يشكل الصراع بين الحركة الوطنية (بمفهومها التاريخي) والحركة الأمازيغية (التي نعتبرها أيضا حركة وطنية كبيرة)، أحد أهم الصراعات الكائنة في المغرب المعاصر حول الهوية. فالحركة الوطنية يُؤَرخ لعقد ازديادها بالانتفاضة الشعبية ضد ظهير 16 ماي 1930، ما يعني أن مبرر ميلاد الحركة الوطنية (بالمفهوم السياسي المعروف) كانت له صلة وثيقة بالمسألة الأمازيغية (بغض النظر عن كيفية مقاربة هذه الصلة). كما أن الحركة الأمازيغية لم ترى النور إلا بعد الاستقلال بعشر سنوات أي بعدما تبين لمثقفين وجامعيين وطلاب أن أحد أركان الهوية المغربية طاله الحيف والتهميش من طرف من تصدوا للحكم بعد الاستقلال وكانت تقصد أساسا الحركة الوطنية (رغم أن بالإمكان التساؤل عن من كان في الحكم؛ هل الحركة الوطنية أم القصر و"الفديك" وجماعة أوفقير ورضا كديرة !). وفي هذا الإطار يعتبر "علال الفاسي" هدفا دائما للأجيال الدائرة في الحركة الأمازيغية، التي تنطلق من رؤية مفادها أن علالا باعتباره زعيما كبيرا من زعماء الحركة الوطنية الذين يتمتعون بتكوين تقليدي "سلفي"من ناحية وباعتباره من سلالة أسرة فاسية منحدرة من الأندلس كانت لها روابط مع السلطة من ناحية أخرى؛ هو العدو اللدود للأمازيغية والأمازيغ. وبالرجوع لمحاضرة الأستاذ فكري الأزراق (حزب الاستقلال والريف) الملقاة يوم 09 أكتوبر 2010 بميضار، والمنشورة في الأنترنت، يمكننا أن نفهم أكثر الدواعي التي تدفع قطاعا معتبرا في الحركة الأمازيغية إلى الهجوم على حزب الاستقلال وزعيمه. (1) لم يثرني في مضمون المحاضرة أي معطى يمكن أن يدين علالا بشكل قاطع باستثناء حادثة نقلها الأستاذ الأزراق من مذكرات عبد الله الوكوتي (وبالمناسبة فالأستاذ الوكوتي كان رئيسا للمجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية في أيامه الأولى)، وقعت أثناء زيارة علال الفاسي إلى وجدة. وملخص هذه الحكاية أن ميمون كرموس كان من المعتقلين أثناء زيارة علال الفاسي (باعتباره أحد المتمردين على حزب الاستقلال!)، وفي صباح يوم أخرج من معتقله وهو في حالة من التشويه الجسمي نتيجة لآثار التعذيب، ثم كبل من يديه وراء ظهره ووضع في سيارة جيب، وربط بالسلاسل مع كرسي السيارة في المؤخرة وذهب به إلى العمالة، وأخرج من السيارة وأدخل العمالة، وسط الحشود البشرية التي كانت مصطفة على قارعتي الطريق، جاءت لتوديع علال الفاسي، وأجلس هناك في بهو العمالة على كرسي، وإذا بعلال الفاسي يخرج مع عمرو احميدوا من مكتبه، مع البطانة ويتجهون نحو الأخ ميمون كموس ، ويقفون على رأسه هنيهة ويمعنون فيه النظر، ثم يذهبون إلى السيارات الواقفة في الشارع وسط كوكبة من الدراجات النارية التي كان من المألوف أن ترافق علال الفاسي أثناء تنقلاته أيام كان العمال كلهم تابعين للحزب. ركبوا السيارات، ركب علال سيارته مع العامل، وكانت سيارة جيب وضعت وراء سيارة علال لإثارة الإنتباه في الوقت الذي يكون فيه الجمهور يركز نظرته نحو سيارة علال الفاسي، يلفت نظره هذا المنظر الغريب، فيتساءلون وكان المسيرون الحزبيون الذين انبثوا وسط الجماهير على علم ليعطوا درسا لهم في الموضوع وليقولوا لهم أنها عقاب للمتمردين على الحزب. تحرك الموكب، وتحركت -جيب- وراءه، ويقول الأخ ميمون كموس وبدل أن تسدد الأنظار نحو علال الفاسي كانت مسددة نحوي، ومررنا من تلك الحشود التي كانت مكتظة بشوارع وجدة، ووقع نفس الشيء حين وصلنا بني ادرار، ثم أحفير، ثم الركادة، وأخيرا وصلنا أبركان، وفي أبركان ، المحط النهائي للزيارة، دار الموكب في الشارع الكبير ثم وقف أمام ساحة الدائرة، ليقدم لعلال الفاسي التمر والحليب وتعطى التعليمات لسيارة جيب بأن تواصل جولتها في الشارع الكبير مرتين، وبعدها أرجعت إلى المعتقل، ومن هنا –يقول الأخ ميمون كموس- كنت أنا الزعيم، كانت أنظار الجمهور متجهة نحوي” وهذا فقط نموذج مصغر لما كان يقوم به الحزب الديكتاتوري ضد كل من عصى أوامره، وهذه الشهادة لا تحتاج إلى تعليق لأنها توضح بنفسها مدى الحقد الذي كان يكنه علال الفاسي وأتباعه لكل من كان خارج دائرتهم. (1) بصدق لم أفهم جيدا ملابسات الحادثة، وبالإمكان أن أعود لاحقا إلى مذكرات الوكوتي مباشرة وغيرها من المراجع للتدقيق فيها. غير أنني أشير إلى أن هذه الحوادث أقصى ما يمكن أن يُدين علال بالعنصرية تجاه الأمازيغ (من الريف). وطبعا معلوم من المعطيات المذكورة أن الحديث كان عن تمرد ضد الحزب أي أن المسألة فيها صراع سياسي ليس ضد الأمازيغ لأنهم أمازيغ فرُب متمرد (فاسي) على حزب الاستقلال، هل سينجو من العقاب لأنه (فاسي-عربي!). ما أريد الوقوف عنده في هذا المقال، هو أن قراءتنا المكثفة لنصوص علال وحياته تبين أن الرجل ليس عنصريا. صحيح قد تكون له مواقف تجاه الامازيغية لا أتفق معها. ولكن التحليل الحصيف يفضي إلى كون الإنسان لا يفكر خارج محيط نشأته وملابسات الوسط الذي نما فيه (فكريا واجتماعيا)، ولهذا فعلال وجد نفسه في وسط أسرة فاسية ذات أصول أندلسية في مدينة يقل فيها الناطقون بالأمازيغية بالمقارنة مع باقي المناطق التي تصل إلى مائة بالمائة، وطبيعي أنه لا يعرف الأمازيغية ولا يستشعر ذات مشاعر الأمازيغي الذي يشع وجدانه بما بثه فيه محيطه بغلاف لغته الأم. كأننا نطلب من إنجليزي أن يقول ذات مواقف الفرنسي في الفرنسية وهو ناشئ في فضاء في فرنسا يتكلم فيه من حوله الإنجليزية ودرس في مدارس خاصة بالإنجليز. يكفي علالا أنه كان مؤمنا بقوة الأرض وعدم التمييز بين الناس بناء على الجنس أو اللغة أو الدين. يقول في (النقد الذاتي، الطبعة الثامنة، 2008): إن قوة الأرض أعظم القوات تأثيرا وأقدمها تاريخا، كما أنها أقوى صمودا من قوة الدم،؛ لأن تغيير القوة الأرضية يحتاج لآلاف السنين بينما تغيير قوة الدم يتم في أقرب الأوقات. والفكرة التي تتكون من التمسك بالأرض واعتبارها من مظاهر اتحادها مع النموذج النفسي هي التي نريد من الفكر الوطني. توحيد الأرض بالنموذج النفسي وتوحيدهما معا بروح العصر، ذلك هو التفاعل الإنساني الذي تمتزج فيه مادية الأرض بروحانية الإنسان فيصبح الكل عبارة عن فكرة مجردة هي فكرة الوطنية الصحيحة التي لا تعتبر الناس بناء على ما بينهم من فوارق الجنس واللغة والدين، وإنما تعتبرهم بحسب ما يمكن من الاتحاد بين نموذجهم الشخصي والوطن الذي يعيشون فيه. ص:110. وبخصوص ما يُقال عنه بأنه ذيل للقومية العربية في المغرب وأنه يحب العرب الأجانب ويكره الامازيغ بني جلدته، فإن نصوصه تحبل بكون ولائه هو للإسلام وأنه بدوره يُثرب على العرب الذين يعتبرون أنفسهم شعب االله المختار ويناقش السوريين الذين يحملون هذه الدعوى. ويحلل هذا الأمر، قائلا: وأما هذه الطائفة من الأمة العربية التي رأت طغيان "إسرائيل" عليها، واستبدادها بالبلاد المقدسة دونها، وحيرتها في مقاومتها لضعف مقاومة العرب وافتراق كلمتهم. فحملها ذلك على أن تقلد الإسرائيليين في دعاواهم أنهم شعب الله المختار وأنهم أفضل العالمين، فزعمت هي الأخرى، أن العرب كانت قبل الإسلام أمة عظيمة من أرقى شعوب الأرض، وأن كونها من خيرة الأمم أو خير الأمم على الإطلاق هو الذي أعدها لأن تتقبل نبوة الرسول العربي فيها. مع أن الحق بخلاف ذلك فالعرب ناس كالناس، ولولا أ محمدا داءهم من ربهم فعلمهم الإسلام وآدابه لظلوا في عمايتهم يجهلون، وإذا كان لهم فضل على الناس فهو في انبثاق النبي محمد من بينهم وقيامهم بتأييده وحماية دعوته مثلهم في ذلك مثل غيرهم ممن يقوم بنشر دعوة الإسلام والذود عنه من أي جنس كان. ولقد وقعت بيني وبين بعض المفكرين المسلمين في سوريا مجادلات في هذا الجانب. والحق أنه لا فضل لجنس على جنس ولا لعنصر على آخر إلا بالتقوى وبما قدمه للإنسانية من عمل وحضارة. (علال الفاسي، تاريخ التشريع الإسلامي، سلسلة كتاب العلم، الطبعة الأولى، 1990، ص:47) قد يعترض معترض على هذه النصوص مشيرا إلى أن البون شاسع بين الفكر والممارسة. أولا، الذين يتهمون علالا فهم يتهمون العنصرية الكامنة في فكره قبل أن ينتقلوا إلى نسبة ممارسات غير إنسانية تجاه الأمازيغ إلى حزبه. ثانيا؛ لست واثقا من أن هذا الكلام الشائع عن ممارسات غير إنسانية ضد المخالفين للحزب عبر توسُل العنف صحيح. لكن إن افترضنا أنه صحيح فأزعم أن المتورطين في هكذا أحداث لن يكونوا سوى جماعة من الأميين والعوام من المتعاطفين مع الحزب؛ وللإشارة فأغلب هؤلاء التحقوا بالحزب وعلال غير مسؤول عن قيادته المباشرة في المغرب. فعلال نُفي إلى الغابون عام 1937 وعاد من المنفى عام 1946 ثم رحل إلى مصر سنة ثم عاد إلى طنجة (التي كانت منطقة دولية) حيث كتب النقد الذاتي لكن سرعان ما عاد إلى مصر ومكث هناك إلى حدود عام 1955. ما يعني أن علالا هو خارج تراب الوطن قرابة العشرين عاما.وبالتالي، فعلال ليس مسؤولا عن تربية هذه الطينة من الحزبيين الذين يفتكون بمخالفيهم وغير خاف أن التنظيمات الجماهيرية بعد توسعها قد تكون مرتع ممارسات لا علم للقيادة بها (هكذا قيادة الإخوان في مصر ممثلة في حسن البنا لم يمكن في علمها نهائيا العمليات التي قام بها بعض أعضاء التنظيم الخاص ومنها اغتيال النقراشي ووصفهم البنا بأنهم "ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين"). إن علالا يقول (النقد الذاتي، ص:15) بأن الحركة الاستقلالية التي ينضوي تحت لوائها لا تتم رسالتها في الأمة المغربية، إلا إذا استطاعت أن تبعث في نفوسنا جميعا تلك الروحية المغربية التي كونت من أسلافنا أولياء ممتازين وأبطالا متفوقين لا يغارون إلا على حقوق الله والوطن، ولا يتنافسون إلا في السبق لخدمة الكل ومساعدته على التحرر والانطلاق. وهكذا، فعلال منحاز للرصيد التاريخي للوطن بالقدر الذي يعرفه (قد نختلف معه في بعض آرائه مدركين أن الإنسان رهين محيطه وبيئته وواعين أن الإنسان -أي إنسان- عدو ما جهل)، كما أنه لا مكان للعنصرية في فكره فها هو يرى تنافس المغاربة لا يكون إلا في خدمة الكل لا أهل فاس فقط ولا الريف فحسب وإنما في خدمة كل من حملته هذه الأرض. وقد كان له قصب السبق في المغرب أن كان أول الداعين إلى إحداث كرسي للثقافة الأمازيغية في الجامعة المغربية منذ عام 1968 (فهل يفعل العنصريون هذا؟).