الحديث عن الحق في الإعلام ليس بالضرورة من الحديث في قانون الإعلام، ولا في الأبعاد القانونية للحق في الإعلام. الفارق بين المستويين هو من الفارق بين الحديث في الحق في الإعلام كحقوق وضمانات، وبين الحديث في قانون الإعلام كواجبات والتزامات. هذا التمييز (بين الحق في الإعلام وقانون الإعلام) ليس تمييزا إجرائيا، أو ذو حمولة إجرائية صرفة. إنه بالأساس ذو طبيعة إذا لم تكن أخلاقية خالصة، فهي على الأقل ذات خلفية فلسفية بجهة التساؤل في من يحدد الآخر، قانون الإعلام أم الحق في الإعلام، ومن الذي يجب أن يجر الآخر ويثوي خلفه؟ هي مسألة جوهرية بالغة الأهمية: هل واقع الحال هو الذي من المفروض تقنينه وتنظيمه، أم الواجب هو تحديد الإطار العام القانوني، الذي من شأنه أن يؤطر الحق في الإعلام، كما ما سواه من حقوق؟ ثم ما هي التحديات التكنولوجية التي ترفع وسترفع لا محالة في وجه الحق في الإعلام؟ ثمة مجموعة معطيات كبرى من الضروري سياقها هنا لتلمس بعض عناصر الجواب: - المعطى الأول ومفاده أن الحق في الإعلام هو معطى شاملا، إما أن يتكرس في شموليته أو لا يتكرس بالمرة. بالتالي فلا معنى لتجزيئه، حتى وإن كانت الأجرأة القانونية تفرض ذلك. معنى هذا أن حق المواطن في إعلام صادق وحقيقي وغير متحيز، هو كل لا يتجزأ. إنه حق موحد وشامل، ويجب أن يكون موحدا وشاملا، بصرف النظر عن الأجرأة القانونية والتحولات التكنولوجية التي تطاله. - المعطى الثاني وينطلق من التساؤل: هل من المفروض تكريس الحق في الإعلام في تعذر تكريس الحقوق الأساسية الأخرى... أقصد الحق في الشغل والحق في التطبيب والحق في التمدرس وما سواها؟ نعتقد، بصرف النظر عن الأولويات، أن الحق في الإعلام هو حق من حقوق الإنسان تماما كباقي الحقوق... بالتالي فهو ليس ترفا أو حقا ثانويا، بقدر ما هو حق مركزي، لأن الإعلام هو عنصر تنمية اقتصادية واجتماعية بامتياز... هو عنصر تحول حقيقي، ليس فقط لأنه مؤشر مركزي لقياس مستوى التنمية، ولكن أيضا لأنه عنصر من عناصر البناء الديموقراطي والتحول السياسي. بالتالي، فبقدر ما للمواطن الحق في الشغل والتطبيب والتمدرس وغيرها، بقدر ما له الحق في إعلام حر، يضمن له بلوغ المعلومات دونما رقابة أو تعتيم أو منع. - المعطى الثالث ومضمونه أن كل مستجد تكنولوجي في ميدان الإعلام والاتصال لا بد وأن يصاحبه تأطير قانوني، إما بغرض العمل على تملكه، أو بجهة الحيلولة دون بروز تجاوزات بداخله. هذا صحيح مع انفجار القنوات الفضائية، وصحيح أيضا مع تزايد استعمالات شبكة الإنترنت بأجيالها المختلفة. معنى هذا أن الحق في الإعلام ليس مبدأ مشاعا، بل هو محكوم بالمستجد التكنولوجي الذي غالبا ما يحمل حقوقا إضافية، أو يتطاول على حقوق مكتسبة: حق الخصوصية، حق الحياة الخاصة، حماية الأطفال ضد العنف أو الأفلام والمواقع الإباحية...الخ. - المعطى الرابع: ليس كافيا (وإن كان ضروريا) التأكيد على الحق في الإعلام، يجب أيضا تمكين المواطن من الاستفادة منه وممارسته. إذ ليس كافيا الاعتراف بالحق في بلوغ الشبكات الإعلامية والاتصالاتية، ولكن يجب أيضا توفير الإمكانات وتحديد السبل لهذا البلوغ: هذا الأمر مطروح مع الشبكات التلفزية الرقمية، ومطروح أيضا مع شبكة الإنترنت. بالتالي فإذا لم تتوفر سبل البلوغ للشرائح الواسعة، فسيبقى الحق في الإعلام حبرا على ورق، وحكرا على الذين لهم إمكانات... وسنسقط بالمحصلة في من له الحق في الإعلام حقيقة، ومن له الحق في ذلك لكن بالتجاوز. بالتالي، فإن ممارسة الحق في الإعلام تتطلب توفير بنية تكنولوجية، وسياسة أسعار سليمة، ودمقرطة الوصول إلى المعلومات المقتنية لهذه الشبكات. - المعطى الخامس: نلاحظ أن العولمة وثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال كرستا "حقا في الإعلام"، في تجاوز وتحد للدولة/الوطنية وللقوانين الوطنية وللسياسات الوطنية. معنى هذا أن الاستعمال انتصر على القانون. ومعناه أيضا أن حصول المواطن على المعلومة وعلى الخبر، لم يعد حكرا على جهة (الدولة إلى حين عهد قريب)، بل أصبح شبه مضمون مع التحولات التي جاءت بها القنوات الفضائية والشبكات الإلكترونية وغيرها. هذا الأمر يطرح تساؤلين: ما السبيل إلى تضمين هذه التحولات في الترسانة القانونية، أي هل يجب تقنين ذلك أم تركه لنظام السوق؟ ثم كيف للدولة الوطنية ذات الحدود الجغرافية المعترف بها، أن تقنن تيارات إعلامية عابرة للقارات ولا وسيلة تقنية لضبطها أو التحكم فيها؟ - المعطى السادس: كيف لدولة لا تتحكم في إنتاج التكنولوجيا (لا سيما في ميدان الإعلام والاتصال) أن تقنن استعمالاتها، وفق منظومة من الحقوق مكتسبة أو مطالب بتكريسها؟ أليس من الوارد أن تداس حياة الأفراد وخصوصية الجماعات بجريرة ذلك؟ ثم أين يبدأ الحق في الإعلام وأين ينتهي؟ نعتقد أنه يبدأ بالاعتراف بهذا الحق، وتمكين الأفراد والجماعات من ممارسته، ونزعم أنه ينتهي عندما يطال حرية هؤلاء وذواتهم.