في هذا الحديث نعيش في الماضي والحاضر، نعيش أحداثا بالتلميح أو التصريح حدثت منذ مآت السنين، نتحدث عن أمور أقربها إلينا نبعد عنها مسافة زمانية لا تقل عن مائة سنة، نستحضر أحداثا ولحظات قررت مصيرنا لعشرات السنين، نتكلم عن أشخاص عن أفعال عن ردود أفعال عاش بعضنا أطرافا منها أو عاش قريبا منها، ولكننا جميعا نعيشها ونعيش آثارها فينا في وعينا ولا وعينا، هي حاضرة في تصرفاتنا وليس في تصوراتنا فقط، إنها الزمان الممتد في أعماقنا بل في واقعنا وحاضرنا، نتحدث عن زمان كان لنا، وكانت لنا فيه السيادة نتحدث عن زمان كان الغير يغبطنا، بل كان يحسدنا، بل قاده حسده إلى الحقد والكراهية إن لم يكن في كل الزمان ففي أكثره إن لم يكن في كل الناس فهو في أغلبهم والعدوى تنتقل من البعض إلى البعض، ونتحدث عن زمان نرى فيه الغير يتآمر علينا، بل نتحدث عن زمان شاركناه فيه هذا التآمر، لم لا نكون نحن المتآمرون ان لم يكن هذا التآمر بوعي فهو في نتائجه لا يختلف، العبرة بالنتائج في حياة الناس أما كيف ومتى؟ فهو زمان فيه منعرجات والتواءات يمكن تخطيها أو الوقوع في مزالقها، لا يهم، المهم أن هذا الغير الذي نسكنه ونشكل هما مؤرقا له عاد ليسكننا ويشكل عبئا علينا، وتحديا لمصيرنا، انه القدر، فهو قدرنا، ولم نكن في يوم ما قدره، بل كنا منيرين الطريق لغيرنا هذا اعتقادنا، وهذا ما نظن أننا فعلناه، وعاد هو أيضا ليقول نفس الشيء، فهو هذه المرة هو الذي حمل المشعل المنير فيما يرى ليقودنا إلى ما يراه حضارة وتقدما، ولكنه التقدم الذي يعود بنا إلى الخلف لأن المسافات لا تقطع بتجاهلها، ولكنها المسافات التي تقاس بأدق مقاييس الزمان، حتى ولو كان هذا الزمان يعود في عده ومقايسه إلى أقصى سرعة ممكنة. عن هذا الزمان الذي كان يوما زماننا وكنا نراه طوع إرادتنا نملكه ولا يملكنا نستعمله ولا يستعملنا، إلا أنه زمان ولأمر ما قيل إن الدهر هو الله، لأن الزمان بالفعل مسخر لإرادة الله ككل الأشياء، وإرادة الناس مرتبطة بهذه الإرادة، فنحن كنا في زمان ربطنا مصيرنا بمصير هذه الإرادة وتجنبنا التهلكة، ولكننا في وقت آخر من الزمان الذي تغير ولم يعد ذلك الزمان، فنحن توقفنا والزمان لا يعرف الوقوف، فكل شيء فيه متحرك «وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب». وجاء وقت قلنا فيه إن الزمان لا يرحم فلنتغير مع تغير الزمان فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. عن هذه المحاولة من استعادة روح الزمان في التغيير لتقمصها يحدثنا صاحب كتاب (الإسلام في القرن العشرين)، ولكن عندما نحاول نجد أن هذه المحاولة كأن لم تحدث فما يحيط بهذا العالم الإسلامي اليوم هو ما كان يحيط به منذ عشرات السنين ماذا تغير؟ فمنذ مائة سنة على وجه التقريب والتمثيل شاركنا في حرب من أجل مواكبة الزمان واستعادة الحرية والفعل الحر ولكن كانت اتفاقية ملعونة استكملت بها الدائرة انطباقها فما لم يكن قد احتل احتل وما لم يحتل اختير له الانتداب، وانظر ماذا يجري اليوم فالكل يتحدث عن (سايكس بيكو) جديد ومعناه ان الزمان بالنسبة إلينا لا يتحرك ونحن لا نستفيد من الزمان فالأمر بالاعتبار غير وارد على وعينا ولعل ذلك مرجعه إننا لا نملك البصيرة لأن الاعتبار هو لأولي الأبصار، فنحن مصابون بعمى الألوان، وبصائرنا معطلة، ومع هذا وذاك فالأمل الذي كان لا يزال في أن تتحقق النهضة فمن شعر أنه مقعد مع القدرة على النهوض لابد أنه سينهض لا محالة. والى أن يحدث ذلك فلنعش لحظات مع الماضي الذي يشخص الحاضر ونحن نتحدث عن الإسلام في القرن العشرين.
********* السؤال القديم الجديد اهتم الباحثون والدارسون لأحوال التقدم والتأخر بالنسبة للعالم الإسلامي بدراسة الظاهرة وأسبابها والعوامل التي أدت إليها وكلما اقترب الإنسان من تناول الموضوع يشخص أمامه ما كتبه في الموضوع الأمير شكيب أرسلان حول الظاهرة (لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟) كما اعتاد هؤلاء الباحثون ان تتم المقارنة بين الغرب أو أوروبا، وذلك لأن الثقل الحضاري انتقل إلى أوروبا منذ قرون، وبينما كانت تصعد بعض الدول في الغرب في سلم الرقي والتقدم كان غيرها من بقية الأمم والشعوب في الشرق أو في آسيا وإفريقيا بصفة خاصة أو ما كان يسميه مالك بن نبي: محور طنجة جاكارطا، إما لا يزال على الفطرة والبدائية الأولى أو أصابه ما أصابه من عياء، وما لحق به من التوقف والتقدم. السنن لا تتغير ولاشك أن السنن الكونية التي لا تتبدل ولا تتغير (سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا) هذه السنن لا تحابى ولا تجامل فمن لم يتقدم يتأخر، ولو كان واقفا حيث هو لأن غيره يتقدم ويخطو خطوات إلى الأمام وهكذا كان حال أوروبا تجاه العالم الإسلامي، هذا العالم الذي كان في القديم القريب مثالا في كل شيء وكان هذا الغير –أعني أوروبا- ينظر إلى ما يحدث في عالم الإسلام نظرة انبهار، ولا ننسى ما كان لحضارة الإسلام واللغة العربية التي كانت المعبرة عن هذه الحضارة التي بناها الإسلام على أنقاض حضارات وإمبراطوريات حكمت الدنيا، وتصرفت في أقدار الأمم والشعوب لقرون. الإعجاب والتربص فكان العالم الإسلامي بحكم هذه النقلة التي حدثت نموذجا يثير الإعجاب ويدعو إلى الافتداء ولكنه في ظروف لم تكن مساعدة ولا مواتية نتيجة لتغير سلبي حدث في حياة المسلمين صار هذا الخصم المتربص، والذي كان له ثأر على الإسلام والمسلمين، وما لبث هذا الغرب ان أصبح في مقدمة الركب الإنساني وصار هذا العالم الإسلامي شيئا فشيئا يخلي مكانته لهذا الغرب الذي أصبح وقد تسنم الذروة في ميدان الصناعة والاختراع والتجارة، وكان هذا كله نتيجة لتحول معرفي علمي في هذا الغرب، ولم يكن المسلمون رغم أنهم يشاهدون تقلص نفوذهم شيئا فشيئا في مناطق بنوا فيها حضارات مزدهرة، وأنشأوا فيها عمرانا متميزا، وبدأ ذلك الاسم المخيف في الشرق وفي الغرب لا يعني ما كان يعنيه من قبل من حضارة وقوة ومناعة وإنما أصبح يغري بالمحاولة ثم المحاولة للإجهاز عليه وعلى ما يمثله في ميزان القوة والصراع. المنافسة المفقودة وبعد أن كان هذا العالم الإسلامي مركز الحضارة الإنسانية والتجارة والعلم وكانت حواضره شرقا وغربا مغرية، وتمثل في مخيلات الغير شيئا مذهلا وباعثا على الإعجاب والتقدير وباعثة على التقليد والمحاكاة ان لم تكن المنافسة غير ممكنة، وكان في الأمر كذلك نوع من الحقد الناشئ على الحسد، كيف لهؤلاء الناس الذين لم يكونوا يذكرون بحضارة عظيمة أو حكم واسع وعريض، وإنما كانوا خاضعين ومتقوقعين في جبال ووديان شبه جزيرة قاحلة، ينتقلون فيها في قوافل باحثين على المرعى والكلأ وفقط فيها من الماء ما يكاد يفي بالحاجة لضرورة استمرار الحياة، فكيف بهم اليوم وهم على ما هم عليه، وهذا بطبيعة الحال يتغذى بما كان بعض القساوسة الحاقدين يبثونه في النفوس ضد ديانة أنشأها أحد العناصر الذي تمكن بما لديه من دهاء أن يجعل من الهرطقة والمروق في الدين الحق أن يؤثر في الناس بهذه العقيدة التي استجاب لها الناس في الشرق والغرب بل تفوقت التعاليم الدينية التي جاء بها على ما عداها. الغفلة والتآمر وهكذا التقى الحقد على الدين مع الحقد على العنصر ليكونا دافعا للإجهاز على ما لدى الأقوام من علم وحضارة ومن حكم ونفوذ ولاشك أن الحروب التي عرفتها البلاد الإسلامية في الغرب وبالأخص في الأندلس والتي سميت بحروب الاسترداد، والحروب المشابهة والقوية والمسماة بالحروب الصليبية وما حول هذه الحروب التي تعرضت لها كثير من البلاد الإسلامية شرقا وغربا أفضت في النهاية إلى أن يتمكن الغرب وهو معتمد على عناصر من الناس في ديار الإسلام لم يكن لديهم من الوعي بالمرحلة ما يمكنهم من إدراك أبعاد ومرامي الحملة التي يقودها الغرب الأوروبي على الإسلام والمسلمين في كل مكان. الجهل بالواقع وكان بقية من قوة هنا وكثير من الغرور إن لم يكن الجهل هناك، يدفع الكثيرين إلى السخرية والاستهزاء بما أصبح عليه (الكفار) من قدرة ومكانة، وعندما تقرأ أدبيات القرون الأخيرة مما خلفه المؤرخون المسلمون، وما دونوه من خطب ومخاطبات الحكام والنخبة من العلماء والفقهاء تدرك إلى أي مدى كان هؤلاء الناس بعيدين عن إدراك ما يحيط بهم، وماذا يراد بهم وبأوطانهم وعقيدتهم وتاريخهم وحضارتهم. لقد كانت الغفلة والشعور بالتفوق العقدي الذي لم يعد له دور لأنه لم يعد لتلك العقيدة في الوسط الاجتماعي ما كان لها من اثر فيما قبل وإنما أصبحت كلاما يردد ولا يكاد فعلها يتجاوز الحناجر. تشخيص مؤلم هذه الأوضاع هي التي حاول العقاد أن يشرحها وهو يستعرض حال المسلمين في أواخر القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين وهو يمهد بذلك للحديث عن الإسلام في القرن العشرين وما يكون عليه أمره بعد هذا القرن. ولاشك أن «العقاد» رحمه الله بما يملكه من قدرة في التحليل والإلمام بمجريات الأمور هو اقدر وأجدر بهذا العبء من غيره وهذا ما حدث بالفعل والعقاد قدم محاولة إحصائية للمسلمين أثناء إعداده للكتاب في القارات الثلاث القديمة ليخلص إلى القول وهو يقصد المسلمين فيما يقول وهو يتحدث عن حركة التاريخ وأسباب ودواعي تقدم سكان أوروبا: الإسلام وحركة التاريخ «فهم جميعا بحكم موقعهم من أبناء العالم القديم، يقابلهم سكان أوربا الغربيون الذين نشأت بينهم الحضارة العصرية، ويصدق عليهم وصف الذين نشأت بينهم وبين الأوروبيين المحدثين، فلا يقال عنهم أنهم تقهقروا منتكسين إلى الزمن القديم، وإنما يقال عنهم أنهم وقفوا حيث تقدم غيرهم مع العلم الحديث، ولا ينسى المنصف في هذه المقابلة أن الأوروبيين الذين تقدموا هم الأوروبيون الذين اتصلوا بالإسلام من قريب، وهم أبناء أوروبا الغربية، ثم أبناء أوروبا الذين احتكوا بالإسلام في الحروب الصليبية، ولا نعني أن أسباب التقدم تنحصر في هذه الصلة أو في هذا الاحتكاك، ولكننا نعني أن الإسلام لم يكن قط قوة مهملة في حركة من الحركات الإنسانية سواء نشأت بين ظهرانيه، أو نشأت في مواطن أخرى، وان المؤرخ المحقق لن يستقصي أسبابا للنهضات الإنسانية على اختلافها دون أن يرجع بمرحلة منها إلى نهاية أو إلى بداية في عالم الإسلام. لعنة المحاربة والعقاد وهو يستحضر في وعيه ما لقيه الإسلام ويلاقيه من حرب من لدن الغرب طيلة قرون وما لا يزال يلاقيه أن هذه الحرب لا تكون نتائجها سلبية على أولئك الذين يحاربونه بل لابد أن تصيبهم نتيجة لهذه الحرب والمحاربة ما لم يكونوا يتصورون أنه سيصيبهم فيقول: «وفي هذا السياق ينبغي الالتفات إلى أمر واقع قلما يلتفت إليه المؤرخون من الغربيين أو الشرقيين، وهو أن محاربة الإسلام كانت على الدوام نكبة على محاربيه من المستعمرين، فإن السابقين إلى الشرق من المستعمرين الأوروبيين هم البرتغاليون والأسبان، ولكنهم لم يثبتوا في الشرق طويلا لأنهم ذهبوا إليه بسمعة العداء للإسلام، وكان الأسبان يسمون المسلمين في جزر الهند (بالمورو) متابعة لما عهدوه من تسمية المسلمين بالمراكشيين، وكان البرتغاليون أول من نزل بجزائر السوند الكبرى، وجزائر السوند الصغرى، وما بينهما من الجزائر التي يكثر فيها المسلمون، فلما تنافس البرتغاليون والأسبان وغيرهم من أبناء أوروبا الغربية وأمريكا دارت الدائرة على الأولين لأنهم وجدوا العداء من المسلمين، حيث نزلوا بينهم، وهكذا كان نصيب روسيا في آسيا الشمالية حيث اشتهرت بعداوة الخلافة الإسلامية، فقد كان موقف المسلمين منها في التركستان، ومنشوريا، والصين الشمالية الغربية، عقبة من أقوى العقبات التي رصدت لها في ذلك الطريق». بين الأمس واليوم ان الإنسان عندما ينتهي من قراءة هذه الفقرة التي تقول الكثير والتي اختزل فيها العقاد عشرات السنين من الصراع بين المسلمين والغرب وحتى إذا ظن الغرب أنه انتهى من الإسلام في الأندلس وغيرها من مواقع الإسلام في أوروبا الغربية واتجه إلى الشرق وجد أمامه الإسلام في مواجهة جديدة ولا يمكننا نحن نقرأ هذه الفقرة ان لا نستحضر ما يجري حاليا في الأماكن التي أشار إليها العقاد مع ذكر الدول بالاسم. عقيدة مستعصية والعقاد ينتقل بعد ذلك ليؤكد حقيقة نلمسها اليوم في عالم السياسة وعلى الرقعة الجغرافيا التي يتحرك فيها المخططون للسياسات التي تستهدف الإسلام والمسلمين إذ يحاول هؤلاء أن يقصوا الإسلام ولكنهم في كل مرة يتيقنون لأن العقيدة الدينية التي جاء بها والتي تحرك المسلمين لا يمكن القضاء عليها وهذا ما يؤكده العقاد عندما يقول: «هذه القوة التي لم تسقط يوما من حساب السياسة العالمية ولن تسقط اليوم من هذا الحساب، وقد توضع السياسات الظاهرة والخفية لحربها وإقصائها من الميدان، ولكنها تتغلب على هذه السياسات حين تنقلب الأمور على غير إرادة الساسة والمقدرين، لأن العقيدة الدينية أثبت من برامج السياسة وخططها الظاهرة والخفية، بل هي أثبت من الجغرافية وما يسمونه حديثا بالسياسة الجغرافية، لأن العقيدة الدينية تحول السكان حيث تثبت معالم الأرض ورواسي الجبال». أخطاء المقدرين ونحن نستطرد هذا الاستطراد في مقدمة الكلام على المسلمين في القرن التاسع عشر، لأنه يعيد إلى الأذهان أخطاء المقدرين وأصحاب السياسات قبل مئات السنين، ويجعل هذه الأذهان على استعداد لانتظار أخطاء أخرى من هذا القبيل، قد ينكشف عنها الزمن بعد آن قريب. ثم يتحدث العقاد عن انقسام العالم في القرن التاسع عشر هذا الانقسام الذي يظهر مدى التفاوت الحضاري بين الأمم والشعوب ومكانة الإسلام في هذا الانقسام والاختلاف وما تركه هذا الانقسام على مختلف مرافق الحياة العامة والمعيشية للأمم ويذكر أن واقع أكثرية العالم الإسلامي في هذا القسم الذي تخلق عن الركب فيقول: انقسام العالم «انقسم العالم في بداءة القرن التاسع عشر إلى حضارة حديثة في الغرب، وحضارات قديمة في الأقطار الأسيوية والإفريقية، وكان المسلمون –إلا القليل منهم- في هذه الأقطار. تخلفوا عن ركب الحضارة في الصناعات، والمخترعات، والعلوم الحديثة، وأصابهم هذا التخلف في مرافقهم جميعا ومنها الزراعة، والتجارة التي كان قوامها الأكبر على الملاحة الشراعية، فتراجعت شيئا فشيئا أمام ملاحة البخار، وتراجعت كذلك عن سيادة البحار. ولما تقدمت مرافق الصناعة والتجارة في الغرب تقدمت معها وسائل التنظيم والإدارة، وبقي الشرقيون جميعا، والمسلمون منهم، متخلفين في هذه الوسائل إلى ما قبل نهاية القرن التاسع عشر بقليل». مقدمة الغزو ولاشك أن العقاد الباحث والدارس عندما استعرض خلاصة ما آلت إليه الأحوال في القرن التاسع عشر في العالم الإسلامي سواء في دوله القائمة أو الشعوب المندمجة بين أمم وأقوام أخرى مما جعل الإسلام عرضة للهجوم العنيف والوحشي من لدن القوة الاستعمارية، وليست هذه القوة ممثلة في القرة المادية فقط ولكن العقاد يضع أصبعه على الجيوش الثلاثة التي استعملها الغرب ولا يزال يستعملها. الجيوش الثلاثة ان هذه الجيوش الثلاثة هي التي لا تزال توجه أسلحتها إلى المجتمعات الإسلامية في كل مكان فهي جيوش تلاحق الأفراد والجماعات بل هي تلاحق الدول يطرق وأساليب متعددة، ونجد في كل أزمة من الأزمات التي تتفاعل بين العالم الإسلامي اليوم ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين في كل مكان فالتبشير يلاحقك في كل مكان فعند حدود الدول الإسلامية تجد هذا الإنسان المسخر لخدمة أهداف استعمارية امبريالية يتعرض لك بكتاب "الإنجيل" والحاجة الملحة إلى العلاج أو العمل أو السفر أو غير ذلك كلها وسائل يستعملها هذا المبشر ليحول إنسان أو جماعة عن دينهم خدمة لأهداف هي ابعد ما تكون عن الدين. إن هذه الحالة بكل أبعادها الاستغلال والاستعمار هي المشاكل التي لا تزال قائمة بين المسلمين وغيرهم من القوة المعادية قديما وحديثا يقول العقاد: حملات الغرب الثلاثة «وأصبح العالم الإسلامي في مقدمة الأهداف التي تصوبت إليها حملات الغرب الثلاث، وهي: حملات التبشير، والاستغلال، والاستعمار، ويتقدم التبشير هذه الحملات في ترتيب الزمن لا في الخطر والأثر... فإنه قد بدأ مع الحروب الصليبية حوالي القرن الثاني عشر، وكان في كثير من الأقطار رائدا لحملة الاستغلال وحملة الاستعمار. الدول الثلاث أما العالم الإسلامي من وجهة النظر إلى مركزه السياسي، فقد كان معظمه عند أوائل القرن التاسع عشر في حوزة الدول الأجنبية، ولم يبق فيه من الدول التي كانت على نصيب من الاستقلال في عرف السياسة غير دول ثلاث، وهي: الدولة العثمانية التي سميت بدولة الخلاف من عهد السلطان سليم، والدولة الإيرانية، والدولة الشريفية بالمغرب الأقصى». الوضع الهش ويتحدث العقاد عن الدول الإسلامية التي لا تزال لها قوة ما أو على الأقل حتى إذا لم تكن لها قوة منها وجود قائم تحاول ان تصونه وأن تحول بين الدول الاستعمارية والقضاء على هذا الوجود في عالم الدول الفاعلة والمتحركة على المستوى العالمي ويذكر من بين هذه الدول دول ثلاث وهي الدولة العثمانية والدولة الإيرانية والدولة الشريفة في المغرب الأقصى، ولكن هذه الدول مع ذلك فإن وضعها هش وهكذا يري: «ولم تكن هذه الدول على شيء من الاستقلال في غير الظاهر، لأنها لم تكن تملك من حقوق التصرف في سياستها الداخلية أو الخارجية ما تملكه الدول المستقلة، وأكبرها وأقواها –وهي الدولة العثمانية- كانت عرضة للتدخل الدائم من قبل الدول الكبرى في كل شأن من شئونها، إذ كانت هي محور المسألة الشرقية التي تتلخص في عبارة واحدة، وهي تقسيم بلاد الشرق «أولا» بين روسيا، وفرنسا، وانجلترا، ثم تلحق بهذه الدول كل دولة أثبتت لها وجودا في ميدان الاستعمار أو في ميدان السياسة العالمية على الإجمال، كالنمسا وبروسيا، وإيطاليا واسبانيا». التذكير ويستعرض العقاد أوضاع الدولتين العثمانية والإيرانية والدولة الشريفة في المغرب الأقصى ويكتب عن هذه الدولة ما يراه وافيا بالغرض في وصف أوضاعها ويكتب عن هذه الدولة ما يراه وافيا بالغرض في وصف أوضاعها ونحن نغتنم هذه المناسبة لنذكر القارئ الكريم بهذه الوضعية كما يراها العقاد ولعل رؤيته لا تخرج على الواقع الذي يرسم كل باحث بحال الغرب في لك المرحلة ونرافق العقاد في هذا الوصف الذي يقول فيه في البداية وهو يتحدث عن المغرب باعتبار الهدف الأول للاستعمار. أول هدف كانت مراكش في بداءة عصر الاستعمار أول هدف للمستعمرين لأنها كانت على أقرب نظرة من دول الاستعمار في أوروبا الغربية، وكانت في الزاوية المقابلة لأوربا الغربية تشرف على البحر الأبيض وعلى المحيط الأطلسي فكانت في هذا الموقع مطمع الأنظار أمام فرنسا واسبانيا وانجلترا، ولكن فرنسا لم تتقدم إليها لأنها كانت مشغولة بحروبها في القارة وكانت تعلم أن انجلترا لا تطيق دولة كبيرة على العدوة المقابلة لجبل طارق، واسبانيا وصلت إلى أوائل القرن التاسع عشر وهي تلهث من الأعياء وتكاد بعد تنازع طلاب الملك فيها أن تصبح في عداد المستعمرات الخاضعة لغيرها. حسن الظن ويحسن العقاد الظن بانجلترا فيقول: «أما انجلترا فكان جبل طارق يغنيها في ذلك الموقع عن العدوة الإفريقية وكان همها أن تبقى مراكش في يد أبنائها وفي حوزة حكومة لا تقوى على منازعتها، وكانت وجهتها الأولى أن تحتل البحر الأبيض من شرقه عند مجاز التجارة الهندية فلم تشأ أن تسحب عليها مراكش بدلا كبيرا في سوق المساومات الاستعمارية، واتفق بعد ظهور ألمانيا في ميدان الاستعمار وانتصارها على فرنسا أن المسألة بحذافيرها طرحت على مائدة المؤتمرات الدولية فتفاهمت فرنساوانجلترا على التعاون المشترك في قضيتي مراكش ومصر واستقر الرأي على تقسيم مراكش بين فرنسا واسبانيا والمنطقة الدولية. دعم المقاومة ويذكر العقاد ما يتميز به الغرب من القوة والمناعة في بداية القرن العشرين ويذكر الدور الذي قام به المغرب في مقاومة الاستعمار الفرنسي بالجزائر ودعم المقاومة الجزائرية في ذلك العهد: وقد بدأ القرن التاسع عشر ومراكش على شيء من القوة بالقياس إلى بلاد افريقية الشمالية، فتصدى زعماؤها لمقاومة الفرنسيين بالجزائر بعد أن سلمت الدولة العثمانية بمركز الفرنسيين فيها وزحف الجيش المراكشي إلى تلمسان مستثيرا قبائل العرب والبربر في طريقه واستطاع «أبو معزة» المراكشي أن يقتحم الجزائر بعد احتلالها بخمس سنوات ولم يتمكن القائد الفرنسي من مقاومته إلا بنجدة قوية جاءته من فرنسا. ضريبة الدعم ويذكر العقاد ما أدت إليه المساندة الغربية للمقاومة في الجزائر من اندفاع فرنسا نحو الغرب وموقعة اسلي التي حدثت في سنة 1944 والتي انهزم فيها الجيش المغربي ويذكر العقاد ما ترتب عن ذلك من شعور السلطات المغربية بحاجتها إلى إصلاح أوضاع الجيش وتنظيمه ليقدر على الدفاع عن الأرض وعن الاستقلال والوحدة ويذكر بصفة خاصة ما قام به الحسن الأول في صيانة المغرب والمحاولة القوية والجادة للدفع بأوضاع البلاد نحو الرقي والتقدم وما تعرضت له محاولاته من محاربة لدى الدول الغربية والاستعمارية فيقول: الحسن الأول ولكن سكان مراكش لم ينقطع عن مناوشة فرنسا بعد هزيمة أبي معزة وأسره إلى أن تلاقى الجيش المحتل وجيش السلطان في سنة 1844 فمنيت جيوش السلطان بهزيمة منكرة اضطربت لها جوانب المغرب ونبهتها من غفلتها فنهضت لإصلاح الجيش وتثمير المرافق الوطنية، ووافق ذلك قيام السلطان «مولاي الحسن» بالملك –وهو من أقدر سلاطين المغرب- فأحسن التصرف في مواجهة الدول المستعمرة والاستفادة من تنافسها وتنازعها، وأدخل الأساليب العصرية على دواوين الحكومة ومعامل الصناعة ومدارس التعليم وأكثر من إيفاد البعثات إلى جامعات الغرب لتخريج الخبراء في الشئون الفنية والعسكرية. فضائح الاستعمار لينتقل عن الحديث على ما اسماه الفضائح الاستعمارية والتي قامت بوسائل شتى لصد السياسة التي انتهجها الحسن الأول والهادفة إلى تقوية أواصر العلاقات بين المغرب والدول العثمانية ويركز ذلك في جمل قوية قائلا: ومن فضائح الاستعمار أن الدول الموقعة على معاهدة مدريد احتجت عليه حين اتصل بالآستانة لمثل هذا الغرض واعتبرت ذلك منه اشتراكا في حركة دينية معادية لا تنظر إليها بعين الارتياح والاطمئنان، واستنكرت تجديد العلاقة بين حكومة الآستانة وحكومة طنجة والتمهيد لتبادل السفارات بينهما لأنه يغير الوضع السياسي الذي اتفقت تلك الدول على أن تلاحظ فيه بقاء الحالة الراهنة. الظروف المواتية ويتحدث العقاد عن تآمر الدول الاستعمارية وعن الاتفاق الودي بين فرنساوانجلترا وغيره من الاتفاقات والمناورات التي حيكت حول الغرب والدور الذي لعبه ضعف الحكم في المغرب بعد وفاة الحسن الأول فيقول: ولم ينته القرن التاسع عشر حتى كانت دول الاستعمار في موقف يسمح لها بالتفاهم على هذه القضية العسيرة. فبريطانيا تحسب حساب اليقظة الوطنية في مصر فتجنح إلى مسالمة فرنسا، وفرنسا تسترضي ايطاليا وتعدها بالاغضاء عن مطامعها في ليبيا، والنمسا تطمح في بلاد البشناق من تراث الدولة العثمانية، وألمانيا تعلم أن الحرب العالمية تحول دون وصولها إلى مقام في المغرب الأقصى لمعارضة انجلتراوفرنسا وترضى بنصيبها في الكونغو وبلاد التوجو من القارة الإفريقية. ويتحدث العقاد عن مرحلة ما بعد الحسن الأول وما كان عليه الأمر في العهد العزيز وانعقاد مؤتمر الجزيرة ليخلص إلى القول: «وشبت الثورة الوطنية على اثر مؤتمر الجزيرة لعجز السلطان واسترساله في لهوه وإسراعه إلى إقرار الوضع الجديد في بلاده، فبويع السلطان عبد الحفيظ بعده وتعهد قبل مبايعته بمقاومة السيطرة الأجنبية وإعلان الاحتجاج على قرارات مؤتمر الجزيرة، فتعلل الفرنسيون بهذه المقاومة للعهود الدولية وأغاروا على العاصمة وأعلنوا الحماية، فكان إعلانها في تلك الآونة (1912) أول خطوة من الخطوات الحثيثة التي دفعت بالعالم إلى الحرب العالمية الأولى، ثم انطلقت يد فرنسا بعدها في شمال افريقية بغير معارضة من الدول المنهزمة التي كانت تحول بينها وبين التبسط في مطامع الاستعمار.
وهكذا تطورت الحوادث بالدول الإسلامية المستقلة خلال القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين.