنتجة إلا متى نهضت بعبئها الحركة نفسها بدون أن ينوب عنها في ذلك نائب. وثانيهما دعوة الحركة الى الانتباه الى جملة ما تفترض أنه ينتظرها من كبير المهمات في نطاق حراكها الديمقراطي الإصلاحي، والعناوين في هذا المعرض عديدة: تشديد التركيز على مطلب محاربة الفساد الاقتصادي والمالي والإداري والتعبئة، قصد توليد رأي عام ضاغط من أجل ذلك، الانصراف الى توفير شبكة أمان اجتماعية ضد إفساد الحياة السياسية والتمثيلية بالتزوير واستخدام المال السياسي، وخاصة على أعتاب الموسم الانتخابي في خريف هذا العام، إفراد مساحة حقيقية للمسألة الاجتماعية في عمل الحركة الديمقراطية يوازي، أو يتجاوز، مساحة المسألة السياسية فيها، توسعة نطاق علاقات حركة 20 فبراير بالقوى الديمقراطي والتقدمية قصد توسيع قاعدة أمانها الاجتماعي والسياسي، وحماية استقلاليتها، ورفع الشبهة عن انحيازها الى فريق من المجتمع السياسي الديمقراطي على حساب آخر، ثم من أجل توسعة نطاق التحالف الديمقراطي في المغرب. هذه بعض من الأفكار السريعة نصارح بها حركة 20 فبراير من موقع الحرص عليها بمحبة لا تضمر الخصومة، و صراحة لا تكتنه التملق. وعندي أن هذه هي اللغة المناسبة لمخاطبتها اليوم بدلا من لغتين سيارتين: اللغة الكيدية ولغة المداهنة! أية آثار ونتائج قد تنجم من تجربة الإصلاح الدستوري المغربية على صعيد نظم عربية أخرى لم تنطق فيها بعد عملية إصلاح تستجيب لمطالب الشعوب وانتظاراتها؟ وما عساها تكون تلك الآثار والنتائج على مستوى قسم محدد من تلك النظم الحاكمة هو الذي تقوم فيه ملكيات (أو إمارات)؟ للسؤال أهميته من وجوه مختلفة أظهرها، في ما يعنينا هنا، وجوه ثلاثة: أولها أن الإصلاح الدستوري، الذي أقدمت عليه المؤسسة الملكية في المغرب، أتى في سياق مقاربة سياسية استباقية نجحت في استيعاب لحظة الأزمة، و في تقديم أجوبة سريعة عن مطالب شعبية مشروعة، بدون تدفيع البلد والاستقرار الاجتماعي ثمنا مكلفا. هي حالة بدت نموذجية في سياق عربي طبعه تعنت النظم في مواجهة مطالب شعوبها، واندفاع بعضها في ذلك التعنت إلى حدود فتح البلاد على المجهول. وثانيها أن الملكيات العربية لم تشهد – ما خلا في حالتي المغرب والإردن – حياة سياسية حقيقية (= في الكويت حياة نيابية فحسب)، ولم تعرف شكلا ما من أشكال توزيع السلطة، ناهيك بالطابع العشائري والعائلي الغالب على النظام السياسي فيها، فضلا عما يضيفه احتكار الثروة (= الريعية) الى احتكار السلطة من مشكلات في المجتمعات التي تحكمها. وثالثها أن الحراك الاحتجاجي الذي اندلع – بتفاوت – في مجتمعات الملكيات العربية اختلف عن نظيره في مجتمعات « »الجمهوريات»« العربية في كونه لم يرفع سقف مطالبه الى حيث يطرح شعار إسقاط النظام، وإنما ظل خطابه يتحرك وينتظم تحت سقف المطالبة بالإصلاح ومحاربة الفساد وكفالة الحقوق والحريات الديمقراطية. تطلعنا هذه الوجوه الثلاثة للمسألة على أهمية التفكير في مستقبل الملكيات العربية من وجهة نظر الحاجة الى إصلاح اوضاعها، في ضوء المتغيرات السياسية الجديدة، وفي ضوء مطالب ديمقراطية شعبية متنامية لم يعد ممكنا الاشاحة عنها والاعراض، فاختيار سبيل التجاوب والاستيعاب الايجابي، على مثال ما حصل في المغرب، هو اقصر الطرق امامها الى ضمان الاستقرار الاجتماعي وتجديد اسباب شرعيتها بعد الذي اصاب الشرعية التقليدية القائمة من اهتزاز، وهو الخيار الاقل كلفة لاشباع الرغبة العارمة في رؤية نظام سياسي عصري في ظل هذه الملكيات يعيد توزيع السلطة والثروة على مقتضى قواعد جديدة. ولعلها قد تكون فرصة اخيرة، تستثمر تواضع المطالب الشعبية الاصلاحية، قبل ان تبلغ الحركات الاحتجاجية في بلدانها مبلغا يعصى على الاحتواء. على أن التساؤل عما سيكون للسابقة المغربية من آثار ونتائج على الملكيات العربية الأخرى ينبغي ان يلحظ جملة من الحقائق غير قابلة للتجاهل، وليس يمكن مقاربة السؤال من غير اخذها في الحسبان. اولى هذه الحقائق ان ثمة تفاوتا في الكثافة التاريخية بين الملكيات العربية، فبعضها – مثل المغرب- تعود جذوره الى ماقبل الف عام، فيما بعضها الاخر ابصر النور قبل عقود قليلة. وليس الامتداد التاريخي ولا العراقة تفصيلا في السياسة، اذ من مقتضيات الدول اعمارها. وكلما عمرت دولة، كان ذلك مما يحسب لها ككيان في نظر شعبها. والملكية، كشكل من اشكال النظام السياسي، تكون حظوظها من التمكن أعلى، ومن الشرعية أوفر، كلما ضربت بجذورها عميقا في التاريخ، وهذا مما ينفرد به نظاما الملكية في المغرب وفي عمان. وثانيها أن بين الملكيات (بما فيها الإمارات) تفاوتا في التطور السياسي وفي التراكم التحديثي والاصلاحي لا يقبل الانكار، ففيما يعرف بعضها حياة دستورية منذ ما يزيد عن نصف قرن (الاردن والمغرب)، لا يعترف بعضها الاخر بالحاجة الى دستور، وفيما ينتظم الحياة السياسية في بعضها العمل بمقتضى النظام التمثيلي (النيابي) والاقتراع الانتخابي (المغرب، الاردن، الكويت، البحرين)، يكتفي بعضها الاخر بمجالس شورى اكثر اعضائها معين، و فيما يعرف بعضها تعددية سياسية وحياة نقابية وجمعوية منتظمة، تمنع الاحزاب والنقابات والجمعيات المدنية في بعضها الآخر من الحق في الوجود القانوني، وفيما شهدت ملكية منها شكلا أوليا من أشكال التداول الديمقراطي على السلطة (تجربة التناوب التوافقي) في المغرب منذ العام 1998، لم تعرف البواقي مثل ذلك. الخ، وفي الظن ان التفاوت هذا ليس تفصيلا عاديا لانه يترجم الفارق بين ملكيات تعرف ظاهرة السياسة واخرى تنعدم فيها السياسة انعداما كليا او شبه كلي. وثالثها أن الملكيات التي نشأت في بيئة سياسية مفتوحة أمام المشاركة الحزبية والشعبية تعلمت كيف تعطي وتأخذ وتتكيف وتستجيب، ونشأت في ثقافتها بالتدريج قيم التسوية والتنازل المتبادل والتوافق، وتراكمت لديها ارادة اصلاحية ولو من طريق الاضطرار الموضوعي. وليست هذه حال ملكيات اخرى نمت في مناخ احتكار السلطة وتجريم السياسة وتحريمها. ورابعها أن ثمة فارقا بين ملكيات قامت على عصبية القبيلة والعشيرة والعائلة فضاقت قاعدتها الاجتماعية والسياسية، وأعادت انتاج السلطة داخل أطرها الضيقة تلك، وبين ملكيات أخرى انعدمت فيها الروابط العصبوية (المغرب) أو تخففت منها مع الزمن الى حد كبير (الاردن، فكان من نتائج ذلك اتساع نطاق المشاركة الاجتماعية في السلطة، ودخول قوى عدة في المجال السياسي بل تكون مجال سياسي نتيجة لذلك. وخامسها ان ثمة فارقا بين ملكيات تحتكر فيها النخبة العائلية الحاكمة الثروة، وتوزع اقساطا منها على الدولة والمجتمع وفق معايير وقواعد الولاء والقرب والبعد من مركز السلطة، وبين ملكيات أخرى تعرف شكلا ما من اشكال توزيع الثروة، و تعرف – خاصة – اشكالا من الرقابة على المال العام ووجوه صرفة من خلال مؤسسات الرقابة المالية الرسمية والمسألة النيابية وضغط الصحافة الحرة والرأي العام. وسادسها ان البون شاسع بين مجتمعات سياسية عربية تحقق فيها، على مدى عقود طويلة، قدر معتبر من التراكم النضالي: السياسي والنقابي والمدني، ونجحت فيها الحركات الديمقراطية في تحقيق مطالب وانتزاع حقوق، وبين مجتمعات تفتقر الى تراكم سياسي (بسبب انعدام شروط العمل السياسي فيها) وتواجه مطالبها باشباع اقتصادي واجتماعي يحرفها عن وجهتها السياسية. من البين اذن، ان أية مقاربة بين الملكيات العربية، والتفكير في مستقبل الاصلاح والتحديث فيها، يصطدمان بحقائق هذا التفاوت بينها كملكيات، والتفاوت بين المجتمعات السياسية التي تقوم فيها، على نحو لا سبيل الى تجاهله، وعلى ذلك، فإن تناول السؤال المتعلق باحتمال تأثير الاصلاحات السياسية المغربية في الانظمة العربية الاخرى يفترض حسبان هذه الفروق والفواصل بين البنى والتجارب والتراكمات. ويمكن في ضوء هذا، فقط، ان نميل الى ترجيح الاحتمالات الاربعة التالية. الاحتمال الأول أن تنطلق تجربة اصلاحات، متفاوتة المدى والدرجة، في بعض الملكيات العربية التي تعرف مجتمعاتها قدرا ما من الحيوية السياسية، نتيجة ضغط اللحظة الثورية الجارية كما في ضوء نتائج التجربة المغربية. واكثر الملكيات العربية المرشحة لأن تشهد ذلك هي القائمة في الاردن، وهي شرعت فعلا في ذلك على صعيد الاصلاحات الدستورية التي ستقرر شكلها درجة الضغط الشعبي في البلاد ومساحة ارادة الاصلاح لدى النظام. وقد تكون الملكية في البحرين والنظام الاميري في الكويت وسلطنة عمان في جملة ما سيضطر الى إجراء اصلاحات تستوعب حالة الحراك الشعبي، لكنها – قطعا – ستكون جزئية ومحسوبة، وربما رمزية. الاحتمال الثاني أن تظل السياسة الاستيعابية لدى بعض الملكيات العربية تدور في نطاق التقليد الدارج فيها، والقائم على شراء المطالب السياسية ببضعة تنازلات اجتماعية – اقتصادية – مثل الهبات والعطايا ورفع الاجور، أي معاملة هذه المطالب السياسية وكأنها مطالب نقابية! وليس يبعد أن يقترب ذلك مع بعض التحسينات السطحية لنظام »»التمثيل« «المحلي والوطني لا تخرج عن نطاق الرقابة ولا تفتح الباب امام ميلاد حياة انتخابية حقيقية. ويتوقف رجحان هذا الاحتمال على استمرار حال الخمود في الحركة الاجتماعية في هذه البلدان. الاحتمال الثالث ان يشتد الضغط الشعبي، كلما استمرت حالة الاحتجاج في الوطن العربي واستمرت مفاعيلها السياسية والنفسية في البلدان المحكومة من انظمة ملكية، فيتولد من ذلك واقع جديد يجبر هذه الملكيات على اجراء اصلاحات سياسية. والاحتمال هذا قد لا يكون مستبعدا في الاردن والبحرين، الا ان حظوظه تبدو – في المدي المنظور – اقل في ملكيات واميريات عربية أخرى. الاحتمال الرابع ان تبادر قوى دولية – على رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية – الى ممارسة عمليات من الضغط والإقناع علي بعض الأنظمة الملكية والاميرية لاجراء بعض من الاصلاحات القمينة بامتصاص حال النقمة الواسعة على احتكار السلطة والثروة، قصد حفظ استقرار هذه الانظمة من خطر الزوابع المحدقة. هي مجرد احتمالات تجمع بين حقيقتين: لحظة ثورية عربية عارمة، وخوف نخب حاكمة من طاقة افتراضية في مجتمعاتها قابلة للتفجر في اية لحظة بتأثير ما يجري في المحيط العربي. من البين، اذن، ان السؤال عما في وسع السابقة المغربية ان تولده من نتائج على صعيد الملكيات العربية يصطدم بحاجزين اثنين: بثروة قادرة على جبه تحدي المطالبات الداخلية (وهو ما لم يتوفر لانظمة اخرى مثل تونس ومصر)، وبتواضع امكانات التغيير الذاتية لدى مجتمعات مجردة من السياسة واسبابها. والى دينك الحاجزين لا ينبغي ان ننسى ما تتمتع به الملكيات العربية الغنية من حماية وتأييد من دول الغرب الكبرى (لا ينطبق ذلك على أنظمة ليبيا وسورية واليمن)، ويكفي مثلا لذلك كيف وقع الاستيعاب الدولي والاقليمي للانتفاضة في البحرين وأمسك الجميع عن الحديث في أمرها! عن جريدة الاتحاد الاشتراكي: 21 دجنير 2011