من سُوء حظ المدن الصغيرة، ابتلاؤها بمسؤولين يتعاقبون على تدبير شأنها المحلي، وكل واحد منهم يلعن الذي سبقه، ويقدم الوعود للمواطنين من أجل التصويت عليه في المرة المقبلة لتحقيق ما لم يتمكن من إنجازه في الولاية الانتدابية التي تسربت من بين أصابع يديه كالماء، ولم يتم الوفاء بأي التزام. هذا عن الولايات السابقة، لأن الولاية الحالية ما زالت في بدايتها، ولايمكن الحكم عليها إلا بعد إصدار جميع المراسيم التطبيقية، قلت هذا عن ما سبق من ولايات إذ الرئيس الوحيد الذي استطاع تحقيق بعض الانجازات للمدينة، رجل إسمه الدكتور حمان –رحمه الله-، الذي كان وراء تبليط مجموعة من أزقة الأحياء الشعبية مثل الغماريين، والزاوية، وخريبكة، وحومة الجامع، وأيضا بناء قنطرة حديدية فوق نهر بهت تربط بين "الفيلاج"، وأحياء أولاد مالك، وغيره من أحياء الضفة الغربية، كما يحب أن يناديها أبناء المدينة. من أتيحت له الفرصة، وتفضل بزيارة المدينة لأول مرة، سيُلاحظ أنها مدينة الدراجات الهوائية، و"التريبورتورات"، والمقاهي بامتياز، إذ لو تم الإعلان عن مسابقة في المدينة الأكثر إنتاجا لفطريات إسمها "المقاهي"، بدون شك ستحتل سيدي سليمان المركز الأول، فبين مقهى ومقهى تجد مقهى، بل داخل كل مقهى تجد مقاهي كثيرة. ولأنه من بين أبناء وبنات المدينة، عدد كبير يعيش خارج الوطن، خاصة في فرنسا وإيطاليا، فإن هؤلاء المُهاجرين أفضل مَشروع يمكنهم استثمار أموالهم فيه هو فتح مقهى تحت إسم المدينة التي يقطنون بها في بلاد الهجرة. وبطبيعة الحال، هذه المقاهي تجدها "تنغل" بالزبناء، الذين يتوزعون على مقاهي السماسرية، ومقاهي المبتلين بلعبة "التيرسي"، ومقاهي عشاق كرة القدم، ومقاهي الصنايعية، وباقي المقاهي مختلطة، التي تضم مختلف المهن، بما فيها العاطلين عن العمل، ومدخني "الحشيش"، والجواسيس الذين يراقبون هؤلاء ويعدون التقارير السرية بغباء شديد في زمن كاميرات المراقبة التي تجدها في كل مقهى. ولعل الإقبال المتزايد على المقاهي، دفع أصحابها إلى احتلال الملك العمومي، حيث يتم "تفريش" الكراسي فوق الرصيف، بل منهم من أحاط المساحة التي أمام المقهى بسياج وغرس الأشجار ووضع مزهريات كبيرة، غير عابئ بالراجلين الذين شغلوا بدورهم الشارع الذي تستعمله السيارات والشاحنات والدراجات بمختلف أنواعها. وهكذا، أصبح المواطن يعرض نفسه للخطر، بسبب جشع أصحاب المقاهي، الذين اجتاحت كراسيهم وطاولاتهم الأرصفة، ومع استنكار المواطنات والمواطنين، نفذت أول أمس كتيبة من المسؤولين بالمدينة عملية تحرير الملك العمومي، لحماية المواطنين من هذا "الاحتلال" غير القانوني، حيث تم حجز مئات الكراسي والطاولات، وإيداعها في المستودع البلدي، ولا يمكن إرجاعها لأصحابها إلا بعد تسوية وضعيتهم القانونية والجبائية أمام المصالح المختصة، ولن يتم السماح لهم باحتلال الملك العُمُومي إلا بعد استصدار تصريح بذلك، مع ضمان مسافة لا تقل عن مترين والنصف متر وهي الحق المكفول للراجلين. يقولون "المال السايب يعلم السرقة"، على غرار ذلك فإن الملك العمومي "السايب"، يعلم "الاحتلال"، وبالتالي حرمان المواطنين من حقهم في المشي فوق الرصيف بسلام، أما جمالية المدينة، فإلى الجحيم، لأن ما يهم أصحاب المقاهي، هو الربح السريع وبأي ثمن، إذ لا يوجد بين هؤلاء من يضع خزانة كتب أو يضبط جهاز التلفزة المعلق بأحد أركان المقهى على قناة تقدم الأخبار أو البرامج الثقافية، الجميع يُقرصن البطاقات المشفرة، لنقل مباريات كرة القدم. مثل هذه الحملة، لا يجب أن تكون مجرد "سبع أيام ديال الباكور"، بل يجب أن تستمر من أجل أن تتنفس المدينة هواء نقيا، إذ يَكْفى هذا العدد الكبير من المقاهي التي تحيط بها من كل جانب، بل المطلوب توقف مصالح البلدية عن تسليم أي رخصة لفتح مقهى لأي كان، فالمدينة بإمكانها تصدير الفائض من مقاهيها إلى مدن مُجاورة. هذه الحملة مهمة، لكن لَيست وحدها الأرصفة، من تحتاج إلى تحرير بل يجب أيضا أن تحرير إرادة المُنتخبين والمُجتمع المدني، سيما المخلصين منهم، وأن يَمتلكوا الجُرأة الكافية للصراخ في وجه الفساد الذي يُعشش منذ زمن بعيد مثل طائر الشؤم بالمدينة في زوايا مُظلمة ببعض مرافق الصحة والتعليم والأمن والسياسة وقطاعات أخرى. إن عَملية تحرير الملك العمومي، ما هي إلا جزء من عملية تحرير كبرى يجب أن تقع بالمدينة لتخليصها من الذين يريدون تدبير شُؤونها بالريموت كونترول.