الوداد البيضاوي يعلن تعيين بنعبيشة مديرا تقنيا للنادي    مديرية الجديدة توضح في بلاغ رسمي توازن الوضعية التعليمية بمدرسة الروداني    التوافق يطغى على أشغال لجنة برلمانية بدأت مناقشة تعديلات مشروع القانون التنظيمي للإضراب    بوريطة: وقف إطلاق النار في لبنان تطور إيجابي لكن يتعين احترامه    مؤشر "مازي" يرتفع ببورصة الدار البيضاء    أخنوش يمثل جلالة الملك في قمة «المياه الواحدة» في الرياض    اختتام اجتماع عسكري بين المغرب وفرنسا    التوفيق: ترميم المساجد أغلى من بنائها        البواري: القطاع الفلاحي يواجه تحديا كبيرا ومخزون السدود الفلاحية ضعيف        الفنان المغربي المقتدر مصطفى الزعري يغادر مسرح الحياة    إسرائيل تهدد ب "التوغل" في العمق اللبناني في حال انهيار اتفاق وقف إطلاق النار    حكومة أخنوش تقرر إعفاء معاشات المتقاعدين من الضريبة على الدخل    "الاعتداء" على مسؤول روسي يعزز دعوات تقنين النقل عبر التطبيقات الذكية        مطالب بفتح تحقيق في التدبير المالي لمديرية الارتقاء بالرياضة المدرسية    طائرة خاصة تنقل نهضة بركان صوب جنوب أفريقيا الجمعة القادم تأهبا لمواجهة ستينبوش    دبي توقف إمبراطور المخدرات عثمان البلوطي المطلوب في بلجيكا    الأمم المتحدة: كلفة الجفاف تبلغ 300 مليار دولار سنويا    إنتخاب عبد الحميد أبرشان رئيسا جديدا لمقاطعة طنجة المدينة    رحيل الفنان المغربي مصطفى الزعري    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    الفنان المسرحي الكبير مصطفى الزعري ينتقل إلى جوار ربه    التامني: استمرار ارتفاع أسعار المواد البترولية بالمغرب يؤكد تغول وجشع لوبي المحروقات    النقابة المستقلة لأطباء القطاع العام تستمر في إضرابها الوطني للأسبوع الثالث على التوالي    حدث نادر في تاريخ الكرة.. آشلي يونج يواجه ابنه في كأس الاتحاد الإنجليزي    أكادير…توقيف شخص يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في تنظيم الهجرة غير المشروعة    المضمون ‬العميق ‬للتضامن ‬مع ‬الشعب ‬الفلسطيني    تصريحات مثيرة حول اعتناق رونالدو الإسلام في السعودية        رحيل أسطورة التنس الأسترالي نيل فريزر عن 91 عاما    جبهة دعم فلسطين تسجل خروج أزيد من 30 مدينة مغربية تضامنا مع الفلسطينيين وتدين القمع الذي تعرض له المحتجون    حماس وفتح تتفقان على "إدارة غزة"    أمريكا تقيد تصدير رقائق إلى الصين    فن اللغا والسجية.. الفيلم المغربي "الوترة"/ حربا وفن الحلقة/ سيمفونية الوتار (فيديو)    مزاد بريطاني يروج لوثائق متسببة في نهاية فرقة "بيتلز"    فريق طبي: 8 أكواب من الماء يوميا تحافظ على الصحة    ترامب يهدد الشرق الأوسط ب"الجحيم" إذا لم يٌطلق سراح الأسرى الإسرائليين قبل 20 يناير    فيديو: تكريم حار للمخرج الكندي ديفيد كروننبرغ بالمهرجان الدولي للفيلم بمراكش    مؤتمر القاهرة الوزاري لتعزيز الاستجابة الإنسانية في غزة .. المغرب يؤكد استعداده للانخراط في أي جهد دولي يهدف لتهيئة الظروف الملائمة لإحياء مسار السلام    كيوسك الثلاثاء | سرطان البروستات يقتل ألفي مغربي سنويا    أسعار الذهب ترتفع مع تزايد التوقعات بخفض الفائدة الأمريكية    وزيرة: ليالي المبيت للسياحة الداخلية تمثل 30 مليون ليلة    مهرجان مراكش للسينما يواصل استقبال مشاهير الفن السابع (فيديو)    مزور: التاجر الصغير يهيمن على 80 في المائة من السوق الوطنية لتجارة القرب    برلين.. صندوق الإيداع والتدبير والبنك الألماني للتنمية يعززان شراكتهما الاستراتيجية    القضاء يحرم ماسك من "مكافأة سخية"    شعراء وإعلاميون يكرمون سعيد كوبريت    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    دراسة: تناول كميات كبيرة من الأطعمة فائقة المعالجة قد يزيد من خطر الإصابة بمرض الصدفية    وجدة والناظور تستحوذان على نصف سكان جهة الشرق وفق إحصائيات 2024    فقدان البصر يقلص حضور المغني البريطاني إلتون جون    التغيرات الطارئة على "الشامة" تنذر بوجود سرطان الجلد    استخلاص مصاريف الحج بالنسبة للمسجلين في لوائح الانتظار من 09 إلى 13 دجنبر المقبل    هذا تاريخ المرحلة الثانية من استخلاص مصاريف الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الديمقراطية و العدالة الاجتماعية أو تقنين الظلم و شرعنة الحرمان
نشر في العمق المغربي يوم 05 - 04 - 2017

يعتبر مبدأ الصوت الواحد للمواطن الواحد أكثر مبادئ النظام الديمقراطي تعبيراً عن المساواة , و أكثرها إثارة للجدل و النقاش , فبموجب هذا المبدأ تتحقق المساواة المطلقة بين عموم المواطنين المنتمين للبلد الواحد و عموم أعضاء المنظمات و الهيئات الديمقراطية الخاضعين للقانون الأساسي المنظم الواحد , و لا يمكن هنا التمييز أو المفاضلة بين المواطنين أو الأعضاء إلا بشكل بعدي و لاحق للعملية الانتخابية الديمقراطية لا قبلها , أي أن صفة المواطنة في الوطن و العضوية في المنظمة أو الهيئة هي التي توحد الجميع و تساوي بين الجميع , فلا فرق , مبدئياً , بين العالم و الجاهل , و بين الرجل و المرأة , و بين الغني و الفقير , و بين المؤمن و الملحد , و بين الأسود و الأبيض... طالما أنهم يشتركون في صفة العضوية و الانتماء , لتأتي عملية الاقتراع و الانتخاب لتحدد بشكل لاحق المواقع والمهام و المسؤوليات انطلاقاً من مبدأ " المساواة " ذاك و بناء عليه . هذا ما أسسته المحاولات الأولى للتأصيل الفلسفي للحرية و المساواة كتجلي مجتمعي لحق فردي طبيعي , من طرف فلاسفة عصر الأنوار أمثال جون جاك روسو , جون لوك , و طوماس هوبز , عبر نحت مفهوم " الحق الطبيعي " و التنظير الافتراضي ل " حالة الطبيعة " التي نتج عنها " العقد الاجتماعي " المنظم لعلاقات الأفراد فيما بينهم و لعلاقاتهم مع من يحكمهم.
هذه المساواة المطلقة أُسست على مبدأ الحرية المطلقة , فيما يشبه المقايضة و المساومة بين مجموعة من الأفراد الأحرار و المتساوين الذين اهتدوا بالعقل و المنطق و التجربة الى ضرورة عقد اتفاق جماعي و ملزم , بموجبه يتخلى الجميع عن بعض حقوقه و حرياته لصالح الجماعة , بشرط أن يتخلى الجميع على نفس القدر و يلتزم الجميع بنفس الدرجة من الالتزام . و لو أردنا تلخيص جوهر الديمقراطية - حكم الشعب - في مبادئ عامة لقلنا أن الديمقراطية تنبني على خمس مبادئ كبرى يتولد بعضها عن بعض , فالديمقراطية هي " حرية " و " مساواة " قبليِّين تولد عنهما اتفاق بمثابة " عقد اجتماعي " يضمن اعتراف الكل بالحرية و المساواة للكل على أُسس " عقلانية " لتحقيق " المصلحة " الجماعية .
هذه المبادئ الخمس - الحرية , و المساواة ,و العقد الاجتماعي ,و العقلانية ,والنفعية - بالإضافة الى آليات الحكم الديمقراطي كحكم الدستور و القانون , و الفصل بين السُّلط , و العملية الانتخابية الشفافة و النزيهة المعبرة عن السيادة الشعبية و المانحة للشرعية ..., و إن كانت تضمن استمرار و استقرار النظام الديمقراطي وتؤسس لاستدامته على المستوى النظري , إلا أنها تخلق عددا لا حصر له من الإشكالات و الالتباسات عند النظر إليها مطبقة و ممارسة على المستوى العملي , و لعل أكثر ما يعبر عن هذه الالتباسات و الإشكالات هي إشكالية العلاقة بين المساواة المبدئية و العدالة الاجتماعية , فالنظام الديمقراطي يضمن المساواة بين أفراده أمام الدولة و القانون و المؤسسات , كما يضمن المساواة في الولوج الى الخدمات و الانتفاع من الفرص الاقتصادية و المالية الممكنة و المتاحة , إلا أن بريق و لمعان هذا النموذج الديمقراطي و مثاليته تلك السالبة للعقول و الألباب , سرعان ما تخبو و تنطفئ بين مطرقة الاخلال بالعدالة الاجتماعية و سندان تكريس التفاوت و اللامساواة الطبقية و الفئوية , إذ تعمل الفئات المهيمنة و المسيطرة على الدولة و المجتمع على إعادة إنتاج ذاتها و تكريس سلطتها و هيمنتها معتمدة على الثروة الاقتصادية , و النفوذ السياسي , و قوة السلطة , و آليات الحكم و السيطرة المتمركزة في يدها , و التي لا تخالف بالضرورة نص القانون أو مبادئ الديمقراطية المتضمنة في الدستور .
تعتمد الفئات المهيمنة على أساليب و آليات قانونية و شرعية تماماً , لتكريس سلطتها و هيمنتها , و إعادة إنتاج ذاتها و الحفاظ على مواقعها , حيث تتعدد هذه الأساليب و الآليات و تتداخل فيما بينها لتعطي ذات النتيجة و لتحقق ذات الأهداف , و إن كان يمكن إجمال تلك الآليات و الأدوات في ستة محاور أساسية فرضتها ضرورة الفصل من أجل التفصيل و الفهم , لا كانعكاس لانفصال واقعي لمؤسسات مجتمعية , أطر تنظيمية , بنى ثقافية - أخلاقية و سلوكية – لا رابط بينها ولا تبادل للتأثر و التأثر فيما بينها , فإن تلك الوسائل و الأدوات هي بمثابة بنية مجتمعية , سياسية و اقتصادية , اعلامية و ثقافية , تاريخية و لغوية ... تشكل كُلاً مجتمعياً يحدد شروط الفاعلية الانسانية و يرسم أدوار و مهام الأفراد و الجماعات الخاضعين لها و الرازحين تحت سطوة قهرها وهيمنتها , فتحدد بذلك واقعهم الحالي وترسم أفقهم المستقبلي.
أولا , التحكم في المؤسسات السيادية و السيطرة على قنوات التشريع القانوني و الدستوري:
تتحكم الفئات المحتكرة للاستفادة من خيرات البلاد و الوطن بالمؤسسات السيادية عبر نسج شبكة معقدة من تبادل المصالح و المنافع بين رجال السياسة و رجال المال و الأعمال , و إن كانت شبكة المصالح تلك تُنسج على أساس نهب وسلب المال العام و ضمان استقرار و استمرار نظام الحكم في البلدان اللاديمقراطية , فإنها تُنسج و تتشكل على أسس شرعية و قانونية في البلدان الأكثر حداثة و ديمقراطية , حيث تلعب وسائل الإعلام و مجموعات الضغط ( اللوبيات ) و تبرعات الحملات الانتخابية الدور الأساس في تحكم رجال المال و الأعمال برجال السلطة و السياسة , وفي نفاذ هؤلاء الى صلب المؤسسات السيادية , وفي تحكمهم في مسارات التشريع القانوني و الدستوري لتصبح مصالحهم محمية بقوة القانون و امتيازاتهم شرعية بحكم الدستور .
وللمفارقة تتحول العملية الانتخابية الى نقيضها فبدل أن تكون أداة فعالة لضمان حقوق الناخبين عبر انتخابهم لممثليهم المعبرين عن همومهم وانشغالاتهم و المدافعين عن قضاياهم و مصالحهم - مع ما يواكب ذلك من افراز سلطة تتمتع بالشرعية الديمقراطية و ممثلة للسيادة الشعبية – تتحول الانتخابات الى عملية إحصائية ذات طابع إعلامي واحتفالي , خالية من كل مضمون مفرغة من أي قدرة إصلاحية أو تغيرية . فجوهر الانتخابات هو الاختيار الحر للناخب بين أحزاب و برامج انتخابية تتمتع بالمصداقية متساوية في الحظوظ و الامكانات الدعائية و الترويجية بما يضمن تكافئ الفرص بين الأحزاب و حرية الاختيار للناخب . لكن ما يحصل هو أن اختيار حكام الشعب و ممثليه يقع خارج اللعبة الانتخابية لا من خلالها أو أثناءها عبر عملية الحصر المسبق لقائمة الاختيارات – كل المتنافسين ينتمون للفئة المهيمنة و المسيطرة على الدولة و المجتمع أو يدينون لها بالولاء – حيث يتم إقصاء كل متنافس لا يضع نفسه في خدمة النظام القائم إما بشكل مباشر عبر قرار تعسفي و إن تلون بلون المساطر الاجرائية و المقتضيات القانونية , أو بشكل غير مباشر عبر الحملات الاعلامية الموجهة الهادفة الى تشويه الصورة بالنبش في الملفات القديمة أو تضخيم الزلات و الأخطاء , بل اختلاقها أحياناً.
ثانيا , صناعة الرأي العام عبر و سائل الإعلام:
تلعب وسائل الإعلام دوراً مهما جداً في عالمنا اليوم فهي أداة وعي و ثقافة و مصدر موثوق للمعلومة إن حضرت المهنية و الموضوعية , وهي أداة كذب و تضليل و تزييف للوقائع و الحقائق إن حضرت الفئوية و الانتهازية و النوايا المبيتة , بل إن أخطر أنواع الكذب هو كذب " الإظهار و الإخفاء " الذي يجتزئ جزءاً من المشهد و يضخمه و يتجاهل بقية المشهد أو يقلل من أهميته , فيبني بذلك مصداقية من اللاكذب الصريح و من اللاحقيقة الكاملة .
تمتلك الفئات المتحكمة و المحتكرة للسلطة و الثروة وسائل الإعلام المختلفة و تعمل على توجيه الرأي العام من خلالها عبر ضبط المحتوى الإعلامي المقدم , و عبر ترويج خطابها الخاص بالحقيقة و رؤيتها الذاتية لمجريات الأحداث و الأمور , و هذا عمل من شقين , فمن جهة يتم الإسراف في تقديم برامج التسلية و الترفيه الجيدة الإعداد و التقديم , و المنوعة من حيث الموضوعات و المحتويات ( رياضة , أفلام , مسلسلات , برامج الواقع و المسابقات ...) حيث تعمل هذه البرامج على تمرير خطاب , و ترسيخ منظومة قيم أساسهما الهروب من الواقع و الاندماج في عالم من الأوهام و الأحلام يُصنع نجومه كما تصنع أية بضاعة و يروج لهم كما يروج لها . أما الشق الثاني , وهو الأكثر وضوحا و مباشرة , فيتعلق بالبرامج السياسية و الحوارية , و التغطيات الإخبارية حيث يتم من خلالها صناعة رأي المتلقي عبر التأثير في وجدانه و عاطفته قبل عقله باستخدام سلاح الصورة وقوة المشهد المصحوب أحيانا بالموسيقى التصويرية المؤثرة مع اعتماد آلية التكرار في سرد الروايات الناقصة و التحليلات الموجهة حتى ترسخ المعلومة في لاوعي المتلقي بعد أن رسخت في وعيه , لتتحول عنده الى الحقيقة المؤكدة و القناعة الراسخة الثابتة.
ثالثا , منظومة القيم :
إن أي عملية تدجين أو ترويض لأي مجتمع , تمر بالضرورة عبر تغيير قناعاته و معتقداته , و إعادة تشكيل أولوياته و توجهاته , فلكل مجتمع منظومته الخاصة بالقيم كما له بنيته الابستمولوجية الخاصة بالفكر والمعرفة , فمنظومة القيم هي الميزان الذي يقيس به كل مجتمع الصواب و الخطأ و هي المعيار الذي يحدد قيمة كل فعل و مكانة كل فرد في المجتمع , بل هي التي تضبط سلوك الأفراد و تحدد توجهاتهم و اختياراتهم و تُرتب أولوياتهم .
لذلك تعمد الفئات المهيمنة على بث منظومتها الخاصة بالقيم عبر وكالات التنشئة الاجتماعية و وسائل الدعاية و التثقيف الجماعية , فتتم إشاعة ثقافة الفردانية و المصلحة الشخصية و تغيب قيم الانتماء و التضحية , فيتحول الانسان الى كائن مَصلحي – بمعناها الأناني لا الجماعي – هذا النكوص من مستوى الإيمان بالقضايا الإنسانية , القومية والوطنية , إلى مستوى البحث عن المنفعة الشخصية و الانشغال بالهموم و الإكراهات الذاتية , يواكبه تفشي ثقافة التعاطف المزيف و التضامن الدعائي الإعلامي حيث يعمل المُهيمن على تجميل بشاعة هيمنته والمُسيطر على إظهار مدى إنسانية سلطته و سيطرته , فيحول الأزمة من أزمة فئة سلبت الشعب حقوقه و وقفت حجر عثرة بينه و استردادها إلى أزمات اجتماعية – أيتام , مناطق فقيرة و مهمشة , بطالة , مخدرات , ضحايا العنف و الاجرام ... – تتطلب التضامن و التكافل , في حين أن بنية القهر و الاستغلال هي التي غذت تلك الأزمات و هي من ساهم في تفشيها و تفاقمها , أزمات تقع مسؤولية حلها في المقام الأول على المستفيدين من بنية القهر و الاستغلال التي أوجدتها , بل إن من عجيب المفارقات أن تلك الأزمات تشكل معاناة حقيقة للرازحين تحت سطوتها و مناسبة لحملات الإحسان الاعلامي و الدعائي للمتسببين بها .
إذا أضفنا للقيم السابقة قيم الانتهازية و اللصوصية , وقيم التملق و الاستزلام - الخاصة بالمجتمعات اللاديمقراطية – الناتجة عن ربط المناصب و المكاسب بالولاء لشخص الزعيم , وعائلته وحاشيته , بدل ربطها بمعايير الاستحقاق و الكفاءة , تصبح بنية القهر و الحرمان لا تكرس وضعية التفاوت و اللامساواة فقط بل تكرس وضعية التخلف و الانحطاط ذاتها , فيتحول المُستبد و المستبد به الى خاضعين الى المستبد الخارجي و بنية القهر و الاستغلال الخاصة به , فلا يختلف الحاكم عن المحكوم إلا في درجة القهر و الخضوع لا في نوعه , أي أن الحاكم قاهر و مقهور بينما المحكوم يُقهر مرتين.
رابعا , نظام التربية و التعليم :
تعمل الفئات المهيمنة على تسخير نظام التربية و التعليم ليكون أداة لإعادة إنتاج ذاتها و تكريس و تثبيت سلطتها و مكانتها , من خلال الازدواجية التربوية أولا , ثم من خلال التحكم في البرامج و المناهج ومختلف جوانب العملية التربوية ثانياً , يعمل نظام الهيمنة و السيطرة للفئات المتحكمة على خلق توجهين و نظامين للتربية و التعليم , أحدهما مجاني و سيء موجه لعموم المواطنين من الفئات الأقل حظوة , لغته الرئيسية هي اللغة الوطنية ( تتحول مسألة اللغة من فوارق لغوية بين لغة وطنية ولغة أجنبية في الدول النامية إلى فوارق بيداغوجية في تدريس اللغة الوطنية الواحدة في الدول المتقدمة) و يغلب عليه التجريد و الاجترار و التلقين , لا يكسب متلقيه المهارات و المعارف و الخبرات الضرورية و اللازمة للاندماج السلس في سوق الشغل أو لتبَوُء المراكز القيادية و الريادية في الدولة و المجتمع , أما النظام التعليمي الثاني فهو مكلِف و جيد , لغاته الرئيسية هي اللغات الأجنبية يغلب عليه الطابع المهاري والتقني , يراعي حاجيات و ميولات المتعلمين و يؤهلهم للمواقع القيادية و المناصب الريادية عبر إكسابهم القدرات و المعارف و المهارات اللازمة لذلك . إلا أن هذه الازدواجية التربوية لا تؤتي أكلها ما لم تواكب بعملية مراقبة و تنقيح دائمين للبرامج و المناهج التربوية و ما تزرعه من أفكار و ما ترسخه من قيم مخافة بث روح الثورة و التمرد , أو نشر الوعي بوضعية القهر و الحرمان , وهي عملية تجري تحت مسميات و ذرائع كثيرة كمحاربة أفكار التعصب و التطرف , أو إشاعة ثقافة الانفتاح و التسامح .
خامسا , شبكة العلاقات العامة:
تعمل القوى المهيمنة و المسيطرة على الدولة و المجتمع على نسج شبكة واسعة و معقدة من العلاقات العامة و الشخصية فيما بينها تشمل مجالات و تخصصات متعددة و متداخلة , إذ تلعب شبكة العلاقات العامة تلك دوراً محوريا في تكريس و إعادة إنتاج السلطة و الهيمنة فهي شبكة من تبادل المصالح والمنافع المشتركة و التسهيلات و الامتيازات المتبادلة , تساعد الشبكة تلك على تقنيين التنافس بين ذوي النفوذ , و تجاوز الصراع و النزاع الى تقاسم المكاسب و الأرباح , في ما يشبه العرف او القانون المضمر المنظم للروابط و العلاقات بين المنتمين للفئة الواحدة و المجتمع المصغر الواحد . بل إن علاقات المصاهرة و الزواج تلعب دور اللحمة و أداة الربط و الاستدامة لشبكة العلاقات تلك بتجاوز روابط تقاسم المصلحة و المنفعة الى روابط الدم و القرابة .
توظف الطقوس الاحتفالية و المناسبات الاجتماعية و الأسرية كآلية لتعزيز شبكات العلاقات العامة تلك و تجديد دماءها , إذ وراء مظاهر التباهي و البذخ المبالغ فيه أثناء تلك المناسبات تتستر عملية نقل تبادل الامتيازات و المصالح من مستوى علاقات الانتفاع الاقتصادي و السياسي الى المستوى الثقافي و الاجتماعي , أي تتحول من مستوى العلاقات البراغماتية و المصلحية الى مستوى علاقات التفاعل الثقافي , الوجداني و السلوكي . وهنا يظهر دور جمعيات العمل الخيري و الحقوقي - التي تعد غالباً من الاختصاص النسائي – إذ وراء قناع الاحسان و تقديم يد العون و المساعدة للفئات المقهورة والمهمشة توجد حملة علاقات عامة لتحسين صورة تلك الفئات المهمينة و المسيطرة , اعلاميا و اجتماعيا , بل الأهم هو محاولات الاستشراف و الاستكشاف لفرص الاستغلال الجديدة بالاختلاط مع تلك الفئات المحرومة للتعرف عليها عن قرب من جهة ,و للتعرف على أعضاء جدد من المجتمع المخملي من جهة أخرى , لينتقل ذاك التعارف , بالاستتباع , من فضاء التعاون الخيري و الاجتماعي الى عالم الاستغلال الاقتصادي و القهر السياسي.
سادسا , أسلوب الحياة :
يؤدي الثراء الفاحش و النفوذ القوي لدى الفئات المترفة و المنعمة الى خلق أسلوبها و نمطها خاص بالحياة , أساسه ثقافة الاستهلاك و الانفصال الشبه التام عن بقية أبناء الوطن الأقل حظا و نصيباً في خيرات و مقدرات وطنهم , فهي تخلق لنفسها عالمها الخاص , المتكامل و المستقل , فمن المناطق السكنية الراقية بضواحي المدن , الى مراكز التسوق الخاصة بالماركات العالمية , عبوراً بخدمات التسلية و الترفيه باهظة التكلفة و الثمن , و انتهاء بعادات التصرف و السلوك الاجتماعي و الثقافي كعادات الأكل , و اللباس , و الاحتفال , و المشي , و الكلام ... , يساعد أسلوب الحياة المخملي هذا على جعل حياة الفئات المهيمنة على السلطة و السياسة و الاقتصاد , حياة نموذجية و مثالية , ملهِمة لباقي الفئات المجتمعية و مغرية لها , فيسعى الكل الى تقليدها و التشبه بها و الوصول إليها , مما يؤدي كتحصيل حاصل الى ترسيخ تلك الفئات لمكانتها الريادية و القيادية بتقديمها القدوة و النموذج لباقي الفئات , فتعيد إنتاج نفسها بإرغام كل من نجح في تسلق سلم الترقي الاجتماعي , من القاعدة نحو القمة , على إتباع نفس أسلوب الحياة و انتهاج نفس النهج في العادات و السلوكيات إن هو أراد الاعتراف به كوافد و عضو جديد في نادي الأثرياء و النافذين , أي بدل تحول الوافد الجديد الى خطر و تهديد يتحول الى دماء جديدة تُضخ في شرايين بنية القهر و الحرمان.
خاتمة و استدراك:
تسعى الفئة المهيمنة و المسيطرة على الدولة و المجتمع إلى إدامة سيطرتها و إعادة انتاج هيمنتها , بما يضمن لها الحفاظ على مكانتها و مصالحها , موظفة آليات و وسائل متعددة و متكاملة فيما بينها , منسجمة الفاعلية عميقة التأثير ," شرعية" إذا قُيِّمت من الجانب القانوني و الدستوري ," ظالمة" إذا أخذ بالاعتبار من يسن القوانين و يضع الدساتير , "متطرفة" بالنظر إلى تأثيرها المدمر على الأفراد و الشعوب ," قاهرة " لاستبدادها بحاضر المحروم – أفراد و شعوب- و تحديدها لآفاق مستقبله . بل إن الانتقال الى مستوى آخر من التحليل يظهر مدى خبث و "شيطانية" تلك الوسائل و الآليات , فالنتيجة المباشرة لها ليست تكريس وضعية القهر و الحرمان فقط , بل حرمان المحروم من كل ما يعينه على المواجهة أو يساعده على المقاومة عبر عمليات " تسطيح " الوعي المُمَنهجة من جهة (بواسطة نظام التربية و التعليم , وسائل الإعلام , منظومة القيم) و عبر تجريد المحروم من كل انتماء مؤسساتي , عقائدي أو مجتمعي ( إفراغ العمل الجمعوي و المدني , النقابي و الحزبي من أي محتوى تغييري أو نضالي) فيتحول الأفراد الى ذرات منفصلة متجاورة في المكان , متشابهة الظروف , مشتت الجهود , لا يعي الفرد وضعية حرمانه و إن وعاها افتقد القدرة و الوسائل الكفيلة بتغييرها حالة أشبه بالمأزق الوجودي و بحكمٍ بالاستعباد الأبدي .
فهل الديمقراطية كفيلة بضمان " الحرية" و"المساواة"؟ سؤال استبد بي منذ بداية المقال وكل ما قمت به هو تبرير الإجابة لا لشيء إلا لأنني أظن أن هذا السؤال يحمل إجابته معه , فقررت تعزيز الجواب "بالدلائل و المستندات" بدل الركون الى ذات الأجوبة السطحية , الحالمة و المثالية , المستندة إلى تأملات فلسفية افتراضية , تصلح للاسترشاد و الاستئناس التأملي لا الفعلي و العملي , لأنها حالة افتراضية لا تاريخية , أي غير واقعية , لم تحدث يوما ولا دليل على حدوثها مستقبلا . هذه خلاصة بالغة الأهمية لنا نحن الشعوب التي لازالت تتلمس طريقها بخطى متثاقلة نحو الديمقراطية الموعودة , إذ يجب أن نعي أن لا فردوس موعود هناك في الأفق بل إن " الحرية" و " المساواة " يقعان خلف الديمقراطية , بجانبها أو فوقها , لكنهما ليسا بالضرورة داخلها , أي يجب إعادة تقييم أولوية الهم السياسي , تلك الأولوية التي كانت على حساب أولوية الهم المجتمعي , الاقتصادي و الثقافي , هل نبرر الطغيان و الاستبداد ؟ كيف ذلك و نحن لم نقنع بحرية و مساواة موعودتين دون عدالة اجتماعية شاملة و حقيقية ؟ فنحن نرفض تزييف الوعي , و الخداع و الدجل باسم الديمقراطية , بل نحن نرى أنه كما كل المعارك العادلة - الشواهد التاريخية تشهد على ذلك - ستكون المواجهة الأولى و الحاسمة على ساحة الوعي و في ميدانه.
منظمات المجتمع المدني و وسائل التواصل الاجتماعي بارقة أمل وسط الظلام:
لعبت و تلعب منظمات المجتمع المدني من نقابات و تنسيقيات و جمعيات أهلية و شعبية دوراً محوريا في تنظيم جهود الفئات المهمَشة و توحيد صفوفها , لاعبة دور القوة المراقِبة , المقترِحة و الضاغطة حيناً , و دور المفاوض ذو القوة و المصداقية أحياناً أخرى , مشكلة قوة توازن مع المؤسسات الحكومية من جهة , و مع الهيئات و المؤسسات الممثلة لمصالح الفئات المهيمنة على السياسة و الاقتصاد من جهة أخرى. حيث أعطتها وسائل التواصل الاجتماعي القدرة على الحشد و التعبئة , و السلاسة في الوصول الى المعلومة و السرعة في نشرها , فأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي صوت من لا صوت له , و متنفس من لا متنفس له , كاسرة حواجز المنع و ممزقة ستائر المنع و الحجب , بل إن لثنائية منظمات المجتمع المدني و وسائل التواصل الاجتماعي عظيم أثر في تعديل العديد من السياسات الحكومية أو التراجع عن بعض القرارات الظالمة و اللاشعبية , و لا ننسى هنا الدور المحوري لهذه الثنائية في الانتفاضات الشعبية و الجماهيرية إبان موجة الربيع العربي سنة 2011 , كيف فجرت شرارتها و كيف حشدت و نظمت لاحتجاجاتها و تظاهراتها , فهي قوة مؤثرة ملأت الفراغ المؤسساتي الذي حول الانسان المسحوق إلى كائن معزول و مجرد من كل إطار تنظيمي أو وعاء وحدوي يوحد جهوده و يؤطرها من أجل الانفلات من وضعية القهر و الحرمان , بل إن أهم دور قامت به هو نشر و تعميق الوعي بوضعية القهر و الحرمان تلك , وعي هو سابق بالضرورة لأية محاولة جدية للتغيير ولكل حركة مجتمعية و تاريخية تتوخى التحرر و الانعتاق من ربقة الظلم و الحرمان.
هذه الوسائل و الآليات الدفاعية التي توسل بها المحرومون و المهمشون للدفاع أنفسهم و للضغط و تأثير على من قهرهم و سلب حقوقهم , هي آليات من صلب العصر عصر ثورة المعلومات و تكنولوجيا الاتصالات , فكان من الطبيعي أن تعاني من سلبياته و تتلون بلون خصائصه و سماته . لهذا نجد أن كل حراك شعبي أو تحرك نضالي توسل هذه الوسائل و انتظم تحت تأثيرها يغلب عليه:
1) الطابع الانفعالي المتمثل في مظاهر الهَيَجان الشعبي و الجماهيري.
2) غياب التخطيط المسبق و التنظيم المحكم ليُعوض بالعفوية و العمل التطوعي , فتترجم أهداف الحراك إلى أهداف مرحلية , محدودة و آنية , تتمحور حول الهم سياسي و إن كانت دوافعها مجتمعية و اقتصادية , أهداف يرتبط تحقيقها بشخص الزعيم إما بغيابه أو تنحيه , وإما بإصداره أوامر و قرارات تحقق الأهداف و تُبلغ الغايات .
3) غياب القيادة الموحدة بجانبيها الرمزي أو التنظيمي فتتحول وحدة البدايات إلى تشتت و تناحر مع مرور الوقت.
4) غياب الوعي التاريخي فتتحول الأزمة الى أزمة حاضر تُحل في الحاضر , الوعي التاريخي لا بمعنى " الماضوي " بل بمعنى أن تُموقع الحركة التغيرية نفسها في الحاضر كامتداد للماضي و اقبال على المستقبل , وهذا ما يفسر غياب منطق التدرج عند تلك الحركات – المطالب تنفذ كلها دفعة واحدة وهنا و الآن – وهو ما يفسر أيضا عجز تلك الحركات عن الإجابة عن سؤال ماذا بعد تحقيق تلك المطالب - نموذج دول الربيع العربي , سقط النظام أو تنحى الرئيس , لكن ماذا بعد ؟ يبقى السؤال معلقاً - عجز يفتح الباب و الأعين على أخطر ما يواجه حركات الرفض و التغيير تلك.
5) إمكانية التوظيف و الاستغلال و التوجيه سمة ملازمة لحركات الرفض الاجتماعي , بل هو نتيجة مباشرة و منطقية للخصائص و المميزات السابقة , فكل حركة شعبية و جماهيرية رافضة و واعية بما ترفضه بمستوى المتأثر و المتضرر المباشر منه , ثم لا تتجاوز هذا الوعي إلى مستويات وعي أخرى استراتيجية و تاريخية هي تفتح الباب على مصراعيه لردات الفعل الانفعالية و العفوية , و بغياب القيادة كرمز ملهِم أو كدفة توجيه و نظام تقنين و تخطيط , تتحول حركات الرفض الاجتماعي تلك مطية سهلة الركوب و ورقة لعب رخيصة – بمعنى التكلفة لا بمعناها القدحي - و مربحة في يد صغار و كبار اللاعبين الداخليين و الخارجيين , هل يحتاج كلامي هذا إلى شواهد تاريخية ؟ لا أظن , فهي ظاهرة للعيان لدرجة أنها قد تفقع عين من لا يراها.
الديمقراطية هي الديمقراطية من يرفضها ؟ بل من يجرؤ على ذلك ؟ لكن تلخيص مشاكلنا و أزماتنا فيها , وربط حلها بها و بها وحدها . هو خطأ فادح و خفة فكرية خطيرة كانت و ستكون لها نتائجها الكارثية على الفعل و الممارسة السياسيين . بل كما يمكن للديمقراطية أن تنقلب إلى ضدها – المساواة النظرية الى تفاوت واقعي – فيمكن أن تتحول الثورة على القهر و الحرمان الى مزيد من القهر و الحرمان , و كأنه قدر محتوم لا يرتفع أو حلقة مفرغة تتلوى حلزونيا نحو الداخل لتضييق الأفق على ضيقه , فتكون نهاية القهر و الحرمان بداية لدورة جديدة منه أشد ظلما و قهراً . ما الحل إذن ؟ يبدأ الحل بالوعي و به فقط . لكن أي وعي ؟ الإجابة على هذا السؤال هي التي ستحدد طريق الخلاص و النجاة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.