لا أحد منا يسره ما وصل اليه العالم الاسلامي و العربي من وهن و انحطاط على جميع المستويات، قيمية كانت او علمية او سياسية او اقتصادية او اجتماعية ..و لخير دليل على ذلك أن يقوم رئيس اكبر الدول الاسلامية بمباركة عيد الفطر لجميع الدول و يستثني احدى الدول فقط لأنه يوجد خلاف بين نظام هاتين الدولتين. و بالتأكيد فما وصلنا اليه من وانحطاط و تردي ليس بسبب الغرب أو امريكا أو اسرائيل كما ندعي هروبا من الواقع، بل بسبب ذاتي و موضوعي له علاقة بأفكارنا و وعيينا الحالي و وحده تشخيص حقيقي لهذه الافكار و المعتقدات المشوهة و الجرأة في تحليلها و انتقادها و التصريح بها كفيل بإرجاعنا الى سكة الريادة مرة اخرى. وكما قال عالم النفس الدكتور روبرت انطوني " ان ضد الشجاعة ليس الجبن كما نعتقد بل ضد الشجاعة هو الخضوع و قبول افكار الآخرين بدون أي تفكير " ان الأزمة الخليجية الحالية ليس كما يبدو أزمة ديبلوماسية سياسية عادية بل هي أزمة صراع فكر اسلامي قديم جدا يتداخل فيه الدين و الفكر و السلطة و الحكم و السياسة، بدأ مع نهاية الفترة الذهبية للحضارة الاسلامية( حوالي القرن الرابع هجري) و ما يزال مستمرا الى الان، فالحرب ليست في الحقيقة على دولة قطر في حد ذاتها، بل هي حرب على الإسلام السياسي و التيار الإسلامي الداعم لها و الذي بدأ يتمدد و يهدد استقرار انظمة هذه الدول. فالكل يعلم ما للفكر الاسلامي من تأثير كبير على بناء العقل العربي و الاسلامي و على بناء وعيه الجمعي و ما لذلك من اثر على حياتهم الاجتماعية و السياسية فالإسلام ليس دين عبادة فقط بل هو عقيدة و شريعة و فكر و حضارة . ان المتتبع للتاريخ الاسلامي سيلمس بدون شك وجود تنافس قديم بين فكريين و منهجين اسلاميين منذ القرون الاولى للحضارة الإسلامية بين تيار الظاهريين الذين يبنون فكرهم على تأويل النصوص و الاحاديث على ظاهرها و الذين بقوا متجمدين في فقهم و لباسهم و حتى في شكلهم و مبتغاهم من ذلك هو أخذ اجر الاقتداء و تيار المقاصديين ( فقه المقاصد) الذين يعرضون أحكام الفقه الاسلامي من خلال أهدافه و مقاصده و ليس على ظاهر الاحاديث، مبنيين تصورهم هذا على اساس ان المقاصد ثابتة سواء قديما او جديدا و ان الوسائل متغيرة، هذا التيار الذي أصل له كبار علماء الامة الاسلامية كحجة الاسلام ابو حامد الغزالي و امام الحرمين الجويني و سلطان العلماء العز بن عبد السلام و شمس الدين بن القيم و ابو اسحاق الشاطبي و محمد الغزالي و قد جاء بعدهم الكثيرين، و الذي يرفع لواءه حاليا اتحاد علماء المسلمين في شخص رئيسه العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، و نائبه الدكتور احمد الريسوني، ولهذا السبب فقط تم وضع اسم الدكتور القرضاوي و الكثيرين من اتحاد علماء المسلمين على لائحة الارهاب من قبل دول الحصار كما قاموا بسحب جميع كتب القرضاوي من المؤسسات التعليمية و الجامعية بعدما فشلوا في مقارعة فكره. ان هذا الخناق على التيار المقاصدي ليس جديدا و ليس بصدفة بل يعود الى قرون مضت حيث كانت تقوم الانظمة الاسلامية المتعاقبة الا من رحم ربك بتضييق الخناق على علماءه الذين يؤصلون له و يضيقون على انتشار كتبهم و يشوهون سمعتهم و صورتهم تارة و تبديعهم تخوينهم تارة اخرى و قد يصل الحال بهم الى السجون و حتى الاعدام اذا اقتضت الضرورة، و في المقابل كانوا يتم دعم التيار الاخر المنافس ( تيار الظاهريين) عبر تنصيب كبار علماءه في كبرى المناصب في الدولة و دعم كتبهم بالأموال الطائلة من اموال المسلمين للمساعدة على انتشارها مجانا او بأبخس الاثمان تحث ذريعة نشر العلم الشرعي، و بنفس المنطق ما يزالون يحاربونهم حتى في وقتنا الحاضر لكن بأساليب جديدة فرضها التطور التكنولوجي خصوصا عبر قنواتهم الاعلامية . فقنوات الخليج و غير الخليج اذا ما لاحظنا خلال السنوات الخمسة عشر الاخيرة قاموا بدعم قوي لدعاة التيار الظاهري عبر فتح باب هذه القنوات على مصراعيها لهم حتى اصبحت اسماءهم على لسان كل كبير و صغير، لكن يشاء الله الا ان يبخرهم في طرفة عين فور اول امتحان حقيقي لفكرهم ابان الربيع العربي في 2011 فنزلت اسهمهم بشكل صاروخي ملفت للنظر مازال الكثير منا يتعجب كيف حصل ذلك. ربما يظن الكثيرين من الناس أن علم الفقه علم نقلي محض و هو كذلك عند الكثيرين لكنه لدى المقاصديين له ارتباط وثيق بالعقل تأصيلا و تدليلا و تعليلا. فهم يعرضون أحكام الفقه الاسلامي من خلال اهدافه و مقاصده و فلسفته و روحه و وسطيته، لذلك فيعتبر منهجهم الاقرب الى المنهج العقلي فهو يوازي بين النظر في النصوص الشرعية الجزئية و المقاصد الشرعية الكلية. و لكي نفهم ي سبب قيام هذه الانظمة بتضييق الخناق على هذا التيار الفكري فيكفي ان نعلم الفرق بين رؤية التيارين فيما يخص السياسة الشرعية. فأغلب هذه الانظمة لا تهمها لا صلاة شعوبها و لا صيامها و لا مناسكهم، بل ما يهمها أكثر هو السلطة و الحكم وأي تيار فكري سيضمن لهم الاستمرارية و أي تيار سينافسهم على الحكم. فالظاهرية تعتبر الديموقراطية و اخذ القرار بالأغلبية منكرا و بدعة غربية دخيلة و ان التحزب هو نوع من التشيع و التفرقة و هو بدعة و حرام شرعا كما في الحديث الصحيح (( من أحدث في امرنا ما ليس منه فهو رد )) و أن الأصل هو البيعة، كما ينكرون الترشح للمجالس النيابية و يرفضون تحديد مدة الولاية لرئيس الدولة و لا بد ان تكون لمدى الحياة لأنها لم تحدد في عهد الخلفاء و الصحابة و ينكرون على كل من اجاز تحديد مدة رئيس الدولة على انه تقليد للكفار و يرفضون تصويت المرأة ناهيك عن ترشحها و يطالبون بالجزية من غير المسلمين كما يحرمون بالمرة الخروج عن ولي الامر ووووووووو. و عكس الظاهرية ينهل المقاصديون مواقفهم من السياسة الشرعية من خلال اجتهادات الخلفاء الراشدين كالاجتهاد الذي قام به الفاروق عمر حين قبل اسقاط اسم الجزية على قبيلة بنو تغلب و قبل ان يدفعوا لبيت المسلمين ما يدفعوه تحت مسمى زكاة لان العبرة في المقاصد و المعاني و ليس العبرة بالألفاظ و المباني، فلم يبالي رضي الله عنه ان يسمى ما يأخذه من الجزية باسم الزكاة او الصدقة التي فرضها الله على المسلمين اذا كان تغيير الاسم يحل المشكل فالاهم هو المقصد. فالمقاصديون يقرون بالديموقراطية ما دام جوهرها هو اختيار الناس لمن يحكمهم و يسوس أمرهم و الا يفرض عليهم أي نظام يكرهونه و ان يكون لهم الحق في محاسبته و حتى عزله اذا انحرف اي بمعنى تداول السلطة كما يقرون بحق المرأة في الترشح و الترشيح كما يجيزون تقلد أهل الذمة الوزارات ان كانوا صالحين ( المارودي في احكامه السلطانية) فالمهم عندهم هو جوهر الديموقراطية و اي وسيلة تضمن حماية الشعوب من تسلط المتجبرين و بالتالي فلا حجر على البشرية و مفكريها في ان تبحث عن اساليب و صيغ اخرى جديدة تضمن الشورى و العدل و الحكم بين الناس. كما انهم يقرون بتعدد الاحزاب داخل بلد اسلامي واحد لعدم وجود اي مانع شرعي إن اختلاف تأصيل الفريقين في تأويلهم للنصوص الشرعية يعطي في المخرجات نتائج صارخة على مستوى الكثير من الفتاوى السياسية و الاجتماعية خصوصا و ان المقاصديون يتبنون التيسير و رفع الحرج كفلسفة لقوله تعالى " يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر" بينما يبني التيار الاخر فلسفته على التشدد و الاحتياط و سد الذرائع. و يكفي ان نعطي مثال او مثالين لنبين التباين الصارخ الذي قد يحصل و خير مثال على ذلك حكم المرتد، فحكم المرتد عند الظاهريين هو القتل تماشيا مع الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة". .أما عند علماء المقاصد فكانوا و لقرون يرون عكس ذلك فالردة لا تستوجب القتل و انه للنظر في أي حديث نبوي فيجب الرجوع الى سياقه الزماني و المكاني لمعرفة قصد رسول الله عليه الصلاة و السلام و عرضه على المقاصد العليا للشريعة الاسلامية خصوصا و انه توجد عدة آيات قرانيه تفيد العكس و تقر بحرية المعتقد و الدين كقوله تعالى في الآية الكريمة: «لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» (البقرة: 256)، فهذه الآية تقرر بجلاء ان الدين لم يكن و لن يكون يوما بالإكراه، فالدين إيمان واعتقاد يتقبله عقل الإنسان وينشرح له قلبه، وهو التزام وعمل إرادي، والإكراه ينقض كل هذا ويناقضه. فالدين والإكراه لا يمكن اجتماعهما، فمتى ثبت الإكراه بطل الدين. فالإكراه لا ينتج دينا، وإن كان فقد ينتج نفاقا وكذبا وخداعا فقط. وكما أن الإكراه لا ينشئ دينا ولا إيمانا، فإنه كذلك لا ينشئ كفرا ولا ردة، فالمكرَه على الكفر ليس بكافر، والمكره على الردة ليس بمرتد. وهكذا أيضا فإن المكره على الإيمان ليس بمؤمن، والمكره على الإسلام ليس بمسلم. ولن يكون أحد مؤمنا مسلما إلا بالرضا الحقيقي، كما في الحديث الشريف: "رضيتُ بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا". ( الدكتور احمد الريسوني ). و لكي لا أطيل عليكم فهناك اختلافات جمة بين التيارين و في كل مرة نسمع تراجع الانظمة التي تدعم الفقه الظاهري عن بعض فتاويهم بسبب ضغوطات الواقع مثل تحريم النسخ على الالة الطابعة عند ظهورها و الذي عمر زهاء قرن كامل و اختلافهم حول الحوار مع باقي الديانات الاخرى و مع الشيعة خصوصا، و في زكاة الفطر، الموسيقى و اختلافات اخرى كثيرة …….. و لعل اخرها سياقة المرأة للسيارة و حكم المرتد ( المجلس الاعلى العلمي بالمغرب). و خلاصة القول فالفكر الارهابي، حسب دول الحصار، الذي تدعمه قطر و تركيا هو فكر اتحاد علماء المسلمين هو فكر و فقه المقاصد الذي يقول بوجوب السياسة كنوع من تغيير المنكر و هو الفكر الذي ينهل منه الإسلام السياسي. فكما حاربت هذه الأنظمة الفكر الشيوعي و الاشتراكي و اليساري وامروا بحذف الفلسفة و الكتب الماركسية من التعليم و البلد، ها هم الان يحاربون الإسلام السياسي و القاسم لمشترك تهديد سلطة هذه الأنظمة. فهذا الحصار في الحقيقة هو حرب على اي فكر تحرري و اي فكر نقدي و اي فكر فلسفي ، هي حرب ضد كل فكر يقول بن هناك خلل ما ، هي حرب على اي فكر يريد الخروج من الطاعة العمياء في السياسة او في الدين، هي حرب على كل من يريد استخدام عقله و دماغه، هي حرب على اي تطور او تجديد فكري رغم ان حال المسلمين لا يسر لا البعيد و لا القريب. فهم يريدون ان يختصروا الاسلام فيما يضمن لهم دوام الحكم و السلطة كفقه الطاعة و فقه الوضوء و فقه النكاح فقط و يمنعون اي تداول حقيقي للفكر الاسلامي و الذي أنزله الله تعالى لعباده من اجل اصلاح امورهم الدينية و الدنيوية و ليس الدينية فقط ، فأسمعوا و عو و اطيعوا و جمدوا عقولكم و لا تنتقدوا أي شيئ و ابقوا كما انتم يرحمكم الله و الا اصبحت أسماءكم مكتوبة بالبند العريض على قائمة لوائح الارهاب العالمية.