الفقه هو أحد روافد الفكر الإسلامي الذي انطبع بطابعه و انسجم مع نموذجه و نسقه الفكري، إنه بالضرورة مساهم في تكريس و تعزيز فلسفة الإسلام، و في الآن نفسه متأثر بروحها. و لعل أهم مميزات فلسفة التشريع الإسلامي مرونتها العالية التي نلمسها في اقتصار الدين الإسلامي في مجموعة من الإشكالات الحياتية على إيراد الكليات والمبادئ العامة، و التي يقوم الفقيه بإنزالها على مختلف تشكلات الواقع. فالمشرع وعى أن الإشكالات التي لا تتخذ نموذجا واحدا ولا تستقر على حال لا يمكن الحسم فيها، من هنا غلبة المبادئ العامة ذات الطابع القيمي في الدين الإسلامي على التفصيل في الجزئيات. ومن أهم فروع الفقه الذي تبرز فيها هذه السمة و نستشعر فيها مرونة و سعة، فرع الفقه السياسي، إذ أن النصوص الواردة حوله في الأصلين قليلة نادرة، فضلا عن أنها ليست نصا، نقصد بالنص معناه الأصولي القديم، أي الواضح الذي يقبل أي تأويل، لذلك يقول إمام الحرمين الجويني في "غياث الأمم" : " و معظم مسالك الإمامة عرية عن مسالك القطع، خلية عن مدارك اليقين"، و يعبر عن الحقيقة نفسها الدكتور فريد الأنصاري من المعاصرين فيقول في " البيان الدعوي" : إن الأحكام السياسية لم تنل من التشريع الإسلامي إلا المرتبة الثالثة"، و المقصود بهذه الأخيرة آلية الاجتهاد، بمعنى أن الركون إلى النصوص، و النصوص فقط، لا يسعفنا لبناء منظومة سياسية كاملة، فلابد من بذل الجهد في إدراك مقاصد الشرع و من ثمة بناء مشروع سياسي على ضوء تلك المقاصد و الكليات و القيم الإسلامية. في ضرورة الفصل بين الشريعة و التاريخ اشتهر في الفكر الإسلامي التمييز بين الشريعة و الفقه، فهذا الأخير أحد تمظهرات الشريعة و تطبيقاتها و تنزيلاتها على واقع معين، من هنا نسبية الفقه و عدم إطلاقيته، و من هنا ضرورة الفصل بين الشريعة ككليات من جهة، و الفقه و التاريخ من جهة أخرى. على ضوء هذه الحقيقة سيبني الدكتور أحمد الريسوني الفقيه المقاصدي مراجعاته لجوانب من الفقه السياسي في كتابه "فقه الثورة : مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي"، و نسبية الفقه الإسلامي و قبوله للمراجعة حقيقة مقررة في كتب أصول الفقه حسب الدكتور الريسوني، فابن القيم يعقد فصلا في كتابه "إعلام الموقعين" بعنوان " فصل في تغيير الفتوى، و اختلافها بحسب تغير الأزمنة و الأمكنة و الأحوال و النيات و العوائد"، ثم يجعل من تحقيق القيمة مثل العدل و الرحمة و المصلحة العامة غاية و مقصد الشريعة الإسلامية، و إذا أضفنا إلى ذلك ما أشرنا إليه من قبل من خلو الأصلين من نصوص تشريعية في الجانب السياسي، نعلم مدى حاجة الفقه السياسي للمراجعة الدائمة، و إلا وقعنا فيما يسميه فقيهنا بعبادة التاريخ، يقول : " الفصل بين الشريعة و مكوناتها من جهة، و التاريخ و مكوناته من جهة أخرى، يريحنا و يرفع عنا الحرج في مبدأ المراجعة و الغربلة لتراثنا في الفقه السياسي و غيره." مراجعات فقهية/سياسية : لا يزال سؤال كيفية اختيار الحاكم مطروحا للجدل بين الفقهاء الذين عنوا بالسياسة الشرعية، لكن الغالب على هذه المقاربات الفقهية هو تبرير الواقع و محاولة شرعنته، و هكذا فقد أقر الفقهاء مثلا إمارة الغالب، إلا أن الدكتور الريسوني من خلال استقرائه للنصوص الدينية و مواقف علماء الشريعة من ذوي الحس المقاصدي يجد أن " إمامة المتغلب في الأصل ولاية باطلة"، هذا هو موقفه المبدئي من المسألة و إن كان يحيط مواقف الفقهاء بذكر مجموعة من المبررات التي حملت الفقهاء على شرعنة و قبول إمارة المتغلب، منها ما هو اجتماعي، فالتفكك الذي يعرفه المجتمع بسبب التنافس السياسي الذي كان يشتد طبعا في غياب قواعد الديموقراطية التي تصرف أضرار هذا الصراع، هذا التفكك بما يتسبب فيه من مخاطر كبيرة كإمكانية التعرض للهجوم الخارجي من قبل عدو متربص حمل الفقهاء على الاعتراف بشرعية إمامة المتغلب، كما أن هذا النظام الذي قام على التغلب و من غير استشارة للرعية في الغالب يكون بديلا عن نظام سابق أمعن في الفساد و الظلم، و هكذا من باب الموازنة بين المصالح و المفاسد يقبل العلماء على مضض بإمارة المتغلب. و الوجه الآخر لقبول إمارة المتغلب يعبر عنه الدكتور الريسوني بقوله " إن المتغلب عادة ما تكون له قاعدة شعبية مناصرة، و هذا في حد ذاته يعطيه قدرا من الشرعية". و يقصد الدكتور الريسوني أن المتغلب يكون صاحب شوكة بتعبير ابن خلدون، من هنا فهو الأصلح لسياسة الأمة و قيادتها. ومن القضايا التي يرى الدكتور الريسوني أنها في حاجة لمراجعة، ما يسمى في كتب الفقه السياسي ب " أهل الحل و العقد "، فهذه الهيأة هي من بنات اجتهادات الفقيه، إذ لا نص صريح عليها، و هي تطرح عينا مشكلتين. الأولى : أنها لم تؤخذ مأخذ الجد، بل ظلت مجرد فكرة هلامية مضببة في كتب الفقهاء و لم توضع لها صيغة تنفيذية، لذلك ظلت محصورة في أذهان الفقهاء و لم تطبق يوما على أرض الواقع، إلا في حالات نادرة، و هذه التطبيقات لم تسلم من مآخذ، إذ أن دور أهل الحل و العقد يظل محصورا في الاقتراح و للحاكم أن يختار أو أن يتجاهل حتى كل هذه الاقتراحات كما شهد بذلك التاريخ السياسي للأمة . الثانية : أن مؤسسة أهل الحق و العقد النظرية هذه كانت سببا لإلغاء دور الأمة و إقصائها عن اتخاذ القرارات، و هكذا ظلت فكرة أهل الحل و العقد حجة نظرية تلغى بمقتضاها الأمة بدعوى أن أهل الحال و العقد يقومون مقامها. إن مراجعة الريسوني الأخيرة لا تخلو من دلالة، فطالما تم إقصاء الشعب بدعوى عدم أهليته، و تقديم هذه الهيأة الشكلية التي يتحكم فيها السلطان كبديل، و هكذا يظل الشعب تائها غافلا لا يدري ما يدور في دواليب الدولة، و الحاكم يستبد بالرأي بعد تجميد مهام الفقهاء الذين يشكلون هيأة أهل الحل و العقد. إن نضج الفعل السياسي الإسلامي رهين بالانعتاق من أسر الأطر السياسية الماضية التي أسرت الأمة و كبلت حريتها. ومن القضايا التي راجعها الدكتور الريسوني ربط الثورة بالفتنة، و قد يكون من المهم أن نذكر هنا أن الباحث المصري محمد عمارة في كتابه " ثورة 25 يناير و كسر حاجز الخوف" قدم مقاربة عميقة لهذه الإشكالية، فبعد أن حفر حفرا إيتمولوجيا في جذور مفهوم الثورة، وجد أن الفقهاء كانوا يسمونها فعلا فتنة، لكن بمفهومها الإيجابي، أي الابتلاء و الامتحان، ففي هذه الثورات يبتلى المرء و يمتحن صدقه، لذلك فهو يعلن حربا شرسة على من يسميهم علماء السوء و يفند أطروحاتهم في عدم جواز الخروج على الحاكم بدعوى الفتنة، و يمكن أن نحصر الأدلة التي استند على فيما يلي : الأول : التنصيص على غياب القراءة التاريخية، فالكثير من الأحاديث الداعية لطاعة ولي الأمر ذكرت في سياقات معينة، مثل طاعة أمير الجيش، و من غير شك هذه الطاعة واجبة حفظا لصفوف الجيش من التشرذم و الفرقة، و هذا هو تفسير ابن عباس لآية طاعة ولي الأمر الثاني : الوقوف عند عناوين الأبواب في مصنفات الحديث مثل ما ورد في صحيح مسلم " باب في طاعة الأمراء و إن منعوا الحقوق"، و تناسي كليات الدين و فلسفته الرافضةللظلم والركون لأهله الحاثة على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. إن هذا الخطاب يرد مقاصد الدين اعتمادا على جزئيات، و هذا خطأ أصولي في الاستدلال. الثالث : التعامل الانتقائي مع النصوص، فمثلا ورد عن حذيفة بن اليمان حديثين عن الموقف الواجب اتخاذه من الحكام الفسقة الظلمة، الأول يدعو إلى الصبر، و الثاني إلى السيف أي للمواجهة المسلحة، يقول د. عمارة عن انتقائية هؤلاء الفقهاء : "ووجدنا فقهاء السلاطين يكثرون من ذكر الحديث الأول و تخرس ألسنتهم فلا تذكر الحديث الثاني و لا تشير إليه.. رغم أن الأول يجافي بمعناه، روح الشريعة و منطوق القرآن و الأحاديث الكثيرة الداعية لإنكار المنكر". كما أن د. عمارة ينتقد هذه المواقف انتقادا منهجيا، فهذه الأحاديث التي يستدل بها علماء البلاط لا تبلغ درجة التواتر، و معلوم أنه لا إلزام في العقائد استنادا على نصوص آحاد، ، و طاعة أولياء الجور و الظلم هو بمثابة "عقيدة سياسية"، ثم إن هذه النصوص تقارب قضايا دنيوية، و هذه الأخيرة لا ثبات لها و إنما تقارب على ضوء "مصلحة الأمة"، يقول الدكتور عمارة : "إن هذه النصوص قد رويت في شؤون السياسة و علاقة الحاكم بالمحكوم، فهي ليست من السنة التشريعية، المتعلقة بالدين و تبليغ الرسالة، و تفصيل و تبيان ما أجمله الوحي إلى الرسول صلى الله عليه و سلم، أي أنها ليست متعلقة بالأصول و الأركان و العقائد الدينية التي هي ثوابت الدين و من ثم فلابد من عرض هذه المأثورات السياسية على معيار الصحة." أما الدكتور الريسوني فيناقش الإشكالية من منظور آخر ، فهو يرى و إن ترتبت فتنة عن الثورة إلا أنها من الشر الذي لا بد منه، إذ أن الأضرار التي تترتب عن الركون للظلم أكبر، و هكذا يقول بعد مقارنة بين مصالح الخروج و مفاسده : " إنما الفتنة في ظلم الناس و فعل المنكر و غصب الحقوق، و في السكوت على ذلك و تركه يتراكم و يتعاظم، حتى لا يبقي للناس دينا و لا دنيا". ثم يورد ما به تكون الفتنة شر، و منها الخروج المسلح على الحاكم صاحب الشرعية السياسية ، أو القتال تحت راية العصبية القومية أو من أجل الصراعات الغوغائية التي لا يظهر فيها الحق من الباطل. ثم بعد ذلك يراجع إشكالية تطبيق الشريعة الإسلامية، و الجديد في هذه المراجعة أن د.الريسوني لا يقف عند المعنى السطحي الظاهر للشريعة، بل إنه يعود إلى الدلالات القديمة الواسعة لتطبيق الشريعة، و من غير شك فهذه المقاربة تضرب في صميم مشروع بعض تيارات الإسلام السياسي الذي يحصر الشريعة في الحدود، إن الشريعة كما كانت تفهم في الماضي هي كل ما يقابل العقيدة، فهي القيم الإسلامية و مكارم الأخلاق و المقاصد و الكليات ذات الطابع الإنساني التي لا يمكن رفضها و إنكارها، فالشريعة الإسلامية جاءت لحفظ الفطرة البشرية الخَيرة، من هنا فالسؤال المغرض الماكر هل سيظل الإسلاميون أوفياء لمشروعهم في تطبيق الشرع أو هل سيرضي الإسلاميون الشعب أم الشرع لا معنى له، إذ أن الشريعة في حد ذاتها مصلحة للشعب، و يكفي الاطلاع على القواعد الأصولية التي تعزز هذا الرأي، يذكر منها د. أحمد : أولا : الاستحسان، يقول ابن رشد معرفا إياه : " الالتفات إلى المصلحة و العدل ". ثانيا : أصل سد الذرائع. ثالثا : لا ضرر و لا ضرار. رابعا : التصرف على الرعية منوط بالمصلحة. خامسا : حيث المصلحة فثم شرع الله. وهذه القواعد تكشف عن صلاحية الشريعة الإسلامية بما تحويه من أصول لا تتعارض مع مصلحة الأمة، يقول الدكتور أحمد الريسوني : " و هكذا يظهر جليا مدى حجية المصلحة و مرجعيتها في التشريع الإسلامي". لا شك أن مراجعة الإرث السياسي ضرورة ملحة، فهذه الأزمة السياسية التي تجتاح الدول العربية لا يمكن فصلها عن أزمة الفكر السياسي العربي، فالسياسة من الفنون و الصناعات التي يتداخل فيها النظري بالعملي، فالتنظير السياسي في التراث العربي الإسلامي بشقيه الفقهي و الفلسفي كان قليلا، من أجل ذلك من الصعب سد الثغور و ملء الفجوات التي تراكمت على مر التاريخ في جسد فكرنا السياسي الهزيل و قاعدته المهلهلة المرتهلة، ما يجعل مهمة قلب الأوضاع السياسية في العالم العربي أصعب، إذ أن العملية تحتاج إلى إعادة النظر في "النظريات السياسية" المتراكمة السالفة و التعامل معها بمناهج حديثة على ضوء آخر ما توصل إليه العقل البشري في الفكر السياسي، من أجل تقييمها تقييما موضوعيا يستجيب لتطلعات اللحظة الراهنة الحرجة التي يجتازها العالم العربي الإسلامي. إن الفعل السياسي الذي نطمح إليه نحن أبناء القرن الواحد و العشرين يتطلب عقلا سياسيا يتجاوز مثالية رواد الفكر السياسي العربي، و يستبعد الفكرانية العلمانية الارتهانية، فهما معا ثقل و عبء على فكرنا السياسي، و نهوضه رهين بالقدرة على التحرر منهما ، إذ أن السياسة ليست بساطا ثابتا و إنما هي فعل ديناميكي متغير يخضع دائما للتطور، فهي إذن بمنأى عن التنظير المثالي الثابت، كما أنها ليست بضاعة استهلاكية يستساغ استيرادها من أي مكان، و إنما هي فعل و سلوك نابع من محددات تحمل خصوصيات و مقومات تاريخية سوسيوثقافية، إن لم نستحضرها خلال التنظير سنتسبب حتما في حتفنا.