من منا كان يحلم انه سيأتي يوم يمكن أن يتلقى نفس التكوين في جميع المدارس والمعاهد وبكل الجامعات بعيدة كانت أو قريبة، حديثة كانت أو عريقة، وبنفس الطريقة وعلى يد نفس الأستاذ، أستاذ ملم بديداكتيك المواد وبمختلف البيداغوجيات، عارف بجميع التخصصات من الأدب واللغات إلى الجغرافيا والتاريخ مرورا بالعلوم التجريبية والمخبرية إلى العلوم النظرية وتشعباتها؛ يسرد ويكتب الشعر القديم منه والحديث، يشرح الجسم البشري ويغوص في أعماق الذاكرة وعوالم النفس، يشخص الذكي ويحفز الضعيف، ملم بجميع المعارف ومجيب على كل الأسئلة، بحر من بحور العلم والمعرفة، أستاذ يتقن جميع اللغات ويتفاعل معها، قد يظن البعض انه ضرب من الجنون أو خيال علمي من أفلام هوليود، لكنه الواقع، انه جيل الربوات الأساتذة القادم لا محالة مع الذكاء الاصطناعي أو ما يعرف بIA. فمنذ ما يزيد عن خمسين سنة والعالم الغربي يحاول أن يصنع آلة تمكنه من محاكاة ما يقوم به بنو جنسه، آلة تفكر وتتكلم بل تدرك وتشعر، محاولة صنفتها سينما هوليود في إطار الخيال العلمي وضمن ما يعرف بليس من المستحيل تحقيقه. هذه المحاولات ابتدأت بصناعة آلات عملاقة تقوم بأعمال ومهام إنتاجية متكررة، وتوجت في بداية الثمانيات والتسعينات من القرن الماضي مع كوفري هينتون و يان يومان ويوشاوا بينجو بوضع اللبنات الأساسية لما سمي بالذكاء الاصطناعي بإنتاج طفرة من جيل جديد للحواسيب ذات القدرة العالية على التنبؤ والخلق، قدرات كانت إلى وقت قريب مميزة للإنسان العاقل، انطلاقا من عمليات أسست على خلق شبكة عصبية اصطناعية ضمن مقاربة ما سمي بالتعلم العميق تحاكي ما يقوم به الدماغ البشري، والهدف منها هو حل العمليات المعقدة ذاتيا أو من خلال التواصل عن طريقة هذه المقاربة التعليمية عوض برمجتها خلال مراحل، وقد زاد في النجاح المذهل لهذه المقاربة توفر قواعد معطيات كبيرة (نصوص، صور، أصوات…) وإنتاج جيل جديد من الحواسيب ذات العقول البيانية تستطيع أن تقوم بعمليات حسابية كبيرة في ظرف وجيز وتختار الحل الجيد من بين الحلول الموجودة وتترك للحاسوب الحرية في اكتشاف الاستراتيجيات الجيدة من أجل حل مشكل ما أو ترجمة نص أو تحليل ظاهرة أو المقارنة بين ظاهرتين طبيعيتين وإيجاد أوجه التقارب فيما بينهما، فمن خلال هذه الشبكات العصبية الاصطناعية لهذه الحواسيب التي تستطيع الملاحظة من خلال ما يتم تزويدها به من وضعيات وحالات واقعية لتتنبأ بواسطة خوارزميات برمجتها من معرفة تطور هذه الحالات وإعطاء حلول يعجز حتى العقل البشري في إيجادها، فهذه القدرات الكبيرة والهائلة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي والإمكانيات المستقبلية التي يمكن أن تنتجها والتي يصعب التكهن بها، الا اذا كانت هناك رؤية واضحة للدول في كيفية توجيهيها للسيطرة على العالم في المستقبل والتي أصبحت هاجس كبير لبعض الدول وفي مقدمتها روسيا التي تؤمن أن التحكم في العالم مستقبلا سيكون بفضل الذكاء الاصطناعي، تفكير ينم عن مدى ذكاء العقل الغربي واداركه ان الذكاء الاصطناعي هو أساس الهيمنة على العالم في المستقبل، وان التقدم نحو السنوات القادمة يبنى من الان وأن النماذج التنموية العالمية الحالية لن تستطيع الصمود في وجه الانفجار التكنولوجي وذكاء الألة المستقبلي؛ فحين يبقى العقل العربي عامة والمغربي خاصة بعيدا كل البعد عن ما ينظر به العالم الغربي للمستقبل، سنوات ضوئية تفصل بين التفكيرين تفكير ينبني على الاستهلاك وتفكير ينبي على الانتاج، رؤية تنبني على التدبير الآني وأخرى على استراتيجيات إنتاجية مستقبلية، فتزداد الفجوة وتترسخ التبعية. فهل النماذج التنموية التقليدية الحالية قادرة على الصمود نحو المئوية المقبلة، أما انها تتجه نحو الافلاس وتحكم على تلك الأمم بعبودية جديدة اشد قسوة وفتكا من العبودية والاستعمار القديم. جميع المؤشرات والمتغيرات التي يعرفها العالم تؤكد انه بات من الضروري بل ومن المفروض التوجه نحو العلوم الدقيقة وتطوير الذكاء الاصطناعي وادخالها ضمن النماذج التنموية والسياسات التعليمية والإدارية لكل إصلاح مادات أن الفجوة الرقمية مازالت صغيرة وفي بدايتها وكل توجه نحو هذه العلوم المستقبلية حاليا يعتبر صمام أمان للأمم من اجل عدم الاندثار، فالتوجه نحو البحث العلمي وتشجيع الباحثين وتسهيل الطريق لهم من أجل ولوجه بات ضرورة قصوى في مجتمع كمجتمعنا نسبة الثلث فيه امي، وبمدارس وجامعات تنتج أمية من نوع أخر لأن ما يتم تلقينه من مناهج وبرامج اصبح متجاوزا وبعيدا عن ما يتطلبه التقدم العلمي وسوق الشغل من كفاءات وكفايات، كفاية تتجاوز تلقين المعرفة وحفظها بقدر ما تتطلب كيفية استعمال هذه المعرفة من اجل الانتاجية، وتكوين يتطلب كيفية خلق وابداع الأفكار لا في استهلاكها واجترارها، مما يستوجب تكوين جيل متشبع ومتمكن وعارف بمفهوم الذكاء الاصطناعي وأهميته في المستقبل لاستمرار الأمم وتقدمها، لأنه سيأتي زمن لا محالة يكون فيه المعلم روبو متعدد الذكاءات ملما بجل المعارف ومبرمجا بطرائق التدريس الحديثة وديداكتيك المواد وملم بدماغ الطفل وطريقة نموه وكيفية استيعابه للتعلم وللمعارف، فتكون هذه الشبكة من الأساتذة الروبوات التي تتجاوب فيما بينها قادرة على تلقين الكل بنفس الطريقة ومتكيفة مع وضعيات مختلفة، ومبرمجة بشكل كبير على النموذج الغربي في العيش والتفكير وحتى فيما يتعلق بما هو عقائدي وروحي، تفقد من خلالها الامم الاخرى ثقافتها وحضاراتها، ومن هناك تبدأ طفرة التحول أو الانقراض، بحكم ان جل المجتمعات المتخلفة مستهلكة. فالحل اذن هو البدء بتكوين جيل المتميزين والمتفوقين في الرياضيات والاعلاميات والفيزياء والبيولوجيا في مجال الذكاء الاصطناعي لخلق شعب بكل الجامعات والمدارس العليا وحتى الثانويات في هذا التخصص. وإحداث وحدات بحث بكل أكاديميات التربية والتكوين تعمل على البحث التربوي والعلمي المدرسي وعلى تشجيع الفئات المتمدرسة وتعريفها بتكنولوجيا المستقبل منذ الصغر. وحتى في المجال الإداري فقد أصبح من الواجب على كل مسؤول أو من يصبو الى تقلد منصب من مناصب المسؤولية أن تتوفر فيه كفاءات ومؤهلات متعددة تدبيرية وتخصصية في مجالات العلوم والتكنولوجيا حتى يستطيع تطوير الادارة بعيدا عن النمطية والتطبيق الحجري للمساطر وتجميع الاوراق والمراسلات دون اجتهاد ولا خلق ولا ابداع، فأصبحت الادارة تفرز عينة غالبة من الإداريين التي تعرقل حل المشاكل وتسريع المساطر، بل لا تجتهد ولا تقرأ المستقبل فتكون بعض قراراتها، عرقلة للنمو الاقتصادي للدولة وافشالا للاستثمارات، وبعضها هدرا للطاقات، بل تحرم الدولة من خلال بعض قراراتها حتى من كفاءات كانت ستنتج أكثر في موقع أخر أو قطاع أخر عوض حبسها ضمن مجال تدبيري معين، فكيف لهذه العينة أن تؤمن أن المستقبل للذكاء الاصطناعي. واما المقاولات فقد بات من اللازم ان تستثمر في هذا المجال بخلق شراكات متعددة مع المعاهد والجامعات من اجل تحفيز التوجه في الاستثمار في الميدان لأنها معنية وبشكل مباشر ان ارادت ان تستمر وتحقق تنافسية عالمية وتعمل على تنويع انتاجيتها في كل المجالات من صناعة السيارات وقيادتها الألية إلى إنتاج الروبوات التي تقوم بمهام منزلية، ناهيك عن المجالات الطبية التشخيصية منها والعلاجية فهذه الآلات المستقبلية ستكون لها قدرة كبيرة على التكيف وايجاد الحلول الصعبة، فان كانت حاليا وفي بدايتها تستطيع قيادة السيارة وتوجيها دون الحاجة الى سائق، وان كان بعضها قادر على تشخيص بعض انواع السرطان بدقة متناهية وفي وقت وجيز وبعضها الاخر يستطيع التغلب على الذكاء البشري في بعض الالعاب كالشطرنج وغيرها وفئة أخر تستطيع قراءة الملامح، فما عسانا ان نقول عن جيل 2050أو2080 من هذه الروبوات صاحبة الذكاء الاصطناعي. لقد بات من الواجب التوجه نحو الذكاء الاصطناعي والاستثمار فيه من طرف الدولة وتشجيع البحث فيه وزرعه في كل السياسات التعليمية المدرسية والجامعية لأنه هو المستقبل والاستمرارية، توجه يأمن مستقبل الأجيال القادمة ويجعل من المورد البشري والرأسمال البشري قلب وروح النموذج التنموي. وهذا ليس صعبا ان اقتنع الجميع بقيمة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي استثمارا حقيقيا وليس استثمار الواجهة والمرايا بمجرد ما تطفأ الكاميرات وتغلق الميكروفونات كأن شيئا لم يكن.