شخصيات أَشعلت الثورات، فخُلدت في التاريخ كأيقونات، ورُفعت لها الشارات والشعارات، وهَتفت بحياتها ألوف المئات، ورُسمت صورها على اللوحات، وقُدمت لها التحيات والشعارات، وأُقيمت لها النصب في الساحات، ودَون لها التاريخ الكلمات والتضحيات. تروي ابنة المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي السيدة عائشة الخطابي كلمة عظيمة قالها والدها - رحمه الله- قبل تحقيق النصر في معركة أنوال الخالدة: "أنا لا أريد أن أكون أميرًا ولا حاكمًا، وإنما أريد أن أكون حرًّا في بلد حر، ولا أطيق من سلب حريتي أو كرامتي". هي الحرية والعزة والكرامة من حملت أمير الريف على النضال والتضحية رغم قلة العدد والعدة وتكالب الأمم والدول، وتعاضد الداخل والخارج عليه، قاوم وناضل كما هو حال كل أحرار العالم من كل الأطياف والأديان والحضارات. استقبلت بلدة أجدير عام 1882 بطلها المجاهد الأمير محمد عبد الكريم الخطابي، زعيم قبيلة وريغايل أكبر قبائل البربر. حرص أبوه على تنشئته وتعليمه وتربيته؛ فبدأ بتعليمه كتاب الله حتى أتم حفظه ودرس قواعد الإسلام وتلقى دروسه الابتدائية والثانوية في مليلة، ثم التحق بجامعة القرويين -أقدم جامعة في العالم أسستها فاطمة الفهرية- بفاس، ثم تخرج مدرسًا بمليلة، وعمل محررًا في بعض الصحف اليومية ثم عيِّن قاضيًا بعد ذلك، ثم قاد شعبه ضد الاحتلال في ريف المغرب. ظنت فرنسا كما ظنت إسبانيا أن المغرب لقمة سائغة، لكن ما انغرس في قلوب المغاربة من معنى الحرية والإباء والكرامة، حركت همهم لمقاومة المحتل الغاصب، وتزعم جزء من هذه المقاومة الأمير محمد عبد الكريم الخطابي، واستطاع أن ينزل بالدولتين الهزائم مما كبدهم بذلك خسائر فادحة. أمير الريف أو مؤسس جمهورية الريف كما يحلو للبعض أن يلقبه، لم يرق له وهو الذي نشأ على العزة والكرامة أن يري بلاده ترزح تحت الاحتلال بدون مقاومة، فقاد شعبه من أجل تحرير بلاده وقامت معارك كتب له فيها النصر، وكان شعلة من النشاط في سبيل إخراج المحتل من بلاده. بعد خُروجه من السجن عدة مرات، بدأ الخطابي بمحاربة الأسبان، وخاض بجيشه معارك كثيرة منها معركة أنوال، وقد ألحق بالجيش الفرنسي والأسبان خسائر كثيرة. الجيش الإسباني البالغ عدده 25 ألف جندي المتقدم بقيادة الجنرال سلفستري، احتل بلدة أنوال، ثم تقدمت فصيلة منه واحتلت المركز الحصين أبسران، وظن الجنرال أنه استولى على كل مناطق الريف المغربي ولم يكن يدري أن الأمير الثائر يستدرجه ليقضي عليه لقد قام المجاهدون بهجوم معاكس شديد استردوا فيه المركز وأفنوا الحامية، وغنموا كل ما فيه، فأقسم الجنرال العلج ليبيدن جيش الحفاة، صيادي الأسماك! لقد اعترف الأسبان أنهم خسروا في تلك المعركة 15 ألف قتيل و570 أسيرًا، واستولى أمير الريف على 130 موقعًا من المواقع التي احتلها الأسبان، وحوالي 30 ألف بندقية، و129 مدفعَ ميدان، و392 مدفعًا رشاشًا. لم يكن جيش الأمير يتجاوز ألف مجاهد في مقابل خمسة وعشرين ألف جندي محتل في معركة استمرت خمسة أيام كاملة من عام 1921م، فأسفرت عن إبادة الجيش الكبير على أيدي الفئة قليلة. فأخذت إسبانيا على عاتقها وهي التي سقطت حكومتها، وقامت محلها حكومة بسبب الهزيمة التي حلت بهم أن تجهيز مائة ألف جندي لتطبق بهم على "أجدير" بلدة الأمير محمد عبد الكريم، من عدة جهات. وتعد معركة "أنوال "بقيادة الشهيد محمد بن عبد الكريم الخطابي أروع ما أنجزته الريف من بطولات تاريخية، والتي أبهرت الدارسين لتاريخ مقاومة الشعوب للاحتلال العسكري الاستعماري، وأصبحت من بين التجارب الإستراتيجية العالمية في مجال حركة التحرر الوطنية، والتي استفادت منها شخصية مناضلة فذة وهي شخصية تشي غيفارا خصوصا حرب العصابات. عمل الأمير محمد عبد الكريم بعد ذلك على تنظيم الجيش وإزاحة العقبات التي تقف في طريق نموه، ولم تنسه الأعمال الحربية القيام بالإصلاحات التي تحتاجها البلاد، فنظم مالية البلاد التي لم تقع تحت قبضة المستعمر وأصلح فيها الإدارة ونظم التجارة والزراعة، وعنى بحالة الريف الصحية والتعليمية، فاشتهر بأمير الريف وقائده. ولما اشتدت وطأة الأمير عبد الكريم على الأسبان بعد الهزيمة التي ألحقها بهم في آب من عام 1924م، لم يسع الديكتاتور الإسباني "بريمو دي ريفيرا" إلا أن يتولى القيادة العسكرية بنفسه ليعمل على إنقاذ جيشه، وتفاوض مع الفرنسيين لكي يقوموا بنجدته، وأثمرت مفاوضاته معهم، فاتفقت القوتان الفرنسية والإسبانية على محاربة عبد الكريم، وكانت فرنسا أقوى دولة برية في العالم، والجيش الإسباني ثالث الجيوش الأوربية. وفي ربيع عام 1925م بدأ الفرنسيون هجومهم تحت ستار صد هجوم مفتعل، "وكان الفرنسيون يريدون بفتح الجبهة التخفيف عن الأسبان ومساعدتهم، وكان فتح الجبهة مفاجئًا، ولم ينته المجاهدون بعد من القضاء على الأسبان، وكانوا شبه محصورين بين البحر في الشمال، وهو في يد الأسبان والفرنسيين، والأسبان من الشرق والغرب، وثم الفرنسيين من الجنوب". في سنة 1926م أسر محمد عبد الكريم الخطابي إلى جزيرة "رينيون" في المحيط الهندي، شرقي مدغشقر. ولم يتوقف عن نضاله رغم المنفى فقد كان يوجه المقاومة حتى نالت المغرب استقلالها. قضى الأمير محمد عبد الكريم الخطابي عشر سنوات في السر ثم أعلنت فرنسا إطلاق سراحه بشرط أن يعيش هو وأهله في فرنسا، وما إن رست السفينة التي تقلهم إلى ميناء بورسعيد في مصر حتى طلب اللجوء السياسي في مصر، وعاش في مصر وبها توفي عام 1963م. وكغيره من أهل النضال والتحرير أشعل الثورة فأعادته الثورات وما تزال وفاءً وإخلاصا له، ولأن كما قال غيفارا الثورة يجني ثمراتها الانتهازيين فلم يكن نصيب الخطابي منها لا حكما ولا جاها وإنما المنفى والأسر، ويكفيه شرفاً أنه قاوم وناضل ولم يرزح تحت قيد الظلم والاستبداد.