ما يحدث في عالم الإسلام اليوم وفي كل لحظة يدفع المتتبع إلى محاولة استقصاء الأسباب والدواعي التي كانت ولا تزال تكمن وراء الحملة العنيفة والمتعددة الأبعاد التي يعيشها المسلمون والإسلام في وطن الإسلام والمسلمين. إن الاختلاف بين الناس في الرأي والتوجه ليس شيئا جديدا لا بين المسلمين فيما بينهم ولا بينهم وبين غيرهم، فهذا أمر طبعي اعتاده الناس في تاريخ الإسلام والمسلمين منذ البداية بل إن القرآن أكد على ذلك عندما قال سبحانه: «ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك». ولهذا إن الذي يثير النفس ويبعثها على القلق هو الخروج من دائرة الاختلاف الطبعي والمقبول إلى الخلاف الذي يؤدي إلى التقاتل وإزهاق الأرواح والإتيان على الأخضر واليابس، وبالأخص عندما يكون ما يحصل بين المسلمين مبعثه ما يتصارع عليه غيرهم من الدول والشعوب التي تنتظر الفرصة المواتية للإجهاز على ديار وأوطان المسلمين والإسلام، كانوا في هذا الصف أو ذاك فيكفي أن تكون الدولة يقطنها مسلمون ولو جغرافيا لتكون موضع الحذر والخوف الذي ينتقل فيما بعد إلى مرحلة الحرب والتصفية. إن الناس اليوم مثلا تتحدث عن جزيرة (القرم) وما يحدث فيها بين الروس والأوكرانيين ولكن الدول الإسلامية لا وجود لها في هذا الصراع لتدافع عن حق المسلمين التتر والذين هم السكان الأصليون الذين عانوا من (حكم القياصرة الروس) ثم من (حكم السوفيات) الذي قام "اسطالين" بترحيلهم وإخراجهم من ديارهم، وها هم اليوم مرة أخرى عرضة لمحنة جديدة نتيجة للخلاف الدائر بين الدول الكبرى حماية لمصالحها. وكأن المسلمين الذين هم من سكان هذه الجزيرة لا يوجد من يدافع عنهم رغم وجود حوالي خمسين دولة في منظمة التعاون الإسلامي، إذ الكل مرتبط مع طرف من أطراف الصراع ليعزز موقفه اتجاه ما يعانيه في بلاده من صراعات وخلافات. هذا الواقع هو ما كان موجودا في مراحل معينة من تاريخ المسلمين وأفضى إلى سقوط كل المسلمين في براثين الحكم الأجنبي، هذه المرحلة الشبيهة بتلك المرحلة هو ما نواكبه مع العقاد في كتابه (عن الإسلام في القرن العشرين). ********** من المحرك؟ من المحرك الأساس لبناء الحضارات وبناء الدول؟ انه السؤال الذي انطلق وينطلق منه الكثير من الباحثين والدارسين لتاريخ الحضارات وأسباب نشوئها، أو اضمحلالها، وقد تعددت الإجابات عن هذا السؤال بتعدد الرؤى والخلفيات الفكرية التي ينطلق منها المؤرخون والباحثون، أو إن شئت الدقة، قلت أصحاب فلسفة الحضارات الذين يتعمقون التعمق الكبير في هذا الموضوع الذي استأثر باهتمام الناس بصفة خاصة في القرنين الأخيرين عندما بدأ الناس يتخذون موقفا شديد المعارضة للعقائد الدينية وأثرها في حياة الأمم والشعوب، وقيام حضارتها وانهيارها وهكذا بدأ الناس في هذا القرنين الأخيرين وما حدث قبلهما من الصراع منذ ما اصطلح عليه ببداية النهضة الأوروبية حيث اشتد الصراع بين المتعصبين لنظرية المسيحية وما جاء في الأناجيل والتوراة. صراع التأويلات ففي البدء كانت الكلمة تلك كانت البداية وما جاء بعد ذلك إنما هو فرع أو غصن من هذه الشجرة التي انطلق منها كل شيء، ولاشك أن الكلمة نفسها لم تكن محددة المعالم بما يكفي عند أصحابها، بل هي مشوبة بكثير من التأويلات والأقاويل التي لم تستطع أن تصمد أمام النقد والتمحيص، وأمام ما اكتسبه العقل الإنساني من خبرات وتجارب وما استمده من فكر من سبق من المفكرين والفلاسفة الذين كانوا يعلون العقل ويسمون به إلى درجة لم تكن التأويلات والأقاويل المبنية على ما جاء من أخبار وما ألحق بتاريخ الديانة اليهودية والنصرانية مما هو من خيالات الأحبار والرهبان الذين من بينهم الكثير ممن لا يفهمون الفهم المستقيم مما هو صحيح من أقاويل التوراة والأناجيل. بين ما هو سماوي وغيره وهذه في الواقع لا تساعد على الرد ويكفي أن تكون الأناجيل نفسها بالجمع وأن تكون التوراة نفسها فيها ما هو من وضع الناس ما هو مما بقي من وحي السماء، وعلى أي حال فإن هذا الصراع الذي كان بمقتضاه ما كان مسلما موضوع تساؤل إن لم يكن موضوع نكران وجحود وأصبح ما كان منكرا ويساق الناس بسببه إلى المحارق وساحات الإعدام لأن محاكم التفتيش التي نصبت لمحاكمة الضمائر والنوايا، وأحرى ما تراه هرطقة وخروجا عن الدين. لا عقلانية لا نريد هنا أن نعود إلى ما كتبه الكثيرون ومالا يزال الناس يتوسعون في تفاصيله ولكن فقط كانت هذه الإشارة لما سبق أن قدمناه من أن القرنين الأخيرين كانا استثمارا لما خلصت إليه فلسفة النهضة ومنهاجها النقدي لما اعتبرته لا عقلانيا في الكتب الدينية سواء الأساس منها أو ما نتج عنها من شروحات وتأويلات. العامل الأول وهكذا وجدنا في هذا السياق نشوء ما اعتبره البعض المؤسس الأول للحضارات وهو المحرك الذي لا محرك غيره للتاريخ ويعني ذلك العامل الاقتصادي فكل شيء منشأه هذا الواقع الاقتصادي الذي يعيشه الناس أو شيء لهم أن يعيشوه، والعقائد نفسها والأفكار إنما هي وليدة هذا العامل المتفاعل مع نفسه وما يترتب على هذا التفاعل، ومن تم كان نكران العقائد والأديان ليشأ هذا الدين الجديد الذي يسمونه التفسير المادي للتاريخ لتتضافر مقولتا المادية الجدلية والمادية التاريخية لإزاحة ما عداهما وما يسمحان به من تأويل وتفسير وطال النقاش واستطال ليتدخل توجه آخر أو تيارا في هذا الموضوع ليرد الأشياء إلى الغرائز الدنيا أو إلى غريزة واحدة واحدة وهكذا أو لعله لا يزال لدى البعض، ولكن الناس بعد الصراع وطول التجربة والمراس كانت النتيجة توارى هذه المقولات في واقع الناس اليوم وأن وجدت فعلى استحياء، وقد تحدثنا في الحديث الأخير عن مصير هذه التوجهات في حياة الناس وبصفة خاصة في الواقع الاجتماعي وكانت مقارنة العقاد ونقده لها في وقت العنفوان والاندفاع الايديلوجي الأعمى ميزة لهذا الإنسان الذي استطاع أن يثبت عكس ما يدعيه أولئك في حينه، وان يكتب كذلك أكثر من ذلك حول المؤثر الأساس الذي كان محركا في الواقع للناس فتجاوبوا معه فكانت الحضارات وكان ذلك الصراع الهائل بين مؤمنين بعقيدة معينة والكافرين بها والرافضين لها وما عمله للناس من خير وفضل. دين جديد بل إن العقيدة المادية نفسها أعطت الحجة لهذا التوجه لأن العشرات من الألوف والمآت الذين ناضلوا واستماتوا في سبيل هذه العقيدة المادية اثبتوا لمقولة إن أساس الحضارات هو العقائد والشرائع المنبثقة منها، وهذه الفكرة المحورية في كتابات العقاد هي ما نحاول اليوم أن نعايشه فيه وهو يتحدث عن الإسلام في القرن العشرين. ولم يكن العقاد وحده في هذا التوجه فنحن نجد هذا المنحى عند أكبر مؤرخي الحضارات في القرن العشرين وهو تويني، ففي حوار بين هذا المؤرخ الكبير وفيلسوف ياباني يدعى (دايساكو اكيدا) يخلصان في حوارهما حول التحديات الكبرى الحياة والدين والدولة والدولة يخلص تويني في إحدى الفقرات إلى القول: توينبي: أعتقد أن أسلوب الحضارة إنما هو التعبير عن ديانتها. وأوافق كل الموافقة على أن الدين كان مصدر الحيوية التي أدت إلى وجود الحضارة وحافظت على وجودها –خلال أكثر من ثلاثة آلاف سنة في حالتي مصر الفرعونية والصين منذ قيام ال «شانغ» shang حتى سقوط ال «تشينغ» Ch'ing سنة 1912. وقد نشأت أقدم الحضارات على الأراضي ذات الإمكانية الخصبة في مصر والعراق الجنوبية الشرقية. ولكن هذه الأراضي كان لابد من جعلها إنتاجية بتصريف المياه والسقاية على نطاق واسع، وكان تحويل البيئة الطبيعية الوعرة إلى بيئة اصطناعية واعدة يجب أن يحققه الجهد المنظم لجماهير الشعب العاملة من أجل عائدات بعيدة. وهذا يتضمن بروز القيادة والاستعداد واسع الانتشار لإتباع توجيهات القائد. ولا محالة أن الحيوية الاجتماعية والتوافقية اللتين جعلتا هذا التعاون ممكنا قد نشأتا من الإيمان الديني الذي يشترك فيه المقودون مع القواد. ولابد أن هذا الإيمان كان القوة الروحية التي جعلت بالإمكان انجاز الأعمال الاقتصادية الأساسية العامة التي أنتجت الفائض الاقتصادي. وكانت الآفتان الاجتماعيتان الموجودتان منذ البداية في الحضارات هما الحرب والظلم الاجتماعي. وكان الدين هو القوة الروحية التي جعلت كل مجتمع متحضر يتماسك زمنا على رغم هذين المرضين المهلكين اللذين سببا استنزاف حيويته. والعقاد يستعرض الأسباب التي يراها المؤرخون والباحثون أنها أساس ما عرفته الدعوة الإسلامية من نجاح في بداية أمرها وما سهل للإسلام أن ينتشر بين الناس بالشكل الذي انتشر به فهو من طبيعة الحال يستبعد ما يدعيه البعض من أن الإسلام انتشر بالسيف ويرى أن ذلك أمر لا يثبت على رغم كل ما يدعيه المدعون. من وضع الكتاب ولكن قبل ذلك نرى ضرورة اقتباس جديد في المدخل الذي وضعه العقاد لكتابه يقول: قوة غالبة وإذا كان الأمر كذلك وان الإسلام استطاع ان يهزم دولتين عظيمتين في وقت وجيز وهما دولة الفرس ودولة بيزنطة فإن سر ذلك يرجع فيما يرى العقاد وفيما يرى غيره من الباحثين إنما هو راجع إلى العقيدة يقول العقاد: العقيدة المتميزة فلا مناص إذن من الرجوع بها إلى السبب الذي اتفق عليه المؤرخون أو كادوا بعد التعلل لها بجميع الأسباب. فلا مناص إذن من الرجوع بها إلى العقيدة التي حفزت أولئك المجاهدين على اختلاف الأقوام والأزمان. غير أن الرجوع بها إلى العقيدة لا يختم المطاف ولا يغني عن مزية في هذه العقيدة تمتاز بها بين العقائد الكثيرة التي سبقتها أو لحقت بها ولم تنبعث منها قوة كهذه القوة ولا ظاهرة كهذه الظاهرة بعد تجريدها من العوامل الأخرى. فما كانت جيوش الروح ولا جيوش الفرس خلوا من عقيدة يؤمنون بها ويقبلون على الموت في سبيلها، وما كانت قبائل الهند أو آسيا الوسطى تجهل الدين أو تهمله في معيشتها اليومية فضلا عن المراسم التي تصحب المتدين من مولده ولا تفارقه مدى الحياة. أيقال أنها دفعة الدين الجديد ميزت عقيدة الإسلام على سائر العقائد في ذلك التنازع بين الدول والأديان؟ دفعة الدين الجديد وإذا كانت العقيدة من حيث هي يمكن أن تكون صحيحة وفاسدة ويضحي الناس من أجلها فإن ميزة العقيدة الإسلامية هي ما يحمله الدين الجديد إلى الناس. إن دفعة الدين الجديد ولاشك سبب لا يهمل في هذا المقام، وقد يسبق إلى الخاطر لتفسير قوة الدعوة في القرن السابع للميلاد وفي القرن الثاني عشر يوم كان القائمون بالدعوة في آسيا الوسطى أقواما من الأفغان والترك دخلوا حديثا في الدين. لكن كم من عقيدة جديدة صنعت مثل هذا الصنيع؟ وكم ظاهرة كهذه الظاهرة تكررت في تواريخ الدول والأديان؟ أسئلة؟ إنها أسئلة يطرحها العقاد وهو يعرف جوابها، ويعرفه كل من تتبع تاريخ العقائد والأديان، ولكن في الإسلام أمر آخر هو ما سيبينه العقاد فالإسلام عقيدته في نظره تارة تكون عقيدة عالية وتارة تكون عقيدة صامدة وذلك لأنه يرى وهو يستعرض الإسلام في القرن العشرين الفوارق الموجود بين تاريخين للإسلام دعوته، ذلك التاريخ الذي تمكن فيه الإسلام ودعوته في وقت قياسي أن ينتصر وتكتسح دولا وأقواما وكأنها إعصار في حين أن هؤلاء المسلمين من موازين القوة المادية لم يكونوا يتميزون عن غيرهم من الدول والقبائل والشعوب التي دانت لهم واستسلمت لقوتهم. حوار وأهداف ولعل الحوار الذي جرى بين القواد المسلمين في فتح الفرس وقبل موقعة القادسية تفسر هذا الذي يحار فيه الناس لقد استصغر القائد الفارسي حال هؤلاء العرب وما هم عليه من الفقر والسباطة، ولكنه عندما تكلم القائد العربي أوضح المحرك الأساس وما كان يسعى إليه، ويروم إشاعته بين الناس فهؤلاء جاءوا لينتقذوا الناس من عبادة العباد والملوك والأسياد إلى عبادة الله الواحد الأحد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعتها إنها العقيدة وهي ما يعبر عنه العقاد بالعقيدة الغالية. وترجمها إلى قوة عالية ولكنه يعود ليتحدث وهو بصدد الكلام عن الإسلام في القرن العشرين الذي تحول من القوة الغالية إلى القوة الصامدة هذه القوة التي ستثبت للناس أنها بقدر ما هو قوة عالية وبهرت الناس ستبهرهم كذلك وهي قوة صامدة يقول العقاد: قوة صامدة إن العقيدة الإسلامية لم تكن قوة غالبة وحسب في إبان النشأة والظهور، ولكنها كانت قوة صامدة بعد مئات السنين، ولابد من تفسير لهذه القوة الصامدة كما لابد من تفسير لتلك القوة الغالبة. فان القوة التي تصمد كالقوة التي تغلب في حاجتهما إلى التفسير، أو لعل القوة التي تصمد أولى بالتفسير من القوة الغالبة، لأنها تدافع فتقوى على الدفاع حيث لا عدة عنها للغلبة في معترك الصدام والصراع. الشدة والضعف والعقاد لا يترك الأمور دون توضيح فهو يريد من خلال هذا المدخل النظري أن يبين لماذا يقاوم ويصارع الإسلام الغزاة في مختلف مراحل التاريخ ولكن في القرن العشرين والتاسع عشر قبله فإن الأمر أشد من ذي قبل ويقول العقاد: وصمود القوة الإسلامية في أحوال الضعف عجيب كانتصارها في أحوال الشدة والسطوة، ولاسيما الصمود بعد أكثر من عشرة قرون. حالة الوهن ولقد تداولت الدول بقاع الأرض من القرن السابع للميلاد إلى العشرين: قامت دول إسلامية ثم انهارت أمام المنافسين من أبناء الأديان الأخرى، وحدث في فترة من الزمن خروج المسلمين من أوروبا الغربية ودخولهم إلى أوروبا الشرقية، ودالت دولة دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة وقامت دولة الآستانة أو اسلامبول، ثم ظلت هذه الدولة وحدها كفؤا للدول الأوروبية مجتمعات أو متفرقات حتى تداعت أركانها وتصدع بنيانها وبقيت قائمة لاختلاف الطامعين في ميراثها على تقسيمها. ويتحدث العقاد إجمالا عن سقوط الدول الإسلامية الواحدة تلو الأخرى. وتلاحقت الضربات على البلاد الإسلامية بين هزيمة واضطهاد وتمزيق وتفريق حتى تمكن منها المستعمرون فلم تبق منها واحدة تنعم بقسط من حرية الحكم وسيادة الاستقلال، ومن كان منها مستقلا كالدولة العثمانية أو الدولة الإيرانية أو الدولة الحسينية بالمغرب الأقصى كان افتيات المستعمرين على حقوقها أشد وأقسى من افتياتهم على البلاد التي فقدت حريتها واستقلالها، وانقضى القرن التاسع عشر كله والأمم الإسلامية مخذولة متخاذلة والدول المستعمرة غالبة متحكمة، وخيل إلى الناظرين أن الحاضر والمستقبل جميعا للاستعمار، وأنه قد جمع القوة والعلم والحضارة فلا نجاة من قبضته للذين حرموا القوة والعلم والحضارة وأصبحوا في كل منها عالة على المستعمرين. ثم انتهى القرن التاسع عشر فكيف رأى الناس منتهاه؟ ويتحدث العقاد عن تراجع الاستعمار فيقول: الاستعمار يتراجع ولا يظفر بغناء من سلطان المال والعلم والسلاح. والإسلام تبرز له دولتان في آسيا عداد المسلمين في كل منهما يزيد على سبعين مليونا، وهما دولتان أندونيسية والباكستان.. وسائر الدول في آسيا وافريقية تقترب من الحرية وتبتعد من ربقة العبودية، وهذه هي قوة الصمود بعد أربعة عشر قرنا من الدعوة المحمدية، لا ينظر المؤرخ في أطوارها على تعدد ظواهرها وأدوارها إلا وجب عليه أن يفترض لها سرا عجيبا لا تنتظر الغلبة على دولتي العالم في مدى خمس سنوات. إن قوة الصمود هنا لعجيبة كقوة الغلبة هناك، ولعلها –كما قدمنا- أعجب من قوة الغلبة، لأنها تملك الدفاع النافع ولا مال لديها ولا سلاح ولا علم ولا معرفة، لا بل تملك الدفاع ولا اتفاق بينها على الدفاع. تداول الصراع وينتقل العقاد للحديث عن صراع الدول ليؤكد أن العقيدة الإسلامية ماضية في مقاومتها وصمودها. وندع الصراع في مجال الدول المتداولة بين السطوة والخضوع وبين النصر والهزيمة، فإن قوة العقيدة الإسلامية قد سرت مسراها في أرجاء العالم بمعزل عن حروب الدول وسياساتها وعن عروش العواهل وتيجانها، وفي افريقية اليوم مائة مليون مسلم لا شأن في إسلامهم لدولة أو سياسة، وقريب منه هذا العدد مسلمون في السومطرة وبلاد الجاوة، وقريب منه في الباكستان، وقد يكون في الصين وما جاورها عدة كهذه العدة من الملايين. عقيدة تفتح القلوب العقيدة تفتح الآفاق لنفسها دون مساعدة الحاكمين ودولهم حيث اعتنقت شعوب كثيرة الإسلام عن طواعية واقتناع. وهؤلاء جميعا سرت فيهم عقيدة الإسلام بمعزل عن حروب الدول وسياساتها وعن عروش العواهل وتيجانها، أو كان للدول والسياسات شأن في إسلامهم من بعيد متقطع غير موصول ولا مقصود، ولعله لو انحصر الأمر فيه لا يكفي لا سلام عدة من الناس تحسب بالألوف والمئات، ولا ترتفع إلى عشرات الملايين فضلا عن مئات الملايين، ولو حسب جهاد المجاهدين في سبيل إسلامهم بعد الرءوس التي سقطت في ميدان القتال، لكان الرأس الواحد هنا عدلا في كفة الميزان الأخرى لمئات الألوف. الشمول الخفي وعن شمول العقيدة يتحدث العقاد معتبرا أن هذا الشمول لا يظهر للكثيرين. يبدر إلى الذهن أن الشمول الذي امتازت به العقيدة الإسلامية صفة خفية عميقة لا تظهر للناظر من قريب ولابد لإظهارها من بحث عويص في قواعد الدين وأسرار الكتاب وفرائض المعاملات، فليست هي مما يراه الناظر الوثني أو الناظر البدوي لأول وهلة قبل أن يطلع على حقائق الديانة ويتعمق في الاطلاع. ومن المحقق أن إدراك الشمول من الوجهة العلمية لا يتأتى بغير الدراسة الوافية والمقارنة المتغلغلة في وجوه الاتفاق ووجوه الاختلاف بين الديانات، وبخاصة في شعائرها ومراسمها التي يتلاقى عليها المؤمنون في بيئاتهم الاجتماعية. استقلال العبادة ولكن الناظر القريب قد يدرك شمول العقيدة الإسلامية من مراقبة أحوال المسلم في معيشته وعبادته، ويكفي أن يرى المسلم مستقلا بعبادته عن الهيكل والصنم والأيقونة والوثن ليعلم أنه وحدة كاملة في دينه ويعلم من ثم كل ما يرغبه في ذلك الدين أيام أن كان الدين كله حكرا للكاهن ووقفا على المعبد وعالة على الشعائر والمراسم مدى الحياة. دولة الكهانة الإسلام يقاوم الوثنية الخفية والظاهرة كما يقاوم الجمود الذي لدى بعض الناس. لقد ظهر الإسلام في أبان دولة الكهانة والمراسم، وواجه أناسا من الوثنيين أو من أهل الكتاب الذين صارت بهم تقاليد الجمود إلى حالة كحالة الوثنية في تعظيم الصور والتماثيل والتعويل على المعبد والكاهن في كل كبيرة أو صغيرة من شعائر العبادة، ولاح للناس في القرن السابع للميلاد خاصة أن «المتدين» قطعة من المعبد لا تتم على انفرادها ولا تحسب لها ديانة أو شفاعة بمعزل عنه، فالدين كله في المعبد عند الكاهن، والمتدينون جميعا قطع متفرقة لا تستقل يوما بقوام الحياة الروحية ولا تزال معيشتها الخاصة والعامة تثوب إلى المعبد لتتزود منه شيئا تتم به عقيدتها ولا تستغني عنه مدى الحياة.