نقرأ لهم دون أن نعرف تقاسيم وجوههم ولا ملامحهم، يكتبون لنا وعنا وقائع وملاحم، يخوضون "في عمق" المجتمع، في ثنايا الذات وفي قعر الذاكرة، يرسمون واقعنا ووعينا ولاوعينا بأقلامهم، بالألم حينًا وبالأمل حينا آخر. هم حملة الأقلام الذين امتهنوا المتاعب عن طواعية وقدر محتوم، هم الذين انصهروا في رحاب صاحبة الجلالة حد الذوبان. التقيناهم بعيدا عن مكاتبهم .. قريبا من القارئ، حيث تم قلب الأدوار والوضعيات وتجريب مواجهة السؤال الذي هو زاد الصحافي. وفي خضم البحث عن الجواب تحدثنا عن الطفولة وتفاصيل الحياة الشخصية في بوح صريح. ضيف الحلقة 24 ضمن هذه السلسلة مع عبد الحميد جماهري مدير تحرير جريدة الاتحاد الاشتراكي. ما الذي تتذكره من طفولتك؟ أذكر طريقا طويلا طويلا، وثلجا عرمرم، على الجنبات يرافقني ببياض مبهم وصقيعي يعض قدمي ويدي ويعض أرنبة أنفي، ومعلمين يعرفون الوالد ويعدونه دوما بمراقبة صارمة، وجدة تحكي وتحكي وتحكي، حتى يختلط وشمها بكلامها فأنام..، وجدّ كان يحب كثيرا قصص الانبياء وقراءة القرآن، و يعتبر لغير ذلك بأن الفم من أدوات الشيطان. وأذكر حقلنا الصغير، وأنا أستيقظ لكي أساعد أبا موزعا بين مهن قليلة وزعني بين المحفظة والرفش لسقي المزروعات، وأذكر كيف أنني كنت أحلم، وأنا اقتفي معيزات صغيرات وتيوس قليلة رعناء بأن يكون لي مطعم. راع بمطعم ملأ فمه! كيف جاء التحاقك بالصحافة؟ جئت إليها من الأدب، والسياسة والصداقة. حلمت دوما، حتى وأنا أتابع دراستي في شعبة العلوم التجريبية، ثم من بعد في كلية العلوم بشعبة البيولوجيا والجيولوجيا، بالأدب، بالفلسفة تحديدا، وقراءة الجرائد. وحين تعرفت على عاهد سعيد، باعتباره قياديا في الشبيبة الاتحادية، ثم مسؤولا في يومية «ليبراسيون» بالفرنسية، بدأت أكتب على صفحاتها، بعض النصوص ذات النكهة الأدبية .. كان للصداقة معه، ومع الفنان التشكيلي الرائع عبد الله بلعباس تتمة القصة. تركت التدريس بالناظور، ثم انتقلت إلى الدارالبيضاء لاشتغل في «ليبراسيون»، أيام البرومير والطاولة المنيرة، وقتها كانت أسبوعية قبل تحويلها إلى يومية في بداية تسعينيات القرن الماضي. بعدها سأغادرها لالتحق بيومية الاتحاد لاشتراكي في ظروف لا داعي لذكرها، صارت جزء من الرواية التي أكتب ... في مسار طويل من أيام صعبة قادني إليك في «العمق» اليوم! هل كنت تتوقع يوما أن تصير صحافيا؟ هل كانت الصحافة أصلا نوعا في أذهاننا؟ كانت الكتابة وأسئلتها والالتزام هو الذي قادني إليها..كانت موقفا، ومنبرا وصراعا ضد السلطة ومن أجل الديمقراطية والشهداء والتحرير، ومن أجل الجماليات الكفاحية..قل، كنا قبيلة أخلاقية! تبحث عن مغرب دقيق في الأمل .. أعتقد بأنني كنت أريد أن أصبح مناضلا شهيدا، وأن الصحافة كانت تبدو طريقا موفقا للوصول الى الارتطام المؤدي إلى ذلك! بعيدا عن الصحافة، ما هي اهتماماتك في السياسة والثقافة والرياضة والمجتمع؟ كما تعرف أنا مناضل في الاتحاد الاشتراكي منذ ما لا يقل عن 39 سنة، أي منذ كان عمري 15 سنة، حيث كان أول اعتقال لي في شبيبة الاعدادي ... واليوم انتخبت ثالث مرة عضوا في المكتب السياسي. أحلى فترات اهتمامي، هي الجامعة عندما كانت الثورة، والحب والنضال السياسي متعة واحدة، وكانت الروح الكفاحية تزداد وتترسخ بالقراءات الشعرية والروائية والفلسفية، ومن حسن حظي أن أستاذي في الفلسفة كان أيضا الكاتب الإقليمي، السي عبد الرحمان بوكيرو اطال الله عمره. أحببت القراءات الفلسفية، نيتشه اساسا وهيجل، وأحببت الأدب وكل القراءات منذ دهشتي الكبرى أمام جبران خليل جبران، وابو القاسم الشابي في الشعر. ما زلت أحب القراءات الشعرية خاصة التجارب الأجنبية، فأنا الآن اقرأ تجارب اسكندنافية في الشعر المترجم، والراية وكتاب «الاندحار في الغرب» لأونفري الذي يشغلني اليوم .. ويدهشني كثيرا! ما هي المدينة الأقرب إلى قلبك؟ كتبت ذات مرة: أجمل المدن هي التي لم أرها! ألم تشعر بالندم لأنك لم تختر طريقا آخر غير الصحافة؟ صراحة كنت سأكون أفضل لو أنني حققت حلمي: راع، بمطعم في الجبال! ألا تظن أن دور الصحفي ليس هو دور السياسي؟ فهمت ذلك متأخرا، فالحرية قريبة من الصحافي، وغالبا ما تجامل السياسي. وأبشع التجارب لدى الشعوب هي أن يكونا معا بلا جدوى..! هل تفضل أن يصفك الناس صحافيا أم كاتبا؟ كاتبٌ جميلة، إضافة إلى أن الكتابة يمكنها أن تضم الصحافة باعتبارها أوسع منها. ما رأيك في واقع الصحافة المغربية؟ مثل مريض يموت بمساعدة الأطباء...! هل أنت منتظم في أوقات الكتابة ؟ في الصحافة، نعم.. في النثر، نعم .. في الشعر لا أمتحن مزاجي أبدا بجدول أعمال سابق عليه..! هل من طُرفة وقعت لك في محراب صاحبة الجلالة؟ حدث أن السي عبد الرحمان اليوسفي عاقبني بسبب... قطر، والقصة أنني ترجمت مقالا اعتبرته الحكومة في عهد المرحوم الفيلالي والدولة القطرية ممثلة في تمثيليتها الديبلوماسية يمس بدولة شقيقة .. وكان أن قرر السي عبد الرحمان أطال الله عمره أن "يرضي الضحية" كما قال هو حرفيا! ماذا تمثل لك هذه الكلمات؟ الحرية: من فضل الحياة على الحرية صار عبدا الحب: هو الدليل الفعلي على أن الإنسان سجد له الملائكة في البدء بأمر من الله سبحانه وتعالى! الوطن: ياااااه، هل تدري أن حب الوطن إجباري في ديننا، في حين أن الدين نفسه اختياري! ما رأيك في هؤلاء؟ الجابري: دليل النبوغ المغربي في جمع العقل والعاطفة.. اليوسفي: أشكر الله أنني عشت بالقرب منه سنوات، وأنني عشت في زمانه.. وبعده أيضا! الزايدي: غصة جيلنا...!