نقرأ لهم دون أن نعرف تقاسيم وجوههم ولا ملامحهم، يكتبون لنا وعنا وقائع وملاحم، يخوضون "في عمق" المجتمع، في ثنايا الذات وفي قعر الذاكرة، يرسمون واقعنا ووعينا ولاوعينا بأقلامهم، بالألم حينًا وبالأمل حينا آخر. هم حملة الأقلام الذين امتهنوا المتاعب عن طواعية وقدر محتوم، هم الذين انصهروا في رحاب صاحبة الجلالة حد الذوبان. التقيناهم بعيدا عن مكاتبهم .. قريبا من القارئ، حيث تم قلب الأدوار والوضعيات وتجريب مواجهة السؤال الذي هو زاد الصحافي. وفي خضم البحث عن الجواب تحدثنا عن الطفولة وتفاصيل الحياة الشخصية في بوح صريح. ضيف الحلقة ال 20 ضمن هذه السلسة مع يونس الخراشي إبن مدينة الدارالبيضاء، صحافي رياضي بجريدة "أخبار اليوم". ما الذي تتذكره من طفولتك؟ الصور التي تأتيني من طفولتي عبارة عن ندف متفرقة ومتباعدة. فلست أحتفظ بالكثير. اللهم تلك الرحلة اليومية إلى "المسيد"، حيث كان با عبد الله، رحمة الله عليه، يأخذنا من حينا إلى حي آخر، حيث يدرسنا الحروف، والحساب، والقرآن. ثم هناك المدرسة، وشقاوة الصبا، وحلاوة العلاقة مع الأم والأب. كيف جاء التحاقك بالصحافة؟ التحقت بالصحافة بصدفة عجيبة جدا. فقد كنت أذرع شارعا في مركز الدارالبيضاء (المدينة)، لأطالع إعلانا عن معهد خاص للإعلام. وشاء القدر أن ألجه بمساعدة من أخواتي في فرنسا، اللواتي تكفلن بي طيلة وجودي به. ولم تكن تلك الصدفة الوحيدة. ذلك أنني ولجت العالم المهني من طريق هاتف مباغت من أخي هشام رمرام، شهر يونيو 1998، يقول لي فيه، غدا صباحا إن شاء الله نلتقي أمام مقر "ماروك سوار"، لنبدأ هناك تدريبا في القسم الرياضي. ومن هنا بدأت الرحلة، وتستمر إلى اليوم. هل كنت تتوقع يوما أن تصير صحافيا؟ لم أتوقع شيئا في واقع الأمر. فتعليمنا لا يهيؤك لشيء. والمجتمع هو الآخر يفتح لك كل أبواب التيه. حتى إنني لما ولجت الجامعة لم أطل بها مقامي، وسرعان ما رحت أجرب حظي في عوالم كثيرة. الشيء الوحيد الذي أفادني في حياتي الدراسية للإعلام، وفي حياتي المهنية، هو شغف الوالد بالشأن السياسي، وانغماسه في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. فقد كانت قراءة الجريدة الاتحادية طقسا يوميا لا بد منه، فضلا عن الاستماع لأخبار عالم الظهيرة على البي بي سي. كما أفادني معمل الخياط الصديق، عيسى بقلول الحياني كثيرا، إذ كان يجمع خيرة الزجالين والأدباء والمحررين والفاعلين الاتحاديين. وهناك تعلمت أشياء كثيرة، كان لها علي أثر كبير. حبي للكتابة، منذ الصغر، كان له أثره أيضا. ذلك أنني ما إن ولجت المعهد حتى وجدتني في عالم قريب مني، ولا عوائق بيني وبينه، بل كل اليسر. بعيدا عن الصحافة، ماهي اهتماماتك في السياسة والثقافة والرياضة والمجتمع؟ الاهتمامات كثيرة جدا. كل شأن عام هو مجال لاهتمامي. من الفن، إلى السياسة، إلى الرياضة، إلى الثقافة، إلى الطبخ، إلى أي شيء يمكنه أن يكون مثيرا للبحث، ويزيدني علما. فالعلم يوجد في كل مناحي الحياة، والإعلامي مطلوب منه أن يظل يقظا، ومتيقظا، ولا ينام أبدا. عندما تزوجت بأم عيالي، آمال زكي، حفظها الله، ونورها، تعلمت أشياء كثيرة لم أكن أظن أنني سأهتم بها من قبل. وهي الأشياء التي فتحت عيني على واقع الحياة من زوايا أخرى، ضمنها على الخصوص زاوية البيت، والأبناء، وتربيتهم، وتحمل أعبائهم. وهذا مهم جدا، ومن لا يهتم له يفوته الكثير. ما هي المدينة الأقرب إلى قلبك؟ مراكش هي مدينة القلب. مع أنني لم أزرها إلا لماما. ولكن هناك سحر لهذه المدينة إزائي. فكلما واتتني الفرصة كي أزورها، إلا وشعرت أنني الآن فقط مطمئن. هل من سر وراء ذلك؟ لست أدري، ربما لأنني جنوبي، صحراوي، عُمقي في الصحراء، "من تارودانت لهيه". ألا تشعر بالندم لأنك لم تختر طريقا آخر غير الصحافة؟ لا أشعر بأي ندم إلا على شيء واحد، وهو أنني كنت أحلم بالتغيير في هذا المجال، فإذا بي أجده لا يتغير إلا نحو الأسوأ. إنه ميدان "مْفَلّسْ" بالدارجة المغربية. كل يوم يتقهقر أسفل سافلين. مع أن الذين يدبرون شؤون يقولون العكس، وبخدود محمرة. ألا تظن أن دور الصحفي أو السياسي ليس هو دور الكاتب؟ لكل دوره بطبيعة الحال. الصحافي مهمته نقل المعلومة بآليات وأدوات معينة، تجعل من الخبر معطيات دقيقة، متصفة بالموضوعية، والتوازن. وقد يكون الصحافي سياسيا، وكاتبا أيضا، وهذا لا يمنعه من أن يكون صحافيا، غير أنه سيكون صحافيا يشار إليه باستمرار بالبنان. هل تفضل أن يصفك الناس صحافيا أم كاتبا؟ أحب أن أوصف من قبل الناس بأنني رجل حق. فقد أكون صحافيا أو كاتبا أو هما معا، ولكنني لست رجلا، ولست رجل حق. فما يفيدني ذلك إن لم أكن رجل حق؟ هل أنت منتظم في أوقات الكتابة؟ الصحافة تجعل لك دربة في الكتابة، شئت أم أبيت. وهذا طبيعة المهنة. ذلك أنه يلزمك أن تكتب في وقت معين، مهما كانت المشاغل، والظروف، والضغوط. وأي صحافي مهني إلا ويصير، بفعل الخبرة، ومرور الوقت، ذات دربة في الكتابة. كيف عشت أجواء رمضان خلال الطفولة وبعدها؟ رمضان في الطفولة، كأي شيء آخر، له سحره عظيم. وأذكر هنا، من بين ما أذكر، سهراتي مع الكتاب، على ضوء الشمعة، بجانب الوالد، وهو منشغل بالقرآن، رحمه الله. كما أذكر حين كنت أصر على الصيام، ويطلب مني، رحمه الله، ألا أفعل. وهو يرى كيف صرت أزرق، بلون جلبابي، من شدة الجوع والعطش. كما أذكر حين كانت الأم رحمها الله تزودني ببعض الفواكه والخبر وأنا ذاهب، ليلا، وفي أمان الله، إلى مسجد بحي بلفيدير، القريب من حينا، روش نوار (الصخور السوداء)، لأصلي التهجد. ماذا تمثل لك هذه الكلمات؟ الحرية: الفطرة. الحب: له خلقنا. الوطن: صمام القلب. ما رأيك في هؤلاء؟ المهدي المنجرة: رجل عظيم قضى، لكنه ما زال حيا بيننا. العروي: فيلسوف يكتب ليقرأه من سيأتون بعدنا بكثير. الزفزافي: واجهة متفلتة جدا لحراك سلمي غير متفلت.