يعتبر مبدأ الصوت الواحد للمواطن الواحد أكثر مبادئ النظام الديمقراطي تعبيراً عن المساواة , و أكثرها إثارة للجدل و النقاش , فبموجب هذا المبدأ تتحقق المساواة المطلقة بين عموم المواطنين المنتمين للبلد الواحد و عموم أعضاء المنظمات و الهيئات الديمقراطية الخاضعين للقانون الأساسي المنظم الواحد , و لا يمكن هنا التمييز أو المفاضلة بين المواطنين أو الأعضاء إلا بشكل بعدي و لاحق للعملية الانتخابية الديمقراطية لا قبلها , أي أن صفة المواطنة في الوطن و العضوية في المنظمة أو الهيئة هي التي توحد الجميع و تساوي بين الجميع , فلا فرق , مبدئياً , بين العالم و الجاهل , و بين الرجل و المرأة , و بين الغني و الفقير , و بين المؤمن و الملحد , و بين الأسود و الأبيض... طالما أنهم يشتركون في صفة العضوية و الانتماء , لتأتي عملية الاقتراع و الانتخاب لتحدد بشكل لاحق المواقع والمهام و المسؤوليات انطلاقاً من مبدأ " المساواة " ذاك و بناء عليه . هذا ما أسسته المحاولات الأولى للتأصيل الفلسفي للحرية و المساواة كتجلي مجتمعي لحق فردي طبيعي , من طرف فلاسفة عصر الأنوار أمثال جون جاك روسو , جون لوك , و طوماس هوبز , عبر نحت مفهوم " الحق الطبيعي " و التنظير الافتراضي ل " حالة الطبيعة " التي نتج عنها " العقد الاجتماعي " المنظم لعلاقات الأفراد فيما بينهم و لعلاقاتهم مع من يحكمهم. هذه المساواة المطلقة أُسست على مبدأ الحرية المطلقة , فيما يشبه المقايضة و المساومة بين مجموعة من الأفراد الأحرار و المتساوين الذين اهتدوا بالعقل و المنطق و التجربة الى ضرورة عقد اتفاق جماعي و ملزم , بموجبه يتخلى الجميع عن بعض حقوقه و حرياته لصالح الجماعة , بشرط أن يتخلى الجميع على نفس القدر و يلتزم الجميع بنفس الدرجة من الالتزام . و لو أردنا تلخيص جوهر الديمقراطية - حكم الشعب - في مبادئ عامة لقلنا أن الديمقراطية تنبني على خمس مبادئ كبرى يتولد بعضها عن بعض , فالديمقراطية هي " حرية " و " مساواة " قبليِّين تولد عنهما اتفاق بمثابة " عقد اجتماعي " يضمن اعتراف الكل بالحرية و المساواة للكل على أُسس " عقلانية " لتحقيق " المصلحة " الجماعية . هذه المبادئ الخمس - الحرية , و المساواة ,و العقد الاجتماعي ,و العقلانية ,والنفعية - بالإضافة الى آليات الحكم الديمقراطي كحكم الدستور و القانون , و الفصل بين السُّلط , و العملية الانتخابية الشفافة و النزيهة المعبرة عن السيادة الشعبية و المانحة للشرعية ..., و إن كانت تضمن استمرار و استقرار النظام الديمقراطي وتؤسس لاستدامته على المستوى النظري , إلا أنها تخلق عددا لا حصر له من الإشكالات و الالتباسات عند النظر إليها مطبقة و ممارسة على المستوى العملي , و لعل أكثر ما يعبر عن هذه الالتباسات و الإشكالات هي إشكالية العلاقة بين المساواة المبدئية و العدالة الاجتماعية , فالنظام الديمقراطي يضمن المساواة بين أفراده أمام الدولة و القانون و المؤسسات , كما يضمن المساواة في الولوج الى الخدمات و الانتفاع من الفرص الاقتصادية و المالية الممكنة و المتاحة , إلا أن بريق و لمعان هذا النموذج الديمقراطي و مثاليته تلك السالبة للعقول و الألباب , سرعان ما تخبو و تنطفئ بين مطرقة الاخلال بالعدالة الاجتماعية و سندان تكريس التفاوت و اللامساواة الطبقية و الفئوية , إذ تعمل الفئات المهيمنة و المسيطرة على الدولة و المجتمع على إعادة إنتاج ذاتها و تكريس سلطتها و هيمنتها معتمدة على الثروة الاقتصادية , و النفوذ السياسي , و قوة السلطة , و آليات الحكم و السيطرة المتمركزة في يدها , و التي لا تخالف بالضرورة نص القانون أو مبادئ الديمقراطية المتضمنة في الدستور . تعتمد الفئات المهيمنة على أساليب و آليات قانونية و شرعية تماماً , لتكريس سلطتها و هيمنتها , و إعادة إنتاج ذاتها و الحفاظ على مواقعها , حيث تتعدد هذه الأساليب و الآليات و تتداخل فيما بينها لتعطي ذات النتيجة و لتحقق ذات الأهداف , و إن كان يمكن إجمال تلك الآليات و الأدوات في ستة محاور أساسية فرضتها ضرورة الفصل من أجل التفصيل و الفهم , لا كانعكاس لانفصال واقعي لمؤسسات مجتمعية , أطر تنظيمية , بنى ثقافية - أخلاقية و سلوكية – لا رابط بينها ولا تبادل للتأثر و التأثر فيما بينها , فإن تلك الوسائل و الأدوات هي بمثابة بنية مجتمعية , سياسية و اقتصادية , اعلامية و ثقافية , تاريخية و لغوية ... تشكل كُلاً مجتمعياً يحدد شروط الفاعلية الانسانية و يرسم أدوار و مهام الأفراد و الجماعات الخاضعين لها و الرازحين تحت سطوة قهرها وهيمنتها , فتحدد بذلك واقعهم الحالي وترسم أفقهم المستقبلي. أولا , التحكم في المؤسسات السيادية و السيطرة على قنوات التشريع القانوني و الدستوري: تتحكم الفئات المحتكرة للاستفادة من خيرات البلاد و الوطن بالمؤسسات السيادية عبر نسج شبكة معقدة من تبادل المصالح و المنافع بين رجال السياسة و رجال المال و الأعمال , و إن كانت شبكة المصالح تلك تُنسج على أساس نهب وسلب المال العام و ضمان استقرار و استمرار نظام الحكم في البلدان اللاديمقراطية , فإنها تُنسج و تتشكل على أسس شرعية و قانونية في البلدان الأكثر حداثة و ديمقراطية , حيث تلعب وسائل الإعلام و مجموعات الضغط ( اللوبيات ) و تبرعات الحملات الانتخابية الدور الأساس في تحكم رجال المال و الأعمال برجال السلطة و السياسة , وفي نفاذ هؤلاء الى صلب المؤسسات السيادية , وفي تحكمهم في مسارات التشريع القانوني و الدستوري لتصبح مصالحهم محمية بقوة القانون و امتيازاتهم شرعية بحكم الدستور . وللمفارقة تتحول العملية الانتخابية الى نقيضها فبدل أن تكون أداة فعالة لضمان حقوق الناخبين عبر انتخابهم لممثليهم المعبرين عن همومهم وانشغالاتهم و المدافعين عن قضاياهم و مصالحهم - مع ما يواكب ذلك من افراز سلطة تتمتع بالشرعية الديمقراطية و ممثلة للسيادة الشعبية – تتحول الانتخابات الى عملية إحصائية ذات طابع إعلامي واحتفالي , خالية من كل مضمون مفرغة من أي قدرة إصلاحية أو تغيرية . فجوهر الانتخابات هو الاختيار الحر للناخب بين أحزاب و برامج انتخابية تتمتع بالمصداقية متساوية في الحظوظ و الامكانات الدعائية و الترويجية بما يضمن تكافئ الفرص بين الأحزاب و حرية الاختيار للناخب . لكن ما يحصل هو أن اختيار حكام الشعب و ممثليه يقع خارج اللعبة الانتخابية لا من خلالها أو أثناءها عبر عملية الحصر المسبق لقائمة الاختيارات – كل المتنافسين ينتمون للفئة المهيمنة و المسيطرة على الدولة و المجتمع أو يدينون لها بالولاء – حيث يتم إقصاء كل متنافس لا يضع نفسه في خدمة النظام القائم إما بشكل مباشر عبر قرار تعسفي و إن تلون بلون المساطر الاجرائية و المقتضيات القانونية , أو بشكل غير مباشر عبر الحملات الاعلامية الموجهة الهادفة الى تشويه الصورة بالنبش في الملفات القديمة أو تضخيم الزلات و الأخطاء , بل اختلاقها أحياناً. ثانيا , صناعة الرأي العام عبر و سائل الإعلام: تلعب وسائل الإعلام دوراً مهما جداً في عالمنا اليوم فهي أداة وعي و ثقافة و مصدر موثوق للمعلومة إن حضرت المهنية و الموضوعية , وهي أداة كذب و تضليل و تزييف للوقائع و الحقائق إن حضرت الفئوية و الانتهازية و النوايا المبيتة , بل إن أخطر أنواع الكذب هو كذب " الإظهار و الإخفاء " الذي يجتزئ جزءاً من المشهد و يضخمه و يتجاهل بقية المشهد أو يقلل من أهميته , فيبني بذلك مصداقية من اللاكذب الصريح و من اللاحقيقة الكاملة . تمتلك الفئات المتحكمة و المحتكرة للسلطة و الثروة وسائل الإعلام المختلفة و تعمل على توجيه الرأي العام من خلالها عبر ضبط المحتوى الإعلامي المقدم , و عبر ترويج خطابها الخاص بالحقيقة و رؤيتها الذاتية لمجريات الأحداث و الأمور , و هذا عمل من شقين , فمن جهة يتم الإسراف في تقديم برامج التسلية و الترفيه الجيدة الإعداد و التقديم , و المنوعة من حيث الموضوعات و المحتويات ( رياضة , أفلام , مسلسلات , برامج الواقع و المسابقات ...) حيث تعمل هذه البرامج على تمرير خطاب , و ترسيخ منظومة قيم أساسهما الهروب من الواقع و الاندماج في عالم من الأوهام و الأحلام يُصنع نجومه كما تصنع أية بضاعة و يروج لهم كما يروج لها . أما الشق الثاني , وهو الأكثر وضوحا و مباشرة , فيتعلق بالبرامج السياسية و الحوارية , و التغطيات الإخبارية حيث يتم من خلالها صناعة رأي المتلقي عبر التأثير في وجدانه و عاطفته قبل عقله باستخدام سلاح الصورة وقوة المشهد المصحوب أحيانا بالموسيقى التصويرية المؤثرة مع اعتماد آلية التكرار في سرد الروايات الناقصة و التحليلات الموجهة حتى ترسخ المعلومة في لاوعي المتلقي بعد أن رسخت في وعيه , لتتحول عنده الى الحقيقة المؤكدة و القناعة الراسخة الثابتة. ثالثا , منظومة القيم : إن أي عملية تدجين أو ترويض لأي مجتمع , تمر بالضرورة عبر تغيير قناعاته و معتقداته , و إعادة تشكيل أولوياته و توجهاته , فلكل مجتمع منظومته الخاصة بالقيم كما له بنيته الابستمولوجية الخاصة بالفكر والمعرفة , فمنظومة القيم هي الميزان الذي يقيس به كل مجتمع الصواب و الخطأ و هي المعيار الذي يحدد قيمة كل فعل و مكانة كل فرد في المجتمع , بل هي التي تضبط سلوك الأفراد و تحدد توجهاتهم و اختياراتهم و تُرتب أولوياتهم . لذلك تعمد الفئات المهيمنة على بث منظومتها الخاصة بالقيم عبر وكالات التنشئة الاجتماعية و وسائل الدعاية و التثقيف الجماعية , فتتم إشاعة ثقافة الفردانية و المصلحة الشخصية و تغيب قيم الانتماء و التضحية , فيتحول الانسان الى كائن مَصلحي – بمعناها الأناني لا الجماعي – هذا النكوص من مستوى الإيمان بالقضايا الإنسانية , القومية والوطنية , إلى مستوى البحث عن المنفعة الشخصية و الانشغال بالهموم و الإكراهات الذاتية , يواكبه تفشي ثقافة التعاطف المزيف و التضامن الدعائي الإعلامي حيث يعمل المُهيمن على تجميل بشاعة هيمنته والمُسيطر على إظهار مدى إنسانية سلطته و سيطرته , فيحول الأزمة من أزمة فئة سلبت الشعب حقوقه و وقفت حجر عثرة بينه و استردادها إلى أزمات اجتماعية – أيتام , مناطق فقيرة و مهمشة , بطالة , مخدرات , ضحايا العنف و الاجرام ... – تتطلب التضامن و التكافل , في حين أن بنية القهر و الاستغلال هي التي غذت تلك الأزمات و هي من ساهم في تفشيها و تفاقمها , أزمات تقع مسؤولية حلها في المقام الأول على المستفيدين من بنية القهر و الاستغلال التي أوجدتها , بل إن من عجيب المفارقات أن تلك الأزمات تشكل معاناة حقيقة للرازحين تحت سطوتها و مناسبة لحملات الإحسان الاعلامي و الدعائي للمتسببين بها . إذا أضفنا للقيم السابقة قيم الانتهازية و اللصوصية , وقيم التملق و الاستزلام - الخاصة بالمجتمعات اللاديمقراطية – الناتجة عن ربط المناصب و المكاسب بالولاء لشخص الزعيم , وعائلته وحاشيته , بدل ربطها بمعايير الاستحقاق و الكفاءة , تصبح بنية القهر و الحرمان لا تكرس وضعية التفاوت و اللامساواة فقط بل تكرس وضعية التخلف و الانحطاط ذاتها , فيتحول المُستبد و المستبد به الى خاضعين الى المستبد الخارجي و بنية القهر و الاستغلال الخاصة به , فلا يختلف الحاكم عن المحكوم إلا في درجة القهر و الخضوع لا في نوعه , أي أن الحاكم قاهر و مقهور بينما المحكوم يُقهر مرتين. رابعا , نظام التربية و التعليم : تعمل الفئات المهيمنة على تسخير نظام التربية و التعليم ليكون أداة لإعادة إنتاج ذاتها و تكريس و تثبيت سلطتها و مكانتها , من خلال الازدواجية التربوية أولا , ثم من خلال التحكم في البرامج و المناهج ومختلف جوانب العملية التربوية ثانياً , يعمل نظام الهيمنة و السيطرة للفئات المتحكمة على خلق توجهين و نظامين للتربية و التعليم , أحدهما مجاني و سيء موجه لعموم المواطنين من الفئات الأقل حظوة , لغته الرئيسية هي اللغة الوطنية ( تتحول مسألة اللغة من فوارق لغوية بين لغة وطنية ولغة أجنبية في الدول النامية إلى فوارق بيداغوجية في تدريس اللغة الوطنية الواحدة في الدول المتقدمة) و يغلب عليه التجريد و الاجترار و التلقين , لا يكسب متلقيه المهارات و المعارف و الخبرات الضرورية و اللازمة للاندماج السلس في سوق الشغل أو لتبَوُء المراكز القيادية و الريادية في الدولة و المجتمع , أما النظام التعليمي الثاني فهو مكلِف و جيد , لغاته الرئيسية هي اللغات الأجنبية يغلب عليه الطابع المهاري والتقني , يراعي حاجيات و ميولات المتعلمين و يؤهلهم للمواقع القيادية و المناصب الريادية عبر إكسابهم القدرات و المعارف و المهارات اللازمة لذلك . إلا أن هذه الازدواجية التربوية لا تؤتي أكلها ما لم تواكب بعملية مراقبة و تنقيح دائمين للبرامج و المناهج التربوية و ما تزرعه من أفكار و ما ترسخه من قيم مخافة بث روح الثورة و التمرد , أو نشر الوعي بوضعية القهر و الحرمان , وهي عملية تجري تحت مسميات و ذرائع كثيرة كمحاربة أفكار التعصب و التطرف , أو إشاعة ثقافة الانفتاح و التسامح . خامسا , شبكة العلاقات العامة: تعمل القوى المهيمنة و المسيطرة على الدولة و المجتمع على نسج شبكة واسعة و معقدة من العلاقات العامة و الشخصية فيما بينها تشمل مجالات و تخصصات متعددة و متداخلة , إذ تلعب شبكة العلاقات العامة تلك دوراً محوريا في تكريس و إعادة إنتاج السلطة و الهيمنة فهي شبكة من تبادل المصالح والمنافع المشتركة و التسهيلات و الامتيازات المتبادلة , تساعد الشبكة تلك على تقنيين التنافس بين ذوي النفوذ , و تجاوز الصراع و النزاع الى تقاسم المكاسب و الأرباح , في ما يشبه العرف او القانون المضمر المنظم للروابط و العلاقات بين المنتمين للفئة الواحدة و المجتمع المصغر الواحد . بل إن علاقات المصاهرة و الزواج تلعب دور اللحمة و أداة الربط و الاستدامة لشبكة العلاقات تلك بتجاوز روابط تقاسم المصلحة و المنفعة الى روابط الدم و القرابة . توظف الطقوس الاحتفالية و المناسبات الاجتماعية و الأسرية كآلية لتعزيز شبكات العلاقات العامة تلك و تجديد دماءها , إذ وراء مظاهر التباهي و البذخ المبالغ فيه أثناء تلك المناسبات تتستر عملية نقل تبادل الامتيازات و المصالح من مستوى علاقات الانتفاع الاقتصادي و السياسي الى المستوى الثقافي و الاجتماعي , أي تتحول من مستوى العلاقات البراغماتية و المصلحية الى مستوى علاقات التفاعل الثقافي , الوجداني و السلوكي . وهنا يظهر دور جمعيات العمل الخيري و الحقوقي - التي تعد غالباً من الاختصاص النسائي – إذ وراء قناع الاحسان و تقديم يد العون و المساعدة للفئات المقهورة والمهمشة توجد حملة علاقات عامة لتحسين صورة تلك الفئات المهمينة و المسيطرة , اعلاميا و اجتماعيا , بل الأهم هو محاولات الاستشراف و الاستكشاف لفرص الاستغلال الجديدة بالاختلاط مع تلك الفئات المحرومة للتعرف عليها عن قرب من جهة ,و للتعرف على أعضاء جدد من المجتمع المخملي من جهة أخرى , لينتقل ذاك التعارف , بالاستتباع , من فضاء التعاون الخيري و الاجتماعي الى عالم الاستغلال الاقتصادي و القهر السياسي. سادسا , أسلوب الحياة : يؤدي الثراء الفاحش و النفوذ القوي لدى الفئات المترفة و المنعمة الى خلق أسلوبها و نمطها خاص بالحياة , أساسه ثقافة الاستهلاك و الانفصال الشبه التام عن بقية أبناء الوطن الأقل حظا و نصيباً في خيرات و مقدرات وطنهم , فهي تخلق لنفسها عالمها الخاص , المتكامل و المستقل , فمن المناطق السكنية الراقية بضواحي المدن , الى مراكز التسوق الخاصة بالماركات العالمية , عبوراً بخدمات التسلية و الترفيه باهظة التكلفة و الثمن , و انتهاء بعادات التصرف و السلوك الاجتماعي و الثقافي كعادات الأكل , و اللباس , و الاحتفال , و المشي , و الكلام ... , يساعد أسلوب الحياة المخملي هذا على جعل حياة الفئات المهيمنة على السلطة و السياسة و الاقتصاد , حياة نموذجية و مثالية , ملهِمة لباقي الفئات المجتمعية و مغرية لها , فيسعى الكل الى تقليدها و التشبه بها و الوصول إليها , مما يؤدي كتحصيل حاصل الى ترسيخ تلك الفئات لمكانتها الريادية و القيادية بتقديمها القدوة و النموذج لباقي الفئات , فتعيد إنتاج نفسها بإرغام كل من نجح في تسلق سلم الترقي الاجتماعي , من القاعدة نحو القمة , على إتباع نفس أسلوب الحياة و انتهاج نفس النهج في العادات و السلوكيات إن هو أراد الاعتراف به كوافد و عضو جديد في نادي الأثرياء و النافذين , أي بدل تحول الوافد الجديد الى خطر و تهديد يتحول الى دماء جديدة تُضخ في شرايين بنية القهر و الحرمان. خاتمة و استدراك: تسعى الفئة المهيمنة و المسيطرة على الدولة و المجتمع إلى إدامة سيطرتها و إعادة انتاج هيمنتها , بما يضمن لها الحفاظ على مكانتها و مصالحها , موظفة آليات و وسائل متعددة و متكاملة فيما بينها , منسجمة الفاعلية عميقة التأثير ," شرعية" إذا قُيِّمت من الجانب القانوني و الدستوري ," ظالمة" إذا أخذ بالاعتبار من يسن القوانين و يضع الدساتير , "متطرفة" بالنظر إلى تأثيرها المدمر على الأفراد و الشعوب ," قاهرة " لاستبدادها بحاضر المحروم – أفراد و شعوب- و تحديدها لآفاق مستقبله . بل إن الانتقال الى مستوى آخر من التحليل يظهر مدى خبث و "شيطانية" تلك الوسائل و الآليات , فالنتيجة المباشرة لها ليست تكريس وضعية القهر و الحرمان فقط , بل حرمان المحروم من كل ما يعينه على المواجهة أو يساعده على المقاومة عبر عمليات " تسطيح " الوعي المُمَنهجة من جهة (بواسطة نظام التربية و التعليم , وسائل الإعلام , منظومة القيم) و عبر تجريد المحروم من كل انتماء مؤسساتي , عقائدي أو مجتمعي ( إفراغ العمل الجمعوي و المدني , النقابي و الحزبي من أي محتوى تغييري أو نضالي) فيتحول الأفراد الى ذرات منفصلة متجاورة في المكان , متشابهة الظروف , مشتت الجهود , لا يعي الفرد وضعية حرمانه و إن وعاها افتقد القدرة و الوسائل الكفيلة بتغييرها حالة أشبه بالمأزق الوجودي و بحكمٍ بالاستعباد الأبدي . فهل الديمقراطية كفيلة بضمان " الحرية" و"المساواة"؟ سؤال استبد بي منذ بداية المقال وكل ما قمت به هو تبرير الإجابة لا لشيء إلا لأنني أظن أن هذا السؤال يحمل إجابته معه , فقررت تعزيز الجواب "بالدلائل و المستندات" بدل الركون الى ذات الأجوبة السطحية , الحالمة و المثالية , المستندة إلى تأملات فلسفية افتراضية , تصلح للاسترشاد و الاستئناس التأملي لا الفعلي و العملي , لأنها حالة افتراضية لا تاريخية , أي غير واقعية , لم تحدث يوما ولا دليل على حدوثها مستقبلا . هذه خلاصة بالغة الأهمية لنا نحن الشعوب التي لازالت تتلمس طريقها بخطى متثاقلة نحو الديمقراطية الموعودة , إذ يجب أن نعي أن لا فردوس موعود هناك في الأفق بل إن " الحرية" و " المساواة " يقعان خلف الديمقراطية , بجانبها أو فوقها , لكنهما ليسا بالضرورة داخلها , أي يجب إعادة تقييم أولوية الهم السياسي , تلك الأولوية التي كانت على حساب أولوية الهم المجتمعي , الاقتصادي و الثقافي , هل نبرر الطغيان و الاستبداد ؟ كيف ذلك و نحن لم نقنع بحرية و مساواة موعودتين دون عدالة اجتماعية شاملة و حقيقية ؟ فنحن نرفض تزييف الوعي , و الخداع و الدجل باسم الديمقراطية , بل نحن نرى أنه كما كل المعارك العادلة - الشواهد التاريخية تشهد على ذلك - ستكون المواجهة الأولى و الحاسمة على ساحة الوعي و في ميدانه. منظمات المجتمع المدني و وسائل التواصل الاجتماعي بارقة أمل وسط الظلام: لعبت و تلعب منظمات المجتمع المدني من نقابات و تنسيقيات و جمعيات أهلية و شعبية دوراً محوريا في تنظيم جهود الفئات المهمَشة و توحيد صفوفها , لاعبة دور القوة المراقِبة , المقترِحة و الضاغطة حيناً , و دور المفاوض ذو القوة و المصداقية أحياناً أخرى , مشكلة قوة توازن مع المؤسسات الحكومية من جهة , و مع الهيئات و المؤسسات الممثلة لمصالح الفئات المهيمنة على السياسة و الاقتصاد من جهة أخرى. حيث أعطتها وسائل التواصل الاجتماعي القدرة على الحشد و التعبئة , و السلاسة في الوصول الى المعلومة و السرعة في نشرها , فأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي صوت من لا صوت له , و متنفس من لا متنفس له , كاسرة حواجز المنع و ممزقة ستائر المنع و الحجب , بل إن لثنائية منظمات المجتمع المدني و وسائل التواصل الاجتماعي عظيم أثر في تعديل العديد من السياسات الحكومية أو التراجع عن بعض القرارات الظالمة و اللاشعبية , و لا ننسى هنا الدور المحوري لهذه الثنائية في الانتفاضات الشعبية و الجماهيرية إبان موجة الربيع العربي سنة 2011 , كيف فجرت شرارتها و كيف حشدت و نظمت لاحتجاجاتها و تظاهراتها , فهي قوة مؤثرة ملأت الفراغ المؤسساتي الذي حول الانسان المسحوق إلى كائن معزول و مجرد من كل إطار تنظيمي أو وعاء وحدوي يوحد جهوده و يؤطرها من أجل الانفلات من وضعية القهر و الحرمان , بل إن أهم دور قامت به هو نشر و تعميق الوعي بوضعية القهر و الحرمان تلك , وعي هو سابق بالضرورة لأية محاولة جدية للتغيير ولكل حركة مجتمعية و تاريخية تتوخى التحرر و الانعتاق من ربقة الظلم و الحرمان. هذه الوسائل و الآليات الدفاعية التي توسل بها المحرومون و المهمشون للدفاع أنفسهم و للضغط و تأثير على من قهرهم و سلب حقوقهم , هي آليات من صلب العصر عصر ثورة المعلومات و تكنولوجيا الاتصالات , فكان من الطبيعي أن تعاني من سلبياته و تتلون بلون خصائصه و سماته . لهذا نجد أن كل حراك شعبي أو تحرك نضالي توسل هذه الوسائل و انتظم تحت تأثيرها يغلب عليه: 1) الطابع الانفعالي المتمثل في مظاهر الهَيَجان الشعبي و الجماهيري. 2) غياب التخطيط المسبق و التنظيم المحكم ليُعوض بالعفوية و العمل التطوعي , فتترجم أهداف الحراك إلى أهداف مرحلية , محدودة و آنية , تتمحور حول الهم سياسي و إن كانت دوافعها مجتمعية و اقتصادية , أهداف يرتبط تحقيقها بشخص الزعيم إما بغيابه أو تنحيه , وإما بإصداره أوامر و قرارات تحقق الأهداف و تُبلغ الغايات . 3) غياب القيادة الموحدة بجانبيها الرمزي أو التنظيمي فتتحول وحدة البدايات إلى تشتت و تناحر مع مرور الوقت. 4) غياب الوعي التاريخي فتتحول الأزمة الى أزمة حاضر تُحل في الحاضر , الوعي التاريخي لا بمعنى " الماضوي " بل بمعنى أن تُموقع الحركة التغيرية نفسها في الحاضر كامتداد للماضي و اقبال على المستقبل , وهذا ما يفسر غياب منطق التدرج عند تلك الحركات – المطالب تنفذ كلها دفعة واحدة وهنا و الآن – وهو ما يفسر أيضا عجز تلك الحركات عن الإجابة عن سؤال ماذا بعد تحقيق تلك المطالب - نموذج دول الربيع العربي , سقط النظام أو تنحى الرئيس , لكن ماذا بعد ؟ يبقى السؤال معلقاً - عجز يفتح الباب و الأعين على أخطر ما يواجه حركات الرفض و التغيير تلك. 5) إمكانية التوظيف و الاستغلال و التوجيه سمة ملازمة لحركات الرفض الاجتماعي , بل هو نتيجة مباشرة و منطقية للخصائص و المميزات السابقة , فكل حركة شعبية و جماهيرية رافضة و واعية بما ترفضه بمستوى المتأثر و المتضرر المباشر منه , ثم لا تتجاوز هذا الوعي إلى مستويات وعي أخرى استراتيجية و تاريخية هي تفتح الباب على مصراعيه لردات الفعل الانفعالية و العفوية , و بغياب القيادة كرمز ملهِم أو كدفة توجيه و نظام تقنين و تخطيط , تتحول حركات الرفض الاجتماعي تلك مطية سهلة الركوب و ورقة لعب رخيصة – بمعنى التكلفة لا بمعناها القدحي - و مربحة في يد صغار و كبار اللاعبين الداخليين و الخارجيين , هل يحتاج كلامي هذا إلى شواهد تاريخية ؟ لا أظن , فهي ظاهرة للعيان لدرجة أنها قد تفقع عين من لا يراها. الديمقراطية هي الديمقراطية من يرفضها ؟ بل من يجرؤ على ذلك ؟ لكن تلخيص مشاكلنا و أزماتنا فيها , وربط حلها بها و بها وحدها . هو خطأ فادح و خفة فكرية خطيرة كانت و ستكون لها نتائجها الكارثية على الفعل و الممارسة السياسيين . بل كما يمكن للديمقراطية أن تنقلب إلى ضدها – المساواة النظرية الى تفاوت واقعي – فيمكن أن تتحول الثورة على القهر و الحرمان الى مزيد من القهر و الحرمان , و كأنه قدر محتوم لا يرتفع أو حلقة مفرغة تتلوى حلزونيا نحو الداخل لتضييق الأفق على ضيقه , فتكون نهاية القهر و الحرمان بداية لدورة جديدة منه أشد ظلما و قهراً . ما الحل إذن ؟ يبدأ الحل بالوعي و به فقط . لكن أي وعي ؟ الإجابة على هذا السؤال هي التي ستحدد طريق الخلاص و النجاة.